|
الأخطل الصغير و دماء الورد !
حيدر سالم
الحوار المتمدن-العدد: 5725 - 2017 / 12 / 12 - 22:56
المحور:
الادب والفن
لحّن محمد عبد الوهاب عام 1936 قصيدة للشاعر اللبناني بشارة الخوري ، هي قصيدة " الصبا و الجمال " التي أداها بعذوبة منقطعة ، سأحاول أن لا أقع في شراك عبد الوهاب ، و أن لا أجر خلفه فأنا من مريديه ، و سأترك الحديث عن جمال اللحن بغية أن تشربه أرواحكم فلست أفرض عليكم ولهي بعبد الوهاب ، و لكنني أود القول إن عبد الوهاب قد رفع راية تجديده في تلحين القصيدة العربية منذ " يا جارة الوادي " وهو يحمل القصيدة لمناطق لحنية لم تألفها ، و ها هو يداعب مشاعرنا من خلال " الصبا و الجمال " في لحن لا يخرج إلا من بين أصابعه و أيضا إستعماله لآلة البيانو ، فهل سمعتم قصيدة مغناة قبل " الصبا و الجمال " أُستعمل فيها آلة البيانو ؟ لنهرب الآن من شباك عبد الوهاب الساحرة الى بشارة الخوري ، يبدء عبد الوهاب مترنماً ، و يبدي إعجابه مع الشاعر بجمال تلك الفتاة الفريد ، فإن " الصبا و الجمال ملك " يديها ، و حينما " نَصَبَ الحُسْـنُ عَرْشَـهُ " إنتجبها لهذا المقام ، و يأخذنا نهر حنينه داخل موجة وداعة ، نتهادى فوقها ، يموسقنا صوت عبد الوهاب و نعومة الأخطل الصغير ، لكننا سرعان ما نهرع ، و نستيقظ من حلم وديع ، و إني ليطيب لي أن أُبرأ عبد الوهاب من هذا ، فالرجل حاول جاهداً أن ينغّمنا معه ، حتى أيقظنا الأستاذ بشارة من ثمالة كنا ننعم بها في هذا البيت : سَكِـرَ الرَّوضُ سَكْـرَةً صَرَعَتْه ُ عِنْدَ مَجْرَى العَبِيـر مِنْ نَهـْدَيْكِ لماذا بعد هذه السكرة اللذيذة كلمة " صرعته " ؟ ، بعد تلك الابيات الغزلية تأتي لنا هذه الكلمة المُفزعة ، فصرعه أي أهلكه ، و صرع الرجل عدوه أي أرداه قتيلا ، و في أقل وطأتها طرحه أرضا ، و إنها لكلمة تلبّسها المرض ، فهي تحيل ذاكرتنا بالضرورة الى مرض " الصرع " كفاكم الله شره ، لكن تعالوا نمضي الان لعل كلمة العبير تهدهد الروع و تنسينا جذورها المهلكة و أيحاءها للمرض ، و لننساب مع صوت عبد الوهاب . لكن للأسف ، ما أن نصحو من سكرةٍ تصرع الروض حتى نجدنا إزاء المصرع الآخر ، و لا نعرف هل الشاعر أسقط قتله على الورد أم إن الورد هو من قرر الإنتحار : قَتَلَ الوَرْدُ نَفْسَـهُ حَسَداً مِنْـك ِ وَألْقَـى دِمَـاهُ فِـي وَجْنَتَيْـكِ ياللحسرة ، إن الحمرة التي تسكن في خديها ما هي إلا دماء الورد الذي قتل نفسه من الحسد ، و لم ينتشله هذا من حسرته ، بل دفعه الحسد لرش دماءه على الوجنتين ، ساعد الله قلبه . ثمة فجوة عميقة بين المشاعر الرقيقة التي يحاول الشاعر العربي تتبعها و بين ما يمليه عليه موروثه الجاف ، ذو المشاعر الصلدة ، إضافة لصورة الموت التي تشغلنا و نمضي خلفها نعبر من خلالها عن مشاعرنا ، حتى لوكنا نُنْشد للحب ، فالشاعر العربي يفاخر بالقتل و تقطيع الاوصال ، حيث تدسّ الصحراء قساوتها في نفسه ، و تملئها بالقحط ، و تبخل عليه بأن يفكر في مشاعره ، فالمتنبي يصارحنا بأنه : وَما كنتُ ممّنْ يَدْخُلُ العِشْقُ قلبَه وَلكِنّ مَن يُبصِرْ جفونَكِ يَعشَقِ إذاً لم يكن المتنبي يسمح بدخول العشق لقلبه ، لكن مشيئة الله كانت في صالحنا لنستمتع بقريحته الاستثنائية ، و بعد قطيعة يرضخ أبو الطيب لتلك الجفون الأخّاذة . تبقى مخيلة الشاعر العربي زاخرة بموروثها الصحراوي ، و تفاخرها الفروسي ، فلقد كان الشعر من صفات الفارس ، حتى إنه يذكر في الاخبار ، أن شقيق عبلة كان يغار من عنترة لأنه فشل بأن يكون شاعرا حينما أرسله ابوه عند أهل أمه لينصقل كفارس صلب متكامل . و إن ذلك المشهد الذي رآه عنترة حينما لمعت السيوف ، لا يخلو من عنفوان ، فلماذا يتحول ثغر عبلة لبريق السيوف ؟ لكننا لا نريد أن نحاكم الشعراء هنا ، لأن هذه بيئتهم التي يغرفون منها ، بل نود أن نتسائل ، هل ما نستخدمه في الغزل ما هو الا ذلك العنف الذي رفدنا به محيطنا ، و واقعنا الذي نعرفه ؟ فهل نبرّأ الاخطل أيضا ؟ لكن الشعر العربي لا يدور في هذه المنطقة المتحجرة فقط ، بل إنه يزخر بالجمال أيضا ، فمثلا يقول الاخطل الصغير : نم أن قلبي فوق مهدك كلما ذكر الهوى صلى عليك وسلما نم فالملائكة عيناها يقظى فذا يرعاك مبتسما” وذا مترنما و صاحبنا عنترة يخاطب عبلة ذات الثغر الذي يشبه بريقه لمعان السيف بعذوبة هنا : بَرْدُ نَسيم الحجاز في السَّحَرِ إذا أتاني بريحهِ العطِر ِ ألذُ عندي مما حوتهُ يدي من اللآلئ والمال والبدَر ومِلْكُ كِسْرَى لا أَشتَهيه إذا ما غابَ وجهُ الحبيبِ عن النّظر و نطالع المتنبي وهو يقول بيتا لا يماثله في عذوبته لا قبله و لا بعده ( هذا تعصبي للمتنبي تجاوزوه بفضل منكم أو تقاسموه معي ) : وَفَتّانَةَ العَيْنَينِ قَتّالَةَ الهَوَى إذا نَفَحَتْ شَيْخاً رَوَائِحُها شَبّا. لم نهرب من القتل هنا أيضاً ، فهي قتّالة الهوى ، لكننا كما نعْمى من بريق السيوف و نذهب هباءً لقتل " فتانة العينين " ؛ نجد ما يُصبرنا على هذا الموروث الجاف الحافل بالقتل من أبيات لا تضاهى ، كما نجدها عند المتنبي : كأنّها الشّمسُ يُعْيي كَفَّ قابضِهِ شُعاعُها ويَراهُ الطّرْفُ مُقْتَرِبَا كان الله في عوننا حين تخيفنا السيوف ، و نرجوه أن يُكثر هباته من أبيات تشبه الأخير ، و إن تعذر أن يحمل الناس ما حمله المتنبي فلعلنا أن نأتي ببعضه .
#حيدر_سالم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الابنودي أصابع الطين - مقال
-
باليه فوق الجثث - قصة قصيرة
-
كافكا و جليل القيسي
-
مهرجان الغايات و الوسائل
-
عن جدي و الشهد و الدموع
-
عجين مريدي - قصة قصيرة
-
عن سوق مريدي - مقال
-
عن سوق مريدي ( 2 ) - مقال
-
جدار الاوراق _ قصة قصيرة
المزيد.....
-
السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
-
-يا فؤادي لا تسل أين الهوى-...50 عاما على رحيل كوكب الشرق أم
...
-
تلاشي الحبر وانكسار القلم.. اندثار الكتابة اليدوية يهدد قدرا
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|