سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 5694 - 2017 / 11 / 10 - 19:44
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
- نحو فهم للوجود والحياة والإنسان (75) .
يأتى الكثير من رؤيتى وفلسفتى فى الحياة والوجود من فن الرسم , فمن الغوص والإحساس بالخط واللون تكونت نمنمات أفكار كانت بمثابة ملاحظات وإشارات وصور حسية فقط تراكمت بدون أن تتأطر فى رؤية نظرية فكرية بحكم حداثة العقل والسن لتكتفى بملاحظات وعلامات إستفهام كانت ضرورية لتجد لها لاحقاً مع التقدم فى السن والقدرة على ربط الأشياء ببعضها ملامح رؤية فلسفية يمكنها أن تفسر المشهد الحياتى الوجودى فى نسق فكرى .
- دعونى أسجل بداية تجربة ذاتية كانت مع بداياتى الأولى فى الرسم بالقلم الرصاص الذى كنت أخط به رسوماتى . فمن خلال كم هائل من الخطوط المنحنية والغير منتظمة كان يتم تشكيل منظر محدد أو بورتريه واضح الملامح , فلم أكن أفطن حينها للفكرة التى راودتنى إلا فى مرحلة متقدمة من العمر عندما بدأت أتأمل عمق ما خطته وتخطه يداى لأصل إلى مفاهيم عميقة تعطى دلالات كثيرة تخوض فى العشوائية والمعنى والنظام وفكرة الإله .
عندما نتأمل لوحة مثل تلك للفنان scottburdick
http://www.scottburdick.com/Scotts_archive/2002Scott/thmb574erinpencil.jpg
نرى عدد هائل من الخطوط المنحنية المختلفة القصيرة والطويلة والغير منتظمة وكل خط فيها ستجده ليس ذو معنى أو دلالة محددة فى ذاته ولكن بتكاثفه وتشابكه وإمتزاجه مع غيره من الخطوط والمنحنيات أعطى تشكيل ذو معنى متمثلاً فى بورتريه لفتاة.
عندما كنت أخط مثل تلك الخطوط لم أكن أرسمها بشكل محسوب كما أمارس التخطيط فى حالة رسوماتى الهندسية ,ففى الرسم الهندسى يكون كل خط ومنحنى محدد القياس والإتجاه , بينما فى الفن التشكيلى لا تكون الخطوط محددة صارمة بقدر ماهو عمل تلقائى عفوى أعطى فى النهاية معنى , لذا يمكن القول أن الرسم التشكيلى يماثل خطوط الطبيعة من حيث العفوية والتلقائية الغير متعمدة بينما الخط الهندسى حالة نظامية إستخلصناها من طبيعة عشوائية , فكل الأمور المصاحبة لعملية الرسم الفنى تتم بدون أفكار وقوانين مُنظمة مُخططة صارمة , فأنا ألقى القلم على الورقة ليتحرك القلم فى يدى بتلقائية شديدة ليُنتج عدد هائل من الخطوط والمنحنيات المتشابكة , كل خط ومنحنى لا يشكل أى معنى أو قيمة دلالية بل وحدة مجردة , ولكن مع تشابكه وتجاوره مع خطوط أخرى أعطى معنى وقيمة .
- نحن دائما ما نقع فى مستنقع المنتج النهائى لننبهر به ونحرق مئات المراحل إما لجهلنا أو صعوبة تتبع تلك المراحل , فلو نظرنا لأول خط فى لوحة فنان سنجد أنه ليس بذات معنى لأنه الوحدة التجريدية البنائية الأولى ولكن مع ذوبان وتداخل هذا الخط مع خطوط أخرى كثيرة ومتنوعة أصبح للرسم تكوين منحناه إنطباع وإحساس ولو كان بأى تركيب كنا منحناه أيضا معنى لنصيغه كمفردة فى الوعى .. وهكذا رؤيتنا للطبيعة ننبهر بتعقيدها لنحرق كل مراحل تكوينها كما ننبهر بلوحة الفنان ونتغاضى عن رسمه أول خط فيها بعشوائية .
