عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5692 - 2017 / 11 / 8 - 22:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تعرية العقل
ماذا نقصد بتعرية العقل؟ ومن أي شبء نعريه؟ هل من ذخيرته التأريخية أم من حدوده التي حرص علىأن تبقى دائما ورقة التوت الاخيرة؟, هل هو تجريده من ماضيه أم تجريده من قواعده وركائز عمله ؟ ,والسؤال الأهم هل يمكن حقا أن نفعل ذلك وكيف ؟, وسؤال يتبعه سلاسل من الأسئلة المتفرعة والمتنوعة لكنها تصب أخيرا في معنى التعرية التي يطرحها هذا التساؤل, كلما أمكننا أن نقهم التعرية سنجد الكثير من الإجابات حاضرة, العقل كأي كائن حي وجودي يحتاج إلى أسباب ومبررات وقواعد وقوانين تتعلق بوجوده أولا والغرض منها أثبات ضرورته كذات .
فكلما تيسر منها ما يتيسر وتم التعرف عليها دون أن يصطدم بالمشبهات والمتشابهات والتشويش الذي تحدثه الإنفعات السلبية على نظام العمل لديه، يصبح العقل هنا فاعلا ناطقا بما فيه من قوة وقدرة على الخلق والتجديد والإبداع لأنه مبرمج ومكيف بالقوة البدوية على ذلك، ومجيبا بالتأكيد عما هو في مضمر مجموعة أخرى من التساؤلات والإشكاليات عن الأسباب والمبررات والعلل التي تتعلق بكيفية الفعل التعقلي المنتج لديه، ويمكننا من خلال هذه الأجابات أن نستحضر ذهنيا صور النتيجة أو تصور تلك النتائج الممكنة لهذا الفعل، وأثره في الإنسان أولا وفي المحيط ثانيا وهكذا تتسلسل النتائج والصور بالتوالي وبالتتالي وبتراكم وتكرار الفعل.
أي أن العقل كموضوع يجب النظر إليه مرة على أنه ماهية وجودية فاعلة بعد أن نثبت له ماهيته المنفعلة التي كونته أصلا, بعدها سيصار إلى محاكمة العقل كفاعل ومحاكمة الفعل العقلي كحدوث بمنطق مجرد وبالضرورة سيكون الحاكم خارجي عنه كموضوع, فلو كان الاحتكام والامتحان بموجب منطقه هو لا يمكننا أن نجعل منه الخصم والحكم حين يتحد الفاعل والمنفعل معا في وجود واحد, وهذا ما نسميه عبث, إذا حتى تكون المحاكمة حقيقية وصادقة وموضوعية لا بد لنا من منطق خارجي حقيقي, الإشكال هنا من أين لنا بمنطق خارجي طالما أن الإنسان هو الكائن العاقل الوحيد في هذا الوجود ؟.
حتى لو جئنا بمنطق خارجي من سيكون المقرر في المحاكمة أي ما هي السلطة التي ستفصل بالنزاع وتقرر الحكم وتبسطه, إذا ستتكرر نفس الإشكالية ونفس النتائج التي هربنا منها أولا, مفهوم تعرية العقل بالملخص المبسط هو نزع سلطته في التقرير والحكم بما نسب له كفعل وإسناد هذه السلطة إلى قوة محايدة خارجه عنه, ربما التعرية هنا كعملية حقيقية افتراضا عبثيا طالما أن لا قوة هناك قادرة على الفصل والتقرير, فأما أن نؤمن بقوى غيبية نقبلها حكما وندين لها بالحكم ونقبل نتائجها على أي حال, أو نرفض مبدأ التعرية ويبقى العقل هو الخصم وهو الحكم وبالتالي ووفق المبادئ المعروفة عن العقل بأنه قاصر وغير مطلق وغير تمامي ومستحيل عليه الكمال، لا يمكن التسليم برفضه كله ولا يمكن التسليم بقبوله كله, فلا بد أذن أن نقبل بما ينتجه هو من أشكال معرفيه منها العلم ومنها الدين.
