|
خمسة فنانين يخلِّدون ذاكرة المدن السورية
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 5683 - 2017 / 10 / 29 - 12:56
المحور:
الادب والفن
أفتُتِح في "غاليري ويلِزدن" بلندن معرض مشترك لخمسة فنانين سوريين ينتمون إلى تيارات وأجيال مختلفة بعضم لا يزال يقيم في سوريا مثل غسان جَديد ونزار صابور، وبعضهم الآخر انتقل للعيش في المنافي العربية والأوروبية حيث رحل خالد الساعي إلى الإمارات العربية المتحدة، بينما التجأ منهل عيسى إلى فرنسا، أما فيرجيني أراكيليان فقد يمّمت وجهها شطر الولايات المتحدة الأميركية. وقد انضوى المعرض تحت عنوان "ذكريات المدن" وسوف يستمر لغاية الحادي والعشرين من شهر أكتوبر الجاري. تتمحور ثيمة المعرض الرئيسة على ثلاثة أسئلة جوهرية مفادها: ما علاقة الفنان بالمدينة؟ وما هي رؤيته الفنية لها؟ وكيف يمكن التعاطي معها إذا ابتعد عنها أو ظلّ مُرابطًا ضمن حدودها الجغرافية المُتعارَف عليها؟ أكبر الفنانين الخمسة سنًا هو غسّان جَديد من مواليد طرطوس عام 1946، درس الرسم في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، وتخرج فيها عام 1971، وقد اشترك في هذا المعