|
عاهد
رنا حموده
الحوار المتمدن-العدد: 5710 - 2017 / 11 / 26 - 15:30
المحور:
الادب والفن
على تلّةٍ خضراء وقف عاهد مشدود القامة .. غارساً أقدامه في الأرض .. تاركاً شعره للهواء يعبث فيه كيفما شاء كشجرةٍ استقامت وسلّمت أوراقها للريح .. أغمض عينيه وراح ينفض غبار الزمن عن ذاكرته .. يسترجع أحداثاً .. ويتذكّر أشخاصاً .. تــذكّــر .. ذلك اليوم الذي أفاق فيه من نومه على عالم يكسوه البياض من كلّ جانب .. الحوائط .. ملاءات الأسرّة ولباس الأطباء والممرضين إلا والدته هي الوحيدة التي استثناها المكان من بياضه البارد فكانت بقميصها القطني الوردي و تنّورتها الطويلة المزركشة باللونين الأزرق والورديّ أشبه بزهرةٍ نسيها الربيع على ثلج شباط .. مسحت على رأسه وقالت : افرح يا بطل هاهو الطبيب يقول أنك لن تحتاج للمبيت في المستشفى .. تنهد وقال : عساها تكون المرّة الأخيرة التي أزور فيها هذا المكان .. ردت وقالت : يا رب .. تلفت للمكان من حوله ثم توقف ببصره على ملابس والدته وقال : تعرفين يا أمي ، عندما أكبر سأنشيء مستشفىً كبيراً للأطفال وسأغير هذا اللون الأبيض البارد بألوانٍ مبهجة مثل ألوان تنّورتك الزاهية .. ابتسمت ابتسامةً حنونة ومسحت على رأسه من جديد وقالت : والآن سأذهب لأصرف العلاج من الصيدلية ولن أتأخر عليك يا صاحب الأحلام العظيمة وخرجت . على السرير المجاور كان يرقد طفلٌ آخر ينظر يمنةً ويُسرةً محاولاً البحث عن أزرار السرير ليعدّل وضعيته .. نظر إليه عاهد بثقة وقال : سليم اضغط على الزرّ الأزرق يمينك .. التفت إليه الطفل باستغراب .. عاهد : سمعت الممرضة تناديك سليم .. ضغط سليم على الزر الأزرق فاعتدلت وضعية السرير .. سليم باستغرابٍ تغلّفه البراءة : كيف عرفت ؟!.. عاهد وقد ذبلت في عينيه لمعة الزهو بمعرفته لسر الزرّ الأزرق : أنا مصابٌ بالربو وكثيراً ما تداهمني نوبات ضيق التنفس وآتي للمستشفى ، لقد زرت هذا المكان كثيراً حتى أنني حفظت أدقّ تفاصيله .. سليم : أمّا أنا فهذه المرّة الأولى التي أضطر فيها للمبيت في المستشفى فقد أصبت بنزلة برد وأنا ألعب كرة القدم تحت المطر .. عاهد وقد ذبلت ملامحه أكثر : تلعب كرة القدم .. صمت قليلاً وأكمل حديثه : أمي تمنعني دائماً من أن ألعبها حتى لا أجهد نفسي وأبقى أسعل طوال الليل .. غطى الضباب مشهد الذكرى ولازال عاهد واقفاً مكانه مستسلماً للريح .. فتح عينيه لبرهة .. وقد كانتا تلمعان ببريق دموعه المحبوسة .. مسحها بيده وأخذ نفساً عميقاً بعمق حزنه وأغمض عينيه من جديد وتــــذكــر .. ذلك اليوم وهو يسير بخطواتٍ متثاقلةٍ في باحةٍ عظيمة بين طلابٍ يغطي صوت أحاديثهم خلفيةَ مشهدٍ كان هو العنصر الصامت فيه .. وصل للبوابة وخرج من حرم الجامعة وترك وراءه حلمه بإنشاء مستشفىً للأطفال .. كان هذا اليوم هو اليوم الذي عُلّقت فيه نتائج تنسيق الطلبة الجدد على جدار عمادة القبول والتسجيل وكان اسم عاهد غير مدرجٍ ضمن أسماء الطلبة المقبولين في كلية الطب البشري . غاب مشهد الذكرى وفتح عاهد عينيه على الواقع .. انسابت دموعه الحزينة .. مسحها بيديه .. وأغمض عينيه من جديد وعاد لمشهد ثالثٍ من ذكرياته .. تــذكّــر .. ذلك اليوم المشمس الذي انطلقت فيه الدرّاجات الهوائية من نقطة البداية كغزلانٍ شاردةٍ في برّيّة ، وقد توقف بدرّاجته في منتصف الطريق وخسر أيضاً هذه المرّة .. لطالما تمنى أن يفوز ليحصل على الجائزة المادية التي وضعتها الجهة المنظّمة للسباق .. كان يظن أن هذه الجائزة هي التي ستساعده على بدء مشروعه الخاص بإنشاء مؤسسة مقاولاتٍ ليتمكن من تحقيق دخلٍ أفضل من دخل الوظيفة وعندما خسر ترك حلمه الآخر في المضمار وغادر .. قبض يديه بقوة .. لازالت الريح تعصف .. فتح عينيه .. مسح دموعه الجديدة ثم أغلق عينيه وتــذكّــر .. ذلك اليوم حين كانت عتمة الليل تلف المكان وصوت الرعد يزيد على وحشة الليل وحشة، وما بين صوت المطر وصوت الرعد كان صوت سلمى حبيبته وهي تقول له لابدّ أن نفترق، كان صوتها هذا ينخر في رأسه كمثقابٍ ممعنٍ في مهمّته .. وفجأة !.. اختلط صوت الرعد بصوت عاهد وهو يصرخ كفى .. كفى .. كفى.. فتح عاهد عينيه ليجد نفسه و على غير إرادة يتخبط بيديه بحركاتٍ متشنجة ويصرخ قائلاً: كفى .. كفى .. و كانت قامته قد استطالت وأطرافه تضخمت وتحوّل إلى عملاقٍ هائج وضاقت به الأرض واستحالت تحت قدميه كرةً صغيرةً أشبه بكرة القدم .. وفي خضّم هذه الذكريات القاسية و وسط هذا الهياج ركل عاهد الأرض بقدمه .. وفي هذه اللحظة تباطأ الزمن وبقي عاهد واقفاً على اللا أرض مشدوهاً ينظر إلى الأرض وهي تبتعد عنه وتصغر و تصغر وتذكر الأنصاف الأخرى من مشاهد حياته .. تــذكّــر .. أن مرض الربو أرهقه في طفولته لكنّه قد تشافى منه .. ولازال عاهد محدقاً في الأرض وهي ذاهبة في الفضاء تبعد وتصغر أكثر وأكثر وتــذكـّـر .. أنّ علاماته في الثانوية العامة لم تؤهله للحصول على مقعدٍ في كليّة الطب لكنها أهلته لدخول كلّية العمارة التي درس فيها وتخرج منها .. وتــذكّــر .. أنّه ما فاز مرّةً في سباق الدرّاجات الهوائية وما استطاع أن يحصل على الجائزة لينشيء مؤسسة المقاولات الخاصة به لكن الانتصار الأعظم أنه أصبح قادراً على ممارسة الرياضات وقيادة دراجةٍ في سباق بعد أن كان في يومٍ ما يتمنى أن يلعب كرة القدم .. والشيء الأهم الذي تذكره أن ركوب الدرّاجة ما كان يوماً هوايته المفضلّة بل إنه أهمل على حسابها هوايته في الرسم وترك لوحاته يأكلها الغبار في علّيّة المنزل دون أن يحاول المشاركة بها في المعارض الفنية .. وتــذكّــر .. أن حبيبته سلمى تركته لكن سلمى لم تكن آخر البنات .. وحين أفاق عاهد من سلسلة الذكريات .. واستيقظ من شروده .. وأدرك أن الأرض كانت أكثر اتساعاً مما يظن .. كان الوقت قد فات .. الأرض التي استصغرها عاهد وركلها بأقدامه أصبحت بعيدةً جداً عنه وبقي عاهدٌ في السماء ونحن نراه هنا من الأرض نجمةً تلمع .. يعني يا أمي .. هذه النجمة هي أخي عاهد ؟!.. نعم يا حبيبي إنه عاهد .. كانت هذه الحكاية التي ابتدعها خيال الأم هي الطريقة الأنسب لتشرح لابنها الصغير مُريد الذي لم يتجاوز الستة أعوام الطريقة التي توفي بها أخاه الكبير عاهد والذي في الحقيقة مات منتحراً عندما ألقى بنفسه من شباك الدور السابع في مبنى عمله بعد شجارٍ مع مديره . ومنذ ذلك اليوم ومُريد لم يتوقف عن مراقبة النجوم كلّ ليله .. وفي كلّ مرّةً كانت لمعة النجوم تعبر أحداقه كموجة كهرباءٍ قوية تبرق في ذاكرته وتعيد تشغيل قصّة وفاة عاهد أمام عينيه من جديد .. ومرّت السنين وكبر مُريد وعرف قصّة وفاة أخيه بتفاصيلها الحقيقيّة .. التفاصيل التي خلف المشهد وخلف الحكاية .. عاهد انتحر .. لأنه كان يظنّ أن أحلامه بعيدةً جداً عنه والحقيقة أن أحلامه كانت قاب قوسين منه أو ربما أدنى من ذلك .. ربما هنا في غرفة عاهد .. إلى جوار سريره .. في هذا