|
لروحه السلام أبيك و أبي..
هيثم بن محمد شطورو
الحوار المتمدن-العدد: 5693 - 2017 / 11 / 9 - 09:12
المحور:
الادب والفن
يحملك على كتـفيه مستمتعا بإحاطة عنقه بساقيك الصغيرتين محدثا إحساسا من الغبطة لم تكتـشفها أنت فيه إلا حينما أصبح لك إبن تحمله على كتـفيك.. كنت موضوع متعته. موضوع امتداده و خلوده الطبيعي.ذاك الخلود الذي تمنحنا إياه الطبيعة. اكتشفت ذلك في إبنك فيك. كنت موضوع أحلامه أو تصوره بمثل ما تحمل من تصور تريده لابنك مع فارق بسيط جدا. انك تحمل نزعة لتجاوز إرادة التحكم و ممارسة تمارين الفصل بينك و بين إبنك قياسا بالفصل الذي حدث بينك و بين أبيك. تريد لإبنك مجموعة من الصور مع انك تعود نفسك على أن إبنك ليس أنت و بالتالي إمكانية أن لا يكون أيا، منها بإحساس يطمئنك بين الحين و الآخر أن جوهره سيكون جوهرك بمثل ما أنت سر أبيك و جوهره مع انك لست هو بمثل ما شكل نفسه في الحياة و شكلته. و في النهاية فهذه مسالة موضوعية خارجة عن إرادتي في معظمها و إنما وعيي بها من شانه أن يهديني لابتداع طرق تفكير و تعامل مع إبنك تختلف عما عشته مع أبيك.. تصور ذاك القانون الموضوعي الذي يحفظ الجواهر الأصيلة التي تربطنا في سلسلة ممتدة عبر التاريخ. تصور بذلك أن حياتـنا الفردية هي في ظاهرها فردية و في عمقها كلية جماعية. تصور أن هذا القانون هو السر القابع وراء التكونات التاريخية و النزعات الوطنية.. فمعلوم أن إبن الاسكافي يمكن أن يكون فيلسوفا، بحكم تطلع الكائنات إلى الارتـقاء و التطور و لكن أيُعقل أن يكون ابن الفيلسوف الصغير أو المتـفلسف إسكافيا؟.. هناك حياة جُل اهتماماتها أن تكون لأجل الأفكار الكبرى. هناك حياة لأجل الاستمتاع بالمحبة الكبرى لأكبر عدد من البشر. لأجل ذلك فقط هناك حياة متسمة بالنضال لأجل الناس الآخرين، بمثل ما هي لأجل الذات التي لا تجد الغبطة الداخلية الناتجة عن الحب.. و بما أن الحب العميق هو حرب و يا لفرادة اللغة العربية و دقتها و حكمتها، فالحرب تبدو حبا طافحا أو حب لا يلتئم مع نفسه إلا بواسطة "راء" الحرب لتـنمحي بعدها فيكون الحب. شطحات العدوان تجعل المرء يركز على عدو هو بدوره كذلك، فينشغل احدهما بالآخر لغاية تدميره و لكن الواقع الحاصل أن كلاهما يغوص في أعماق الآخر و يريد فهمه و يفهم فيه، فان المحصلة أن الحرب طريق انصهار الذوات بعضها ببعض... لأجل ذلك فإن الإرتـقاء الفردي مرتبط بالارتقاء الاجتماعي. حياة الكرامة و حياة الذات لذاتها كما للآخر هي نتيجة العمق الروحي الذي يرقيها. الروح هنا تحديدا هي ما يتعلق بالوعي الفكري.. كانت ديباجة الحقوق مختلفة و كانت الانهيارات العامة تخيفه و لكن بعد فوات الأوان بالنسبة لك. بعد أن زرع بذرته فيك. بعد أن تمكن منك هاجس العالم و تغييره. الانهيارات العالمية تدب شيئا فشيئا في تصورات أبيك للعالم. رأى أن طريق الحياة الممكن لك هو فصلك عنه روحيا، و ما كنت تحارب لأجل أن تكونه و إنما لأجل أن تكون ذاتك التي هي مكونات كلماته بالأساس.. تتذكر حين عدت ذات مرة من المدرسة. كان هو للتو قد وصل إلى البيت. كعادته يجلس في "الفرندة" الطويلة لينعم بالشمس. كان يتحدث مع أمك قائلا فيما معناه: ـ كثيرون حين أراهم كيف يعملون و يسلكون أتأكد أني أمام صنف من القردة العليا الحقيرة.. قصة القردة و الإنسان. لا يمكن لك أبدا أن تعتـقد و لو لجزء من الألف أن الإنسان أصله من السماء مثلما كان الآخرون يقولون. كنت تصدق أبيك حين يقول أن كل جمجمة إنسان تحيلك مباشرة