- بإمتلاكى موهبة الرسم أتاحت لى القدرة على ترجمة أحاسيسى فى خط ولون ليكون الفن بالنسبة لى عشقى ووجدانى وفرحى وأحلامى وعالمى الخاص فمنه أدركت ذاتى وأدركت الحياة بعد أن صغتها فى خط ولون لأكتشف مع المزيد من التأمل أن الرسم يقدم لنا طريقة لفهم لغز الوجود والحياة , فمن تلقائية الخطوط فى الطبيعة ندرك أن العشوائية هى أصل الوجود بينما النظام جاء من إنتاجنا لإيجاد صيغ نتعامل بها مع العشوائية أى التحايل على إيجاد علاقات نظامية نعيش بها . فمن الصعوبة بمكان أن نتعايش على الدوام مع كل إحتمالات العشوائية .
- سر متعة العمل الفنى هو مداعبة العشوائية فى داخلنا كالمتعة التى نحظى عليها من لعب الكوتشينة والزهر والألعاب الإليكترونية لأقول أننا ننجذب للفن وتلك الألعاب لأنها تداعب عشوائية ومجهول ولا نظام , فبئس الحياة إذا كانت خطوات صارمة معلومة سلفاً .. من الرسم سندرك ماهية الحياة والوجود والإنسان فالوجود عشوائى جاءت منه حياة , ليتصور الأحياء أنهم محور هذا الوجود وإعتناءه بينما هم خطوط وألوان تجمعت لترسم لوحة فهمناها كما نريد أن نفهمها .
- يقال أن الهيدرجين أصل الوجود بإعتبار أن الوجود جاء فى البدايات من هيدروجين , وأقول أن الألوان هى أصل الحياة وبدون الألوان ماكان هناك حياة ولا وعى فنحن ندرك الحياة من الألوان والخطوط فيستحيل أن نعيش فى حياة من لون واحد فحينها لن تكون حياة بالفعل (الخط هو الفاصل بين لونين ) .
من الخطوط والألوان يتكون الوعى ومن الخطأ فهم الحياة كخطوط مستقلة ذات موضوع ليتماهى البعض ويتوهم أن هناك من يمسك قلم ليخط به بينما الخط عشوائى تواجد من لونين عشوائيين لنخلق منهما معنى وتكون حياتنا هى الإحساس بالخط واللون وتوصيفهما فى إنطباع لنُقيم معنى للحياة .
- نحن نعيش فى وجود طبيعى غير عاقل لا يرسم الأشياء بإرادة ولا إعتناء ولا إهتمام ليصدر رسالة لنا أو حكمة ما للإقتداء , فنحن من نحاول أن نجمع المشاهد المتواجدة لنلصقها مع بعضها لنكون فكرة هى نتاج ماهو موجود فكل محتواها وجذورها من واقع مادى , لنتخيل وهماً ًبأن هناك رسالة وحكمة من ورائها .
- هناك رؤية تأملية لها مغزاها , فالبسيط لا يعنينا بينما التعقيد يثير فينا الإحساس ليعطينا هذا درس عن الوجود فى أن جوهر التكوين هو تشكيل عشوائى بسيط ليس ذو إعتناء ولكن العناية جاءت منا نحن فى بحثنا عن انطباع نسقطه على الشئ لنأرشفه كإحساس يعطى مفهوم .
-الرسم ليس هو تلك اللوحات الفنية لطبيعة أو بورتوريه فحسب بل لغة وفلسفة الحياة , فالكتابة مثلا عبارة عن خطوط عشوائية إتفقنا على رسمها ومنها نستطيع ان نقرأها كرسم , فلا يكون الحرف أو الكلمة بذات معنى بل بإتفاقنا على التعبير عن معنى لذا تتباين الكتابات واللغات فى رسم الحروف والكلمات ليبقى لكل جماعة بشرية إتفاق على مدلولات عند رسم حروفها .. الحروف المتشابكة ليس لها أى بناء أو تنظيم بل النظام والبناء جاء من البشر الذين اتفقوا على تشابك حروف عشوائية لتعطى لهم معنى ودلاله معينة .. فيمكن لأى انسان أن يشبك مجموعة مختلفة من الحروف , وهذا ما يحدث بالفعل من اختيار أسماء المعدات والأجهزة والماركات .. فهذا التشبيك العشوائى للرسومات نترجمه لدلالة ومعنى معين كشفرة بيننا لإدراك ماهيتها أى أننا تعايشنا مع الوجود العشوائي وأنتجنا منه ما نتصوره نظام , أى أن الإنسان أنتج من العشوائية أشكال وعلاقات يراها نظامية .