الدرج .. فتح مريد الدرج وأمسك بمفتاحٍ قديمٍ وجده فيه .. ابتسم ابتسامةً تكسر هدوءها لمعةٌ تتقافز من عينيه بفرح .. إنّه مفتاح العلّية .. لعلّها المرّة الأولى التي يمسك فيها أحدهم هذا المفتاح بعد وفاة عاهد .. صعد للعليّة وأدخل المفتاح في الباب وأداره وكأنما أدار معه الزمن للوراء كثيراً .. إلى تلك الأيام التي كان فيها عاهد يمسك بريشته ويرسم لوحاته .. لكن ما كان يحدث بعد أن ينتهي من رسم كلّ لوحة هو أن يلقي بها في عليّة المنزل كورقة مزّقها شاعر مبتديء لقصيدةٍ ظنّ أنها دون المستوى فتبرأ منها .. دخل مُريد العليّة وجعل ينفض الغبار عن اللوحات ويسعل .. اختار لوحةً وشارك بها في معرض الفنون التشكيلية السنوي الذي يقام في البلدة .. وحدث ما توقعه مُريد .. حازت اللوحة على إعجاب معظم الحضور والنقّاد بل أن اللوحة بيعت لأحد الأثرياء بثمنٍ مرتفع .. كان ثمن اللوحة هو رأس المال الذي ابتدأ فيه مُريد انشاء مؤسسة المقاولات التي كان يحلم بها عاهد وكبرت المؤسسة وتحولت إلى شركة إنشاءاتٍ عملاقة وكان من انجازات الشركة بناء مستشفى خيري للأطفال وتمويله أطلق عليه اسم مستشفى عاهد للأطفال .. المستشفى الذي لطالما حلم عاهد أن يُنشئه وظنّ أن القدر تواطأ ضده حين اختار له أن يدرس هندسة العمارة بدلاً من الطب .. هاهو مُريد وإلى جواره والدته أمام هذا الصرح الطبيّ الضخم يقصُّ شريط الافتتاح ومن حوله التصفيق من الحضور وطاقم المستشفى.. وأثناء ذلك وبصوتٍ منخفض ودمعةٍ خجولة قالت الأم : رحمك الله يا عاهد يا ولدي .. فردّ من خلفها صوتٌ غريب : رحمه الله .. التفتت خلفها فإذا برجلٍ أربعيني يرتدي معطفاً أبيضاً .. نظرت إليه وقالت : أتعرف عاهد .. فرد : نعم أعرفه يا خاله ، أنا سليم .. نظرت إليه نظرةً بدا له منها أنها لا زالت لا تتذكره فاستدرك وقال : سليم ، الطفل الذي كنت أرقد إلى جوار عاهد في المستشفى. ردّت : نعم نعم سليم تذكرتك ، تخيل مع أن عاهد كان يحدثني عنك دائماً وأعرف أن علاقتكما بقيت مستمرّة منذ يوم لقائكما في المستشفى إلا أن هذه المرّة الأولى التي أراك بعدها .. سكت سليم لبرهةٍ وقال : لطالما كنت أغبط عاهد ، له أمٌ تدعو له وهو حي والآن تدعو له وهو ميت أما أنا فعشت يتيم الأم .. هزت الأم رأسها بحزن وقالت : وعاهد كان يغبطك على أشياء كثيرة .. يغبطك لأنك استطعت أن تدرس الطب بينما هو لا ، ولأنك فزت بسباق الدرّاجات الهوائية بينما خسر هو .. ردّ سليم بذات الحزن الذي تحدثت به أم عاهد : وأنا كنت أحسده لأنّه ملك قلب عالية التي أحببتها ولم تنتبه لوجودي .. قالت الأم : وقلب عاهد كان مشغولاً بسلمى لذلك لم يكن ليرى حبّ عالية له .. وأثناء وقوف الأم مع سليم انضم إليهما مُريد .. نظر إليه سليم وقال : تشبه عاهد في الشكل كثيراً .. هنا قاطع أحد الصحفيين الذين يُغطّون الحدث الحوار : سيد مريد المستشفى العظيم هذا كان حلماً وأصبح حقيقة ، هل لنا وللمتابعين أن نستفيد من خبرتكم ونعرف مفتاح نجاحكم ؟ ردّ مُريد : مفتاح العلّيّة .. الصحفي مستغرباً : مفتاح العليّة !!.. ضحك مُريد وقال كنت أمازحك ، أود أن أقول لكلّ مريدٍ للنجاح الأرض تتسع لأحلامنا ، وسع نظرتك للحياة وافهم قوانينها واعرف نفسك وانهض .
قاصة و كاتبة فلسطينية من مجموعتي القصصية (السيدة حقيقة والسيد خيال) الصادرة عن دار عكاظ عام 2016 .
#رنا_حموده (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|