إلى جمجمة "الشامبانزي".. تكتسي الكلمات سحرها كذلك لتـفردها و تميزها عن الكلمات الأخرى في الشارع. كذلك لأنها واضحة تماما وفق مبدأ التـشابه الملحوظ المستـند إلى مبدأ التطور الذي نعاينه في الواقع بوضوح. أما قصة الهبوط من الجنة هذه فهي مضحكة و خرافية بشكل واضح.. في نفس الوقت حين سألته عن "آدم" لم يقل لك أنها خرافة و إنما قصة رمزية. الدين لا يخاطب العلماء إلا قليلا و لكنه يخاطب القردة العليا ليرتـفع بها روحيا إلى مصاف الآلهة... أرادك حقوقيا، محاميا. أردت أن تطيعه، لكنك عن ذلك كنت مستعصيا أمام ذاتك. كل ما في المسالة أنها قوت نزعة الذات نحو الفلسفة و الأدب، أما دراسة الحقوق فكانت عبارة عن جحيم متواصل. تحقيق إرادة أبيك كانت عبارة عن مسيرة في لجج نار حامية. العذوبة كانت هناك، في طفولة الوعي، في تلك المناقـشات مع أبيك، في ما وراء الخير و الشر، فيما يثير الإحساس الممتلئ بالـ"أنا أفكر". في تلك المشاوير معه إلى بعض المقاهي لتـنطبع تلك الروح فيك، تلك الكلمات. أعظمها سحرا كانت هي كلمة "الاشتراكية". حياة الرضائية و التعاون و المناقـشات الفكرية و الرياضة الجسدية و العمل الجماعي على تطوير الذوات و تطوير الحياة العامة و احتـفاء المجموع بالتجديد و الإبداعات و محاربة الحسد و التمايز الشرير القائم على النهم المادي و مباركة التمايز الممتلئ روحيا و إبداعيا و عطاء للاه في سبيل الله، و الانسجام الاجتماعي حول التحرر الذاتي و الجماعي و نبذ كل ما يفرق و الاتحاد حول ما يوحد على أساس الحق. الحرية الجنسية بما هي أحقية الرغبة و العشق و الحب المتبادل بين الذوات الحرة مما يخرج ابتذالية الحيواني البشري القائم على تسليع البشري و تحويله إلى سلعة استهلاكية حتى بصيغ الزواج الشرعي. الحرية الجنسية لأجل الذات الإنسانية الحرة و المترقية إلى الروحي الأخلاقي الذي يفتح الذوات بعضها على بعض شعوريا و فكريا. بذلك تتأسس الجماعة المتماسكة. الجماعة التي تكون كأنها فرد واحد و الفرد الذي يكون جماعة و لكن بحق و بالفعل و ليس ظاهريا بفعل القهر و القمع.. جملة من الأفكار التي تخلق عالما منسجما في الذهن قائم على ما وراء الخير و الشر المحددين وفق البؤس الفكري الموجود.. كنت واعيا بالانهيار المتسرب في ذهنه منذ حرب العراق في 1991، و منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. كان ذلك واضحا في تغلب الكآبة عليه لفترة من الزمن ليست بالقصيرة، حتى انك تتذكر أمك عدة مرات و هي ترفع صوتها قائلة: ـ كله طلع فشوش على قول المصري. اهتم بنفسك و بأبنائك.. شيئا فشيئا بدأت صورة أخرى تظهر. حين بدأت حرب النظام النوفمبري ضد الإسلاميين بدأ يتعاطف معهم و بدأ يقرأ لبعضهم، و بدا التعاطف مع الإسلاميين تعاطفا مع آخر ما تبقى من عالم الايديولجيات.. أما أنت فقد كانت مواقـفك واضحة و مستـقرة لأنك أصلا لم تأخذ الأفكار الإيديولوجية من زاوية التحديدات الإيديولوجية و إنما كنت تـفكر فيها و تعطيعها تأويلاتك و تحديداتك. كنت دوما متصلا بالذات. ذاتوي. تفكر لتلتهم و لتكون الأفكار أفكارك الشخصية و بالتالي تكون فيها كيميائية ذاتك. كنت متمسكا بطفولتك حيث تصنع عديد لعبك بيدك. فقد صنعت ذات مرة رقعة شطرنج و قطعه من "الكردون". كنت متمسكا بمراهقـتك، بالبهجة و القوة و كنت عنيفا نوعا ما في محاولة إرجاعه.. الانكسار كان هو. كان يمثل جيل الانكسار. جيل الانكسار ذاك حاول أن يرمم نفسه وفق أدنى ما يمكن أن يحفظ اشتعال جذوته. كان في