البعض يقول أن ما سلمت به أنفا من قصورية العقل هو بالحقيقة تسليم بالقصورية للعقل الفرد, وأن هناك ما يسمى بالعقل الجمعي وهو صورة من صور العقل عندما يتشكل من تنوع في تشكيلاته المجمعة أو المجموعة في أطارأكبر، هذا العقل الأكبر لو أردنا يتجريد معرفته عمليا لا يعدو أن يكون عقل فرد مسيطر بقوة خاصة تمثل أتجاه أو تميل لأتجاه أما سلطوي وأما روحي أو حتى يمكن أن يكون وهم، بالأخر فهو يعمل وفقا لنظام واحد موحد يمكننا أن نحتكم به وله بما ينتج من حكم تشاركي ذا أهلية جادة وحقيقية للتسليم به, ولا داع أصلا لافتراض العبثية أو أنها حكم متسرع.
الجواب بكل بساطة عن مفهوم العقل الجمعي الموجه ليكون حياديا ويمكن أن يكون أهلا ومحلا للحكم في حال أن يتخلى عن مسلماته الأولى, التي هي في التأكيد لا تخرج عن مسلمات وعقد العقل الفرد، خاصة وأن هذه المسلمات كمقدمات ومناهج ونتائج تبقى كما نعلم مؤطرة بخيارات الواقع وأختياراته، فهي أما أن تكون منحازة للعلم بالكلية وتهمل الجوانب المثالية بصورة أو بأخرى، أو تكون منحازة للدين وقيمه وأحكامه ومصالحه الخاصة والتي تتعلق بوجوده هو أصلا، وقليلا ما نجد حالة تتوسط بينهما بحيادية عقلانية وأحيانا ترفضهما معا, وفي حالات أخرى قد لا تؤمن أصلا بحقها في المحاكمة, عليه يكون اللجوء إلى التجريد صعب جدا بل ضرب من اللا واقعية التسليم به .
فكل عقل فاعل ومنفعل ومنتج ومتحرك كما قلنا لا ينطق في الحكم على الأشياء من فراغ، ولا بد له من مجموعة من الأليات والوسائل والنظم والمقدمات وشبكة من المصفوفات الذهنية المسبقة منها الواعي ومنها المخزن في القاع العقلي، كي تساعد وتمهد الطريق لبناء الحكم وفق منطقية سليمة تمتلك قدرة على أستحصال وحيازة اليقين الأخر, أو أنها تتفق على منهج حيادي تقريري يجعل الدين والعلم كنظائر يلاحظ فيهما أساسيات المنهج بتجرد ثم يحكم بما هو الأقرب لأعلى درجات التعقل, وهنا نرجع إلى نفس المربع الأول من يقرر حيادية المنهج وتجرد العقل وكيفية قياس هذا التجرد.
العقل الجمعي لا يمكن أن يكون مفهوم حقيقي ومناسب للحكم على واقع العقل الفردي ككيان مجرد, قد يصلح في النظر بقضايا انتاجية أخرى بما يمثله من انحياز طبيعي عند الإنسان لجهة موضوع ما، أو رفض له وإن لم يشترط الجزم بكون نتيجة الاحتكام هنا مثالية أو حقيقية، فكثيرا من الأحكام التي يصدرها العقل الجمعي والتي عدت في وقت ما حقيقة, أظهرت التجربة والتطور العقلي والمعرفي أنه كان أصل التسليم بها ليس بمحله، وأن الاحتكام لها كان خاطئا بل ومضللا أيضا, إذن لا يمكن بأي حال من الأحوال تعرية العقل أو حتى الافتراض بإمكانية التعرية ومن ثم البناء على المفترض الخيالي، لذا قلنا أنه عبث لأن الخيال وهو نوع من توهم الصحة لا يسلم به أيضا.
لم يمر العلم بالتجربة التأريخية بمفهومها صراع كما مر بها الدين وتأثر سلبيا بمقتضيات الصراه ونتائجه، والسبب يعود للطبيعة المختلفة بالتعاطي مع الما حولية خاصة وأن العلم لا يتعاطى بالمثل والقيم والأخلاقيات, الدين يأخذ منحى وجداني قد تتغلب به العاطفة الإنسانية أو الذوقية النفسية دورا في التحكيم العقلي، وهو قابل طبيعي لها لما في عقل الإنسان من إيجابية تكوينية للتعاطي مع الوجدانيات بصور مختلفة تصل أحيانا حد التناقض والتضارب, هنا يكون من السهل خداع العقل واستغفاله من حيث التقرير والتسليم كون طبيعيا يميل أكثر نحو القيم المثالية والروحية، أو لنقل بشكل أخر يسهل الوجدان الإنساني للعقل المسامحة في بعض المنطقيات العقلية التي تنتسب للجزء المتخلل من نظامه أي الجزء الذي لا يرفض عادة المسائل المتصلة به ككائن متحسس مثار ويثار بسهوله, وهذا الأمر ليس حكرا على الدين فقط بل يشمل أيضا طائفة اخرى مما يتصل بوصف الوجدانيات منها الحب والكراهية والرغبة بالسلام والخوف والشجاعة، وكثيرا من المواضيع التي لا يحكمها المنطق العلمي المجرد بل تؤثر فيه القوى النفسية بقوة.
العلم لم يخضع لهذه التجربة وبهذه الحدية العنيفة وإن تغلبت في بعض الأحيان مفاهيم خارجة عن المنطق العلمي، ولكنها من السهل أن تنهار لأن العلم محكوم بتقريراته على عنصري التجربة والبرهان, فلا يمكن تصديق الزعم العلمي ايا كان شكله أو مصدره دون تجربة وبرهان، حتى في بعض المشتركات الفكرية بين الدين والعقل المجرد العملي، فلا يمكن ان نحتكم للزعم الديني إن لم يوافق البرهان والحجة العلمية ويخضع للتجربة والقياس والتنبؤ, عليه فالتجربة العلمية المسيطر على كشفها وانكشافها عامل الزمن وعامل الزمن وحده دون تدخل خارجي أيضا هي الأسرع في التصديق اليقيني.
تطول وتقصر التجربة في العلم والدين وهذا ليس مهما المهم أن لا يلجأ الإنسان للجانب السلبي في العقل المصنوع والمتكون حسيا، وأن لا يدع للعقل الفطري البدوي أن يستمر بتقريراته الإيجابية الطبيعية للخروج من طفولته التي لم تصل بعد لحد المراقة قبل النضج الكامل, العقل في طفولته يستهوي البساطة والتسليم ويبتعد عن التفكيك والتركيب وينتهج مبدأ المسامحة في كل شيء، دون أن يخضع بتسليماته هذه لمنطق جاد رصين ومتكامل, ولأن العقل الطفولي منسوبا لحاله وليس لمحله الموضوعي دوما فهو عقل استرخائي حالم وأحياني خيالي كثير التوهم والتخيل.
حتى بعض الأوهام سواء كانت ملتصقة بالدين أو بالعلم تدين لبقائها للعقل الطفولي الذي لا يجد فرصة للانفلات من أميته الطبيعية، أو لا تتيح له المقدمات النفسية الذاتية والمادية الموضوعية فرصة لأن ينفك عنها, لذا فنجد مع كون العقل واحد في تركيبته التكوينية يتسارع في البلوغ والفطام في المجتمع المتحرك المتسارع المركب من قيم ثقافية وفكرية عديدة، أكثر بكثير من تسارعه ونموه في المجتمعات والبيئات الأكثر صفاءً وأقل ديناميكية وأقل في وجود المحفزات التكوينية, وهذا يناقض الزعم العنصري بأن البعض من الأعراق والعناصر البشرية لديها قدرة تكوينية للبلوغ العقلي أكثر من غيرها وأخرى صعبة البلوغ بالقوة الطبيعية، وهو ما ينسب للبداوة من عدم قابلية البلوغ التكيفي قد يدخل من هذا الباب التبريري.
العقل كائن حي يخضع في نشأته وتكوينه ونموه لنفس العوامل والعناصر التي تتحكم بكل كائن حي يتطور وفقا لقوانين واحدة, عند تساوي الظروف تتساوى النتائج وإن بتفاوت قليل لخصيصة الإبداع من التأمل، وهذه ميزة لا يتساوى فيها الجميع لعد تساوي البيئات الحاضنة والمقدمات المهيئة له, أما في وجود اختلال موضوعي أو في غياب بعض المشتركات الآسية، وعند تحقق مبدأ التساوي والتقابل والنظارة نتوقع حقيقة نتائج مختلفة وأحيانا غير مفهومة لنا أو للأخر، وأيضا لخصيصة نادرة في العقل البشري هو ما يسمى العبقرية أو اجتراح المعجز, حتى في هذه النقطة هناك قاعدة عامة كقانون وهناك استثناء متوقع منه, فالحكم المجرد الحقيقي لا يدرك الاستثناء هذا ويعمم التجريد وكأنه قانون مطلق.
أذن علينا دراسة التجربة العقلية بشقيها الديني والعلمي بحقائق العقل وطبائعه التكوينية، ومنها حق العقل في التقرير وإلزام نفسه بما قرر على أن يكون فيه مستعدا دوما للدفاع عن تسليماته هذه، ليس بصورة نزاع وخصومة بل من خلال الترقي والبلوغ أولا، وهذا يحتاج لمزيد من التجربة التاريخية والعملية والفحص المتواصل لها، وأيضا من خلال قبول تسليم الأخر بما في عقله من تقريرات جديدة, هنا يمكننا أن نطلق مفهوم أن يكون العقل ديمقراطي وشفاف وقابل أساسي طبيعي للتجربة، وأن هذا التجربة يجب أن لا تحتكم للزمن الراهن وتتوقف عنده، بل تستمر التجربة طالما تدرك الزمن والزمن يفعل بها ما يحفزها نحو الاستمرارية.
نعود للأسئلة الحساسة لماذا البعض يناصب التجربة الدينية العداء؟ هل الإيمان العلمي هو الدافع الرئيسي؟ أم أن العقل بحد ذاته هو المحفز الرئيسي لهذا العداء؟ الجواب ببساطة هو نفي الافتراض الثاني وذلك يعود لبديهية أساسها لو أن الإنسان خلي بينه وبين عقله بدون نفرض عليه قوانين أنتجها هو ونلزمه بها قهرا، لا يمكن إلا أن يسلم للتجربة الدينية أحقيتها لأنها تنتمي للعقل الفطري أكثر مثل ما ينتمي العلم له, فلا يمكن والحال هنا أن يتبرأ العقل من ما أنتج متوافقا مع فطريته الطبيعية، وبحجة أن بعض الاضطراب والتناقض حاصل في موضوع الدين خاصة مع منتج أخر له تجرد من المثالية ولجأ للحسية المادية التجريبية التي لا يمكن أن تكون فطرية ولا تخضع للطبيعة الفردية.
لكن عليه أن يسعى لأن يصحح الفهم المتمظهر خارجا عنه كشكل منفصل عن الفكرة الدينية مجردة من أطارها التجسيدي، لا أن يصحح الجوهر تبديلا أو تحويلا لأن تصحيح الجوهر سيكون تبديلا في أصل الموضوع، الذهب والفضة من حيث الجوهر يختلفان في عدد الذرات المكونة للجزيء الواحد لكل منهم، واختلاف العدد في تركيب هذه الذرة تصحيح أو تعديل في التركيب يتحول الجزيء الى عنصر أخر, أي أن العقل لا يمكنه تصحيح العلم جوهريا لأن سنجد أنفسنا أما شيء أخر غير العلم، كذلك لا يمكن تصحيح جوهر الدين من حيث هو فكرة مجردة بمضوع ذاتها، فسنجد حالنا أمام شيء أخر مختلف لا ينتمي له ولا يماثله في الحقيقة.
إشكالية العقل مع التجربة الدينية تتمحور حول قابليته ذاتيا لأن يخدع أو ينخدع بمظاهر الظاهرة الدينية (التعبد) وليس في جوهر الدين, العقل ينخدع دائما بالمظاهر الشكلية الخارجية إن لم يكن قادرا دوما على المبادرة والحكم، أي عليه أنه يكون سلبيا تشكيكيا رافضا كطبع يكتسبه من ذات التجربة لكل موضوع يتداوله أو يتناوله بالفحص، ليتحول بذلك إلى عقل نقدي تجريبي يقف موقف الفاحص الدقيق لكل ما يمكنه الاطلاع عليه.
هذه القابلية والقوة طبيعية موجوده بدرجات في كل عقل إنساني ولكن هناك من يزرع في العقل معطيات وحدود وموانع تحجز ما بين الحقيقة وبين الظاهر، من أثارها وإن كان ما ينظر أصلا هو ليس الحقيقة أو ظل الحقيقية وإنما وهم مرسوم بخداع ما يرى, لذا لا يمتنع أن يفحص ما يعطلها لسبب في بطئ النمو والمكوث طويلا في مرحلة طفولة العقل التي تؤثر على المسارات اللاحقة له، ويبقى العقل مستمتعا بطفيليته المعتمدة دوما على الغير في التوجيه والتعيين والتعليم، مما يسبب له حب التكاسل والتطفل على مجهود العقل الخارجي الأخر، المتبني هو أصلا حالة بقاء العقل في قصوريته الممتدة كي لا ينهض من واقعه الحالي نحو واقع البلوغ والنمو الطبيعي لكل عقل يقود ولا يقاد من الاخرين.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