- نحن لا نقرأ الحروف والكلمات بل نقرأ رسومات , فحياتنا كلها رسومات لذا أعتبر الرسم هو وعينا الحقيقى بالحياة , فهو لا يقتصر على لوحة فى الطبيعة ذات خطوط وألوان ,فالرسومات طريقة تعاطي أدمغتنا مع الحياة .. فنحن مثلا لا نقرأ الحروف والكلمات فى جريدة أو كتاب أو تلك الكلمات التى تقرأها فى مقالى هذا , فأنت تقرأ رسومات فقط مُتمثلة فى حروف متشابكة ذات أشكال مرسومة لتمر سريعاً على كلماتى بدون ان تتهجاها , وهذا يرجع لأن لديك فى ذهنك أرشيف هائل من رسومات لكلمات فيقوم الذهن بإستدعاء رسم تلك الكلمه وإدراكها .. لذا نحن لا نتهجى الكلمات التى لها رسومات سابقة فى ذهننا فهكذا نتعامل مع اللغة كتابة وقراءة كرسومات نستدعيها لتكون أى كلمة جديدة مثل " انسطالبوك " ككلمة لم نعهدها من قبل فنتصور أننا نتهجاها والحقيقة أننا نصورها بعيوننا لنسجلها كرسمه جديدة نخزنها فى أرشيف الدماغ , والدليل أن هناك كلمات أجنبية أو حروف فرعونية أو صينية لا نعرف نطقها ولكن نحفظ رسمها , فالكلمة لن يتواجد لها وعى بدون رسم لها , وهذا يعنى أن الوجود والحياة خطوط ورسومات يتكون منها وعينا الذى هو إستدلال على تلك الخطوط التى جاءت بشكل عشوائى .
يبلغ جمال ومرونة وعينا بتعاطينا مع رسومات لكلمة واحدة بأشكال عديدة ككتابتها بالنسخ أوالرقعة أوالكتابات العادية الإرتجالية وتتفاوت بالطبع القدرة على القراءة لأنماط من الرسومات وفق القدرة الذهنية وحظنا من الطبيعة التى إستوعبنا من خلالها رسومات عديدة فهناك من يستدلون على الكلمة برسومات غير تقليدية عديدة .
- من طبيعة رسم كلمات اللغة الماثلة لوعينا تتأكد الرؤية بأن الوجود عشوائى فى طبيعته وأن النظام هى رؤية بشرية إعتنت بتحديد معنى لخطوط عشوائية لتراها نظام , فنظرتنا وتعاطينا مع الحياة هو الإتفاق على رسم عشوائى وإعطاءه معانى ودلالات وإذا كان الإنسان منذ البدء فعلها فنحن مازلنا نفعلها بإبداع رسوم لماركات وبادجات ولا مانع أن نخلق من تلك الرسومات المعقدة العشوائية للحروف والكلمات قواعد ونَظم وكتابات شعرية لتكون كل هذه التمظهرات منتجات نظامية جاءت من تعاطى مع العشوائية .
- الرسم بالتنقيط نموذج يمكن من خلاله إدراك أن المشاهد العشوائية التى بلا معنى يمكن أن نخلق لها معنى من ذواتنا , فالصورة المرفقة لو تأملناها سنجد عدد كبير من النقط لا يوجد بالطبع أى معنى لأى نقطة فيها ولكن من تكاثف النقاط أعطت لنا فى النهاية صورة "يد" , لنقول أن الطبيعة عندما نحلل صورها فسنحظى على عدد هائل من الخطوط ليكون كل خط بمثابة مجموعة نقاط كما فى هذا الشكل نعطى له إحساس ومعنى.
http://www.alfalq.net/upload/uploads/13239327875.jpg
- نرجع ثانية إلى الخط فمن خلال الصورة المرفقة التالية لأتعمد أن أقدم فيها شكل تجريدى لفتاة لتحتوى الصورة على عدد قليل من الخطوط لأبين أن أى خط لو تأملته منفرداً فلن تجد له أى معنى فهو خط عشوائى فى مفرده ولكن عندما تتجمع الخطوط فسيتولد تشكيل ذو معنى , وهذا المعنى جاء من تقييمنا نحن , فالرسمه قريبة من وعينا التجريدى لصورة إمرأة .
http://artdosug.ru/wp-content/uploads/2010/02/54292609_l575w.jpg
- وعينا هو إحساسنا بالخطوط , فلا يوجد وعى بدون إحساس , فمن الإحساس بالخطوط والألوان نُكون إنطباعات ويكون تقاربنا كبشر فى التذوق والتقييم والاحساس بحُكم تقارب التكوين البيولوجى والنفسى والتجارب والخبرات البشرية ولنلاحظ أننا يمكن أن نتقارب ولكن يستحيل أن نتطابق ليظل مفتاح وعينا هو إحساسنا بالخط واللون ودرجة تفاعلنا معه أى مدى فاعلية الإحساس وقوته , ومن هنا يتكون الوعى بترميز هذا الإحساس الذى جاء من إنطباع مُختلق من خطوط عشوائية لتدخل كشفرة فى نظام , ويجدر الإشارة أن القول بالإحساس ليس مقتصراً على التفاعلات القوية الفجة كالإحساس بالخوف والبرودة والسخونة وما شابه بل من تلك النمنمات الكثيرة من التفاعلات الحسية الكيميائية مع الأشياء التى نتحسسها ولا نستطيع صياغتها فى مفردات لغوية كون الإحساس يسبق اللغة , فالإحساس بلوحة تشكيلية أو معزوفة موسيقية يختلف تماماً عن نوعية الإحساس بالعمل المسرحى , فالرسم شأنه شأن الموسيقى عالم آخر من الاحاسيس بكل نمنماتها ليعجز المرء التعبير عنها سوى أن يستحسن فى المجمل أو يستقبح , فاللغة تتضاءل أمام الإحساس فهى تحاول أن تقترب وتعبر فقط .
- يستحيل أن تتطابق لوحة فنية مع أخرى لذا نقول أن هذه نسخة مُزيفة ومُقلدة من العمل الفنى الأصلى .. بل أؤكد أن الفنان الأصلى كليوناردو دافنشى مثلاً لو أراد ان يرسم الموناليزا مرة ثانية فيستحيل أن يرسم نفس اللوحة بصورة كربونية مهما توخى الدقة.! .. لا توجد لوحة تشبه أخرى حتى لو حاولنا أن ننسخها بدقة ومهارة , لأن أى لوحة تعبير وإحساس عن لحظة عصبية مادية مُحددة متأثرة بكل الأبعاد من زمان ومكان , لذا يستحيل أن يتواجد فى الطبيعة مشهدان متطابقان ولا لونان متطابقان لأنه لا يوجد تناسخ للحظات الزمانية والمكانية , لذا نكون مخطئين لو قلنا أن هذا المنظر أو اللوحة تتطابق مع مشهد أخر , فلو أمعنا النظر والتدقيق فيستحيل أن نعثر على التطابق بل يجوز التشابه فقط , فنحن كبشر لا تكون نظرتنا لأى مشهد من خلال عملية تدقيق صارمة بل نأخذ بالمتشابهات , فلا توجد ثمرة تفاح تتطابق مع ثمرة تفاح بالوجود سواء بالماضى أو الحاضر أو المستقبل فالماء لا يجرى فى النهر مرتين وعليه فإن الوجود سرمدى فلا توجد فيه صورة فارقة .التطابق كلمة ليس لها وجود ولا واقع .!
- لا تتطابق رؤية الأشياء فى داخلنا فلا يوجد إنسان يرى المشهد كما يراه غيره , فالرؤية هنا تمتزج بإنطباع وإحساس وموقف وظرف زمكانى لتتباين بالضرورة من إنسان لآخر لذا يستحيل أن تتطابق رؤيتان ومن هنا نقول أن لكل منا رؤية خاصة به بل الرؤية الخاصة تتباين مع الزمن ويمكن تلمس هذا فى الرسام الذى يرسم موديل لتجد رسمه مختلفاً عن زملاءه بالرغم أن الموديل واحدة بل لو رسم هذا الفنان الموديل عدة مرات فستتابين فى كل مرة , وهذا يلقى بظلاله على وهم فكرة الحقيقة فلا يوجد شئ إسمه حقيقة بل هى زوايا للرؤى لكل إنسان , ومن هنا يمكن إدراك وهم الإله ليبقى كفكرة تتباين لدى البشر على مر الزمن والمكان بل يمكن أن نؤكد أن كل إنسان ذو رؤية خاصة عن الإله .!
- أتذكر تلك الفترة التى نصحنى مدرس الرسم أن أقلد اللوحات الفنية العالمية وأنسخها بدقة لأدرك ما يُعنيه بهذه النصيحة وهو التعلم من خلال التشبع بالأداء اللونى والخطى والظلال لهؤلاء العظماء ولكنه بالفعل كان عملا سخيفاً مضنياً فأنا أقلد الخطوط والألوان بكل دقة وصرامة لأتبع نفس ميل الخط وإنحرافه وتعرجاته متقيداً بنفس درجة الألوان لأقول فى ذاتى هل الرسام رسم لوحته بتلك الصرامة التى تشبه الخطوط الهندسية أم أن الفرشاة كانت حرة فى يده .
عندما أرسم بحرية لأدع الفرشاة تتحرك بإنسيابية وعفوية دون أن تتوجس خطواتها أدركت جماليات الفن فهو ليس كاميرا ترصد , فالخطوط والألوان تنساب لتغزل عمل فنى رائع بتلقائية وعفوية وعشوائية .. هذا المثال أطرحه بغية إسقاطه على الطبيعة فنحن نندهش بشدة لمدى التعقيد فى الطبيعة ونقول كيف تم ترتيب هذه الجزيئات بتلك البراعة وكيف تم إنجاز هذا المشهد الطبيعى المعقد والجميل بكل تنوعات خطوطه وتعرجاته لأرى أن الطبيعة مثل الرسام الأصلى الذى يرسم بتلقائية وعفوية شديدة بينما الرسام المُقلد يرهق ذاته فى تقليد إنحراف الخط وتعرجاته مرتباً الألوان كما هى , بينما المُبدع رسمها بعفوية بدون هذه الصرامة , ولا أعنى هنا أن وراء الطبيعة مُبدع , فالإبداع معنى وتقييم إنسانى مُختلق ,,من هنا نقول أن ما نتصوره معقداً ومتعمداً هو غير ذلك فهو عفوى عشوائى لا يحتاج لتعقيد فى إنجازه ولكن كوننا نريده منظماً ذو غاية تصورنا أن إنحراف الخط وتعرجاته ذو معنى وحكمة وتعمد من الرسام .
- أتيح لى ممارسة شئ طريف , وهى القدرة على رسم لوحة منشأها شخبطة ليس لها معنى فقد كنت أسمح لأحد رفاقى أن يخربش على صفحة بيضاء أى شخبطة إرتجالية ثم أقوم بتكوين رسم على هذه الشخبطة بأن أضيف إليها من خيالى خطوط ولا ألغى أى خط من شخبطة زميلى أو أمحي أى جزء منها لأعطى فى النهاية رسم له معنى لا تظهر فيه الشخبطة فقد ذابت فى العمل الفنى وأصبحت جزء منه .. هذا المثال له معنى كبير فى فهم الوجود , فالوجود شخبطة بلا معنى لتكون وظيفة عقولنا هى إدماج شخبطات لإيجاد معنى لها , فالشخبطة الأولى حاضرة مثل رسم زميلى ليست بذات معنى لندمج شخابيط أخرى عليها ليتكون مشهد نعطى له معنى , فلو نظرت لأى مشهد وجودى فى مفرداته الصغيرة الأولية فلن تجد له أى معنى لتكون علاقتنا بالوجود هى محاولة إيجاد معانى لشخابيط وجودية مركبة ليتهور البعض ليتوهم أن لشخبطته جدوى وغاية .!
- الحياة كالألوان نمارس إسقاط مجموعة مختلفة من الألوان على ورقة بيضاء , ولكن ليس هناك معنى لأى لون فى ذاته فلا يوجد أى معنى لأى لون إلا ما نسقطه عليه نحن من إحساسنا , كما لا يوجد معنى للون بدون وجود ألوان أخرى فنحن لن ندرك اللون إلا بوجود ألوان أخرى ليتكون الإحساس والإنطباع بل قل الحياة , فتستحيل الحياة مع لون واحد فهذا يعنى أن سبورة الوعى فضاء من لون واحد فيستحيل ان تتكون صورة او مشهد.
- أن نقول أننا نحب اللون الأحمر أو الأخضر ألخ فهذا لأننا ربطنا اللون بإحتياج ورغبات ترسبت داخل أعماقنا فى اللاوعى فيكون حبنا للون الأحمر مثلا لأننا نجده فى التفاحة ذات المذاق اللذيذ , والأصفر لإرتباطه بحرارة الشمس والدفء , والأبيض لأنه حليب وهكذا , وهذا يعنى أن اللون ليس جميل أو قبيح فى ذاته بل بما نسقطه عليه من إنطباع ومن هنا ندرك أن المادة تسبق الوعى ليكون وظيفة الوعى إيجاد إنطباع وأرشفة للمادة .
أن تلون لأنك تسعد بمداعبة أحاسيسك وكفى , فهكذا هى الحياة أن تمارس مزج ألوان مع بعضها فتسعد بهذا المزج . لذا نحن من نمارس خلق معنى من مجموعة ألوان حتى يمكن قبول الحياة والتعايش فيها ولكن تذكر إنك من وضعت المعنى على الألوان.
- الفنان لا يرى الأشياء كما هى بل يضع إحساسه وإنطباعه على كل خط ولون , لذا نستطيع أن نفهم الحياة من خلال الفنان , كما فى داخل كل منا بلا إستثناء رؤية فنان ولكن المهارات نسبية بالطبع .. فنحن نسقط إنطباعاتنا وأحاسيسنا على الأشياء لتعطى معنى ورؤية فلا نعرف العيش فى الحياة كعدسة كاميرا , ولكن فلنتذكر أن الإنطباع والإحساس تكون من وجود مكونات مادية مُستقلة عنا وأن الأشياء ليست كينونة مستقلة فى ذاتها .. لكن قد يقول قائل أننا نتفق كثيراً على تقييم الأشياء وهذا صحيح لأننا بشر متشابهون فى تجاربنا وتكويننا البيولوجى والنفسى وجيناتنا وقدرتنا على تصدير مدراكنا وأحاسيسنا .
- لا أعتقد بفكرة أن العمل الفنى التشكيلى يبرز قصة أو رسالة أو معنى معنوى فلندع هذا لأصحاب الشعر والتمثيل , فالتشكيل بالألوان معزوفة حسية ذات خصوصية بلغة الألوان فقط , لتكون العلاقة بين المُتلقى والعمل الفنى فى جوهرها علاقة تفاعل ولغة إحساس وإنطباع من نوعية خاصة يتم فيها إحساس المتلقى بالعمل الفنى وفق حصيلة هائلة من تاريخ مخزونه التفاعلى مع الطبيعة لتتكون إشارات وخبرات وأحاسيس بالخط واللون .
- وأنا احتسى قهوتى سقطت قطرة من القهوة على أرضية البلاط السيراميك لأدوس عليها بدون أن أفطن ثم ألحظها فى اليوم التالى فأجد قطرة القهوة الجافة ترتسم على شكل وجه فتاة يابانية ذات ملامح أسيوية بزى الشادو.. شئ غريب وطريف ولكنه يعطى إطلالة رائعة لفهم الحياة والوجود .
الصور بالحياة بلا معنى فنحن من نعطيها المعنى من إنطباعاتنا ثم نخزن كل صورة بإنطباع كى يمكن أن نأرشفها فى الدماغ فنحن لسنا آلة تصوير تلتقط الصور وتكتفى بل ترفق مع كل صورة إنطباع حتى ولو كان بسيطاً أو غير مُدرك بشكل واع .
منظر الفتاة اليابانية على أرضية البلاط السيراميك كان يمكن أن تكون بلا أى معنى لو أننى لا أحمل فى ذهنى صور سابقة لملامح الفتيات اليابانيات , وقد لا يرى البعض نفس إنطباعى الذى فكرت فيه إما لعدم التدقيق أو إختلاف زاوية رؤيته عن رؤيتى او لا يوجد فى ذهنه صور سابقة لملامح فتاة يابانية .
أشير لزوجتى إلى ملامح الفتاة اليابانية المتشكلة من قطرة القهوة الجافة وأشير لها بخطوطها , فهكذا تنتقل أفكارنا بتصورات وانطباعات وإحساس من خلال رسومات نحاول أن نرسلها للآخرين بالتعاطى مع الخطوط .. كما تعنى قطرة القهوة التى تشكلت فى عشوائيتها لتعطينى ملامح فتاة يابانية , فهذا يمنحنا فهم أن الصور فى الحياة غير مُتعمدة وعشوائية بل نحن من نشفر الصور ونسقط عليها إنطباعاتنا.
- صورة الفتاة اليابانية التى تخيلتها من قطرة القهوة التى سقطت على الأرض تكون إمتداد لرؤى سابقة كنت أتخيلها دوماً فى الغيوم لأخرج برسم من تشكيلات الغيوم فيخيل لى منظر جانبى (بروفيل) لوجه رجل أو إنسان يمشى مثل الصورتان المرفقتان وهذا مثال قوى على أن الصور فى الطبيعة عشوائية ونحن من نسقط عليها إنطباعاتنا وفق حصيلة ما فى أدمغتنا من مخزون صور , وبالطبع لو لم توجد صورة سابقة فى الدماغ ما كان لنا ان نتلمس شئ فى مشهد الغيوم أى أن الصور المادية تسبق وعينا وتشكله أيضا .
http://images.alwatanvoice.com/news/0778727121/1.jpg
http://www.farfesh.com/pic_server/articles_images/2013/10/09/560_man.png
من الأهمية بمكان إدراك أننا نسقط خبراتنا وصورنا على الأشياء لنتصورها وكلما كانت الخطوط معتادة قريبة من خيالاتنا ومخزون خبراتنا السابقة إستدلينا عليها بسهولة , ولكن هذا ليس شرطاً فهناك قدرة للإنسان على تركيب الصور من سعة خياله فيمكن أن أتصور أشياء من الخطوط لا تتوفر لغيرى كهذه الصور .. فمثل هذه الصور يمكن تخيل ملامح إنسان فى الغيوم من خلال إستخلاص مفردة وجه وما شابه . وهذا الخيال بالرغم أنه تهيؤات وتقديرات فخطوطه من واقع مادى , ومن هنا جاءت فكرة الإله كفكرة خيالية مرسومة بخطوط بشرية , فيستحيل وجود فكرة بدون صور مادية لتستمد كل مكوناتها من الطبيعة التى لا ندرك غيرها .
- لا يعرف الوعى الإنسانى العيش فى الحياة بدون أن يخلق روابط بين الأشياء , فالحياة بالنسبة لنا هى قدرتنا على تجميع الصور بصورة منطقية أو خيالية لخلق مفهوم نتعاطى به فننتج الصور الخيالية الغير موجودة بالواقع من صنع تركيبات لصور , فيمكن أن نلصق صور مختلفة مع بعضها لننتج أفكار مثل عروس البحر , فلن يكلفنا الأمر شيئاً سوى لصق جذع وذيل سمكه مع رأس وصدر إمرأة .. الحصان الطائر لا يحتاج أكثر من جناحين نلصقهما بجانبيه , وليس معنى هذا بالطبع أن ما لا وجود له صار ذو وجود فهى أفكار وصور خيالية من صنع الخيال , ليأتى الحمقى ويقولون لك إثبت لنا أن الحصان المجنح غير موجود .. العملية الإيمانية أنتجت صورها الخيالية وألصقتها ببعضها ولكن مشكلتها تصديق ما أنتجته لتصل أنها تعتبرها وجوداً ولا بأس من تحريك الصور الخيالية لتنتج سيناريوهات وأساطير تجعلها تغضب وتثور وتنتقم .!