نفس الوقت يتراجع و بحكم إدمان إسقاط الذات على الواقع ( و هي جرثومة الايديولوجية)، فانه كان يحكم بتراجعك أنت. كان مستميتا في محاولة انقاذك حسب اعتـقاده من المثالية و القضايا الكبرى و رهن حياتك بالفكر و الكتابة و الأستاذية... الحقيقة كذلك انه كان يرتاب فيك. عنفوان حي لكائن يبحث عن المتعة و البهجة و النشاط الرياضي. لم يجد إجابة مقنعة ربما تـفيد قوة المثالية فيك.. ربما كان ينظر للمسالة أن المثالية لم تكن إلا إرادة تـشبه به و أنها لم تكن صميمية فيك. ربما يُرجع المسالة كذلك إلى قراءة معينة لا أعلمها. أتذكر ذات مرة انه قال انه حين وصل إلى دمشق سنة 1964 للدراسة بجامعتها كان ينتوي دراسة الحقوق، إلا أن الحزب (حزب البعث) طلب منه التوجه لدراسة الفلسفة، لان مشروع الحزب تكوين ما يشبه القسس المبشرين في الكنيسة، إضافة إلى أن اغلب دارسي الفلسفة التونسيين في الجامعات الفرنسية و بالتالي سيجسدون الاغتراب الفكري عن الواقع العربي و متطلباته، و من الأهمية بمكان تكوين مدرسي فلسفة عروبيين يجعلونها أداة للنهضة و الوحدة العربية.. الآن، يمكنك أن تـنظر إلى المسالة بنظرة أخرى. اهتمامه الرئيسي بالقضايا السياسية و لكن وفق اشتغال فكري تبشيري و ليس وفق رغبة في المناصب. حتى في صلب الأحزاب لم تكن المناصب تهمه. بل انه حين جاءته فرصة أن يكون مستـشارا في القضايا القومية لدى الرئيس السابق رفض بدون أي تردد. السياسي المتعفف. لا يمكن للسياسي أن يكون متعففا إلا إذا كان مثاليا. مثالي بمعنى الانشغال بالأفكار و الإيمان بقضية أكبر تـتجاوزه. الحقيقة أن الكائن الذي كانه هو البساطة و الحب الكبير للمجتمع و الناس. هناك موقف شبه مسيحي يقول فيه: المجتمع يبحث عن أيقونات روحية تجسد الشرف و النبل و الحرية. تلك الأيقونات تحفظ توازنه و تجعله يعيش حياة روحية حتى و إن كانت متراوحة. لو قبلت بمنصب المستشار فقد كسرت تلك الأيقونة التي خلقـتها و لدنست الحياة الروحية لعدة ذوات. حتى نقطة ضوء صغيرة عند احدهم فمسئوليتي أن أحافظ على عدم انطفائها. ماذا سيقول آلاف التلاميذ اللذين درسوا عندي؟ سينكسرون و يشعرون بهزيمة القيم و بضحالة الروح و بعبثية المعاني الإنسانية الكبرى التي كنت أتكلم عنها.. الكلمات إن لم تكن دما و لحما كانت مجرد لغو.. و حين الثورة.. عاد أبي إلى ما كان. عاد إلى بهجته القديمة. عيناه عاد بريقهما المشتعل بالحياة و الرغبة في الحياة. تلك البهجة التي عرفتها في الصغر. نشطته الثورة و روح الشباب عادت إليه و لكن في جسد كان قد ترهل.. جسد يأخذه إلى الغياب الحسي عني و عنك..لروحه السلام و قد أنقذها من نيران الجحيم حين لم يخن ذاته في الحياة..لروحه السلام أبيك و أبي..
#هيثم_بن_محمد_شطورو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليسار بين الصعلكة و التحررية
-
-ترامب- أو المشهد الأخير
-
السياسي الوضيع
-
أفق البديل السياسي المطلوب في تونس
-
قاون المصالحة يقلب المشهد السياسي التونسي
-
مصالحة ألامصالحة
-
النداء التقدمي
-
تاريخية القرآن ( من خلال سيرة ابن هشام)
-
الرئيس التونسي يتحدى الشرق البائس
-
زقاق الجن
-
الأيادي القذرة
-
نهاية الفصل الأول من الثورة
-
الدوامة السورية إلى أين؟
-
معركة -بدر-
-
من يخون من؟
-
ضرورة الانبعاث الفكري للثورة العربية
-
انبعاث ثورية السلطة في تونس
-
معركة -المصالحة- في تونس
-
الأخلاق حرية
-
يوم الإضراب العام
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|