احسان العسكري
الحوار المتمدن-العدد: 5719 - 2017 / 12 / 6 - 04:37
المحور:
الادب والفن
المُحارب القديم يُشبِعُ ذكرياته بحاضرٍ قرين بها
* قراءة في قصيدة الشاعر علي عمار الغريفي
احسان العسكري
ذات جلسةٍ حوارية في بغداد جمعت الشعراء بالقصاصين تحدثوا وتناقشوا فيها عن القصيدة والقصة , ومن حسن حظي ان كنتُ من بين الجالسين حين وجه لي القاص الاستاذ أمجد نجم الزيدي استفهاماً فحواه (ما رأيك) ؟ حينها كان ردي كأني ازاول الانتظار لأُسأل ,, قلت يا اصدقائي وأساتذتي انتم تتحدثون عن موضوع و لديّ رأي في غيره قالوا كيف قلت ان الشاعر عندما يأخذنا في قصيدته بعيداً ويجعلنا نسيرُ على الماء بخيالاته الجميلة عبرها, نتفاعل معه وحين يتوقف لا نتوقف نحن عن متابعة السير على الماء في قصيدة الشاعر لأن هذا هو باختصار ما مطلوب منه كشاعر اما القاص فعليه ان يوصلنا لنتيجةٍ ما اذ لا يمكنه ان يتركنا نسير على الماء دون ان نصل الى وجهة معينة عليه اما ان يجعلنا نسير حتى نصل اليابسة أو يغرقنا وينهي ما بدأه .
هذا كان رأيي وربما كان صواباً او خطءاً , لستُ من يقرر ذلك .
هذه المقدمة البسيطة التي ابتدأتُ بها قراءتي المتواضعة هذه وانا اسبر اغوار قصة شعرية (ان جاز لي القول) لم تكن مدخلاً وحسب بل ان القاريء سيجد ان الشاعر هنا نقلنا كشاعر و اعطانا نتيجة كقاص و حملنا بعيداً بعيداً نحو افق آخر وهي رواية الوجع الخالد . هذه القصيدة القصة التي نحن بصدد الدخول الى فضائها الجميل ستروي لنا حكايتنا القديمة وان كانت صبغتها تحمل ايلاماً ازلياً الا ان الشاعر علي الغريفي اراد ان يقول لنا من خلاله : ايها الناس نحن راحلون ووجعنا خالد . فحسب علمي ان هذه القصيدة كُتبت عام 1998 أي قبل تسعة عشرَ عاماً مضينَ . ياللمفارقة نحن الآن على اعتاب العشرين و علي الغريفي يجود بشعره شهيداً لذكريات لا نهاية لها بل هي ذكريات ولود تنتج في كل يومٍ حطام شاعر وبقايا جثة شاب و تنعش طابور الثكالى بكتائب من ناعيات الجنوب .
" عندما انامُ
تصادفني : مدنٌ ، جنرالاتٌ ، وكلاب حراسة
. أعبر المدنَ
أُحيي الجنرالات
واصطحب الكلاب في رحلتي "
* هذا الانزياح في هذا المقطع من القصيدة وهو مطلعها مختلف عن الانزياحات التي مرت بنا عبر قصائد النثر اذ ان اللغة الشعرية هنا مختلف بشكلٍ واضح فهي تبدو قصيدة نثرية يظهر الانزياح فيها جلياً كونها (شعر) الا انها بذات الوقت تحمل من العدول ما يكفي لأن توصف بأنها كلاسيكية خارج الستة عشر بحراً داخل الشعر بكل ما اوتيت من قوة . فالمثاقفة بين الطرفين هنا بالمعنى والاسلوب بعيداً عن البناء تعتبر سابقة يجد بنا الانتباه لها اذ ان الشاعر هنا استخدم الكتابة في ايصال الشعر ودخل بين النص الاعتيادي والإنزياح الشعر ي فأنتج عبر اربع عشرة كلمة وثلاثة حروف نصاً قصصياً بإسلوب شاعر فهو بين النائم الحالم والحالم اليقض وهذا بحد ذاته يسحبنا نحو التفاتة أخرى لجدلية هذا التناقض المعنوي الذي يلحقه الشاعر بإيضاح يتبع اصطحابه لكلاب الصيد في مسيرته وهو يسيرُ نائماً عبر عالمٍ خرج لتوه من الحرب ولما تزل بقايا الدخان و بعض اشلاء الجند شواهد على معركة كانت هنا خسرها كلا المتحاربين وانتصر فيها تاجر الحروب وها هو يرسل كلابه لتتبع اثر المثقف ويان سيصل ولأي الطرفين سينحاز سيما وإن هذا المغترب في فضاء هو ليس منه حياً جنرالات المعركة وعبر بعض المدن غير متدخل ولا متطفل على ما جرى ويجري في شوارعها . الا ان المفاجئة الكبرى بانتظار هذا الحالم تاتي هنا وهو :
" في الطريق الى مدينة
سورها روحي وساحتها حياتي
اختزلت الغابات وآويت المواسم ،
حتى وصلت الى هذه الجثة
..!! يا إلهي : إنها جثتي ..؟!
نفضت عنها صرير التاريخ ،
رائحة القحط ،
وأيام القصائد "
• ياللعجب ! ماذا يريد الشاعر ان يقول ؟
يبدو أنه يدوزن ذاته بمفهوم العازف العارف فنحن هنا امام ميلودراما بغلاف شعري تجرد من الموسيقى المعروفة للشعر وحافظ في نفس الوقت على الحركات وحسن الأداء دراما غير مجردة تكشف قدرة كبيرة على استخدام الخطاب لذاته بشكل متحمس للظهور بنما تتخذ خاصيته الدرامية المحددة الانتقال على الدوام من الخيال الى الواقع بآلية الارتباط و التنويه و الاستعادة المتصلة بالواقع . الا ان البطل هنا واحد والممثلون مجموعة من الذكريات والاحلام والواقع والحاضر و مناوشات جريئة مع المسقبل . فأيام القصائد الآفلة التاركة خلفها رائحة القحط الثقافي والمتسببة بعزلة ان لم تكن ازمة ثقافية خطيرة امست تهدد المجتمعات وتتبنى مفاهيم السفسطة الفارغة و الفراغ العقلائي في الذوق الأنساني و حتى الأدبي . ففي طريق الشاعر وهو يحلم يقضاً بانتقالاته الذاتيه يكتشف انه ضمن دوامة هذه المعركة وإنه احد ضحاياها, مفردة (جثة ) استخدمها الشاعر بنباهة عالية فهو يعرف ما يقول فلم يستخدم مفردة (جسد) وكأنه يريد ان يوصل لنا ان وجد ما تبقى منه بعد ان نفض عنه غبار المعاناة عبر تأريخ دموي هو بحد ذاته مسيرة شعب بأكمله .
عندما نعود لبداية هذا الجزء من القصيدة ونرسمُ سهماً متعرجاً من كلمة مدينة الى القصائد مروراً بـ الجثة التي هي جثة الشاعر نجدُ الاختزال هنا مثير جداً اذا ان الطريق الى المدينة كانت نهايته العثور على ما تبقى من الشاعر الذي كان يحلمُ بأن هذه المدينة هي ذاته فسورها روحه وساحتها حياته اختزل الغابات وآوى المواسم وفي موسم الحصار كانت نهاية آماله عثوره على ما تبقى منه وسط خرابٍ لم تكن له فيه ناقة ولا جمل الا إنه بذات الوقت (كله) ! نحن امام ملحمة كبيرة اختصرها الشاعر بأسلوبه القصصي الفريد بهذه الكلمات فالوصول لجثته غاية ما استخدم للوصول اليها سبيلاً فحتى كلاب الصيد التي رافقته كانت تعلم بما سيجد لكنها اكتفت بالمراقبة طائعةً لأوامر غير الشاعر . ربما أمله كان هو من يوجهها فـ ايام القصائد التي :
" تسللت الى سباتها "
هي في حقيقة الأمر مجموعة من عصور مختلفة في تواريخها متفقة في وقائعها عبر مؤشرات ودلالات كلامية تشبه السرد فالمؤشرات التي سبقت الدال رسمت الخطوط الواضحة لنمط النص وبالتالي انتجت المعنى الذي جاء بمدلولات مختلفة عن ظاهر النص استدعى ظهورها ايحاءات سياقية فيه وليس هذا بغريبٍ على الشاعر موضوع القراءة فهو ابن معاناة وانتقالات متشابكة مع بعضها لا اريد ان اسهب في تفاصيلها الا اني اود ان يعرف القاريء مع من يتعامل وفي أي وادٍ نزل واي ابداعٍ امامه .
" وفي رحلة الدم ..
دخلت القلب
فارتطمت باطلاقة عدو
استقرت قرب صورة للعائلة
ايضا في الكتف الأيمن
سقطت في هوة عميقة
كانت طعنة لصديق
فخرجت من طرفها الاخر
مأهولا بالخوف والمجاعة ؛ "
* الايهام في الشعر لا يشبه غيره في شتى الأعمال الأدبية فهو منقطع عند الضربة الشعرية ومستمر عند الموضوع و بناء النص لكن الغريب في هذا النص قيد البحث ندرك اننا وسط دوامة من الألم كان الشاعر محورها وحياته بأكملها حطب الاحتراق فيها . عدو ’ صديق , سلطة , حاجة , نفي , هجرة , ألم , حنين , مادة , خيال , واقع مأهول بالخوف والمجاعة , انتقالات عديدة في هذا الجزء من قصتنا و مسارات متفرقة يرسمها النص امامنا يجعلنا في مدخل متاهة معروفة الا انها متاهة بتجرد . فعادة ما يكون الزمان والمكان ادوات للاخنزال الشعري والكثرة القادمة من القلة تجعلنا نقول هذا شعر ناهيك عن البناء والفنية , أي رحلة هذه التي ارتحلها الشاعر ؟ رحلة دم أم رحلة صيد ؟ ومن اصطاد من ؟ كنا نتحدث عن شاعر حالم والآن نحن داخل جثته نتبع خطوات انتقالاته التي يتنقل بها داخل قلبه ونتفاجأ بان هذه الخطوات ارتطمت برصاصة عدو وهذا يجرنا لتساؤل آخر لمَ لم تكن رصاصة صديق ؟ فغالباً رصاص العدو معروف تسبقه استعدادات و تهيئة مجال لاستقباله . ربما اراد الشاعر ان يبين لنا انه لازال سائراً استوقفته ذكرى كانت هي مايشعل مشاعره وحنينه . نحن يا سادة في حضرة شاعر خارج بلاده اجبرته طعنة ما على مغادرتها ويالها من طعنة انها طعنة الصديق وفي مكان كان الأولى ان يكون فيه هو لا سكينه هذه السكين التي خلقت هوة حزن وفراق يعتقد الشاعر انه خرج منها لكنه في الحقيقة دخل متاهة أخرى هي محنة الخوف والمجاعة , فعبر جثته كانت الممرات الآمنة لكل هذه التفاعلات والتبدلات و الايحاءات لما سيجري بعد ذلك , انسانٌ طيب يسير في مدينة خرجت لتوها من معركة صادفه لغمٌ فقرر ان يزيله من طريق الابرياء
" لأنني تركت يدي عند أول لغم صادفته
لتزرع مكانه وردة
أنا الان خارج الرحلة اقلب جوعي
في ذاكرة بلا شتاء "
* ترك يده علامة لتحذير من سيأتي بعده وهذه قمة الانسانية والشعور بالآخر اذ من المعروف ان الشاعر يحتمل ما لايطيق غيره فلا طاقة عن بسيطٍ ما ان يرى ما تبقى منه وقد رُسمتْ فيه اعتى مسارات الألم و الغربة والحيرة والحنين والفراق . تلك الزهرة التي زرعها شاعرنا في طريق الرحّل عبر عصور الإيلام كانت يده التي اغتربت بحثاً عن مسارٍ لمستقبل مدينته الحبيبة متأملاً ان يطوف بها وهي بلا جنرالات حروب ولا كلاب صيد تراقب السابلة وخرج من حلمه الواقعي المؤلم يزاول الاحتراق مزاولة غير ىبه بنتائج الجوع ومنتقد لاذع لــ (كركبة) الفقد والنسيان وهو المضحي لأجل هدف اسمى من ذات الرحيل واجمل معتبراً نفسه مسؤولاً عن جمهوره المغلوب على امره الذي تمر عليه العصور وهو بين بقايا ركام الويلات يلحِّن لنفسه ترنيمتها الازلية :
" اذ كنت جائعا وكان جوعي يتناسل
جوع يولِّد جوعا
وجوع يفضي الى جوع
وثمة جوع يحيي اسلافه من المجاعات
حتى اصبح الجوع شعبا كاملا
الان
: وانا في يقضتي ، أصادف :
مدنا ، وجنرالات ، وكلاب حراسة . "
* ما هذا الألم ايها الشاعر ؟ وما نتيجة ما نمر به جميعاً من تكرار مرير لوقائع تأريخنا بأوجه شتى و مناهل مختلفة ؟
سؤالٌ ربما سيجد من يبحث عن بقاياه بعدنا له جواباً وان كان عقيماً وتبقى مسيرتك ذات السبعة آلاف خطوة باقية وتتشعب طالماً ان كلاب الحراسة تملأ شوارع المدن المنكوبة وطالما ان الشعراء يغازلون وجع الشعوب بأرواحهم .
#احسان_العسكري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