- الطبيعة تنتج بعشوائيتها مليارات المناظر التى تتكون من خطوط ومنحنيات تشكل مليارات المناظر التى نراها والتى لا تتطابق مع بعضها ولكن هناك فرق بين لوحة الفنان ولوح الطبيعة .. فلوحة الطبيعة هى المعلم الأول والوحيد والمُنفرد والمُتفرد الذى يعلمنا الخط واللون والوعى , ومنها تكون مهمة الفنان أن يحاكيها ويمتصها ليخرج بخطوط وألوان جديدة هى من وحي الطبيعة أيضاً مضافاً لها حسه ومعانيه وانطباعه الذاتى التى هى صياغة لتشكيلات الخطوط الألوان بإحساس خاص تم فى الداخل , أى أنه يستلهم من الطبيعة علبة الألوان لينتج رسوماته الخاصة عن الطبيعة .
- من خلال تأمل الخط واللون نستطيع أن نفهم وجودنا .. فالدنيا خطوط وألوان ولايوجد من خطها ولونها وظللها .. ندرك أن من العشوائية والفوضى يأتى منها نظام .. لنتحسس وجودنا وندرك أبعادنا بعد أن نتعرى من هذا الغرور الغريب والأنا الغريبة التى تصور لنا أننا محور الكون وكل الأمور قد تم ترتبها بعناية من أجل سواد عيوننا بينما نحن نعيش وجود غير معتنى ولا مهتم , وأن نظرتنا الذاتيه هى التى تتخيل وتتوهم ولكن الوجود غير معنى برؤيتنا ولن يحاسبنا على أوهامنا , فالوجود غير واعى ولا عاقل ولا مريد .
- تطور وعى الإنسان جاء من خلال الرسم , ففى إعتقادى أن الإنسان تخلص من حيوانيته عندما بدأ يرسم خطوطه الأولى على جدران الكهوف فقد حاز على أول شهادة لتطوره الإنسانى من خلال رسم خطوط مغلقة , فلا يندهش أحد من هذه الإشارة التى نراها بسيطة .. فالرسم هو صياغة الإنسان للوجود المادى وفق عقل لم يكتفى بتصوير المشاهد بل اختزنها وبدأ يراجعها ويسقط إحساسه وإنطباعاته عليها بغض النظر عن طبيعة إحساسه ولكنه جَسد موقف فكرى وحسى فلم يكتفى بتخزين الصور بل بإسقاط وعيه وإحساسه عليها .
- الانسان ادرك وأحس بالنهايات والأطراف لأتصور أن فكرة الخط المغلق عبرت عن قدرات ذهنه التى لا تتصور الخطوط المفتوحة اللانهائية , فخلق آلهته من خلال خطوط محددة ومغلقة فلا يستثنى من ذلك معتقد أو دين عن آخر حتى لو إدعى أى معتقد بمقولة إله غير محدود الأطراف وصاحب خطوط ممتدة فهذه سفسطة لغة فلابد أن تجد فى التراث محدوديات للخطوط لتتفاوت الأديان فى تحديد نمنمات الصورة فمنها ما يغرق فى الخطوط المغلقة والالوان ومنها ما يقلل هذه الخطوط والمساحات اللونية .لذا يمكن القول أن المعتقد الذى أسرف فى الخطوط والألوان والنمنمات الكثيرة هو المعتقد الذى حظى على قبول أكثر من البشر حتى لو كان محملا بثقل فرضيات وخرافات كثيرة .
- الحياة هى وعى إرتجالى عفوى بخط ولون فى عشوائية خطوط أدخلناها فى علاقات نظامية لنستوعب الحياة فنحن لا نعرف العيش فى خطوط مفتوحة بلا نهايات ,وهذه الخطوط والألوان لا تكون شئ جميل بقدر أنها كينونة الحياة ومحاولة للتناغم مع الوجود من عشوائية خطوط خلقنا منها معنى لوجودنا .
- فى الختام أعتبر نفسى مخطئاً فى طفولتى عنددما كنت أتصور أن الرسم بدون ممحاة هى قمة التطور والكفاءة , بينما الحقيقة أن روعة الحياة أن تستخدم ممحاة لتزيل خطوط غير دقيقة لتحل مكانها خطوط دقيقة وهكذا طوال عمرك , فهكذا تستخدم الطبيعة الممحاة أيضا من خلال التطور , ومن هنا ندرك غباء فكرة الثوابت والأيدبوجيات والمعتقدات الدوغمائية .
دمتم بخير .
-"من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " أمل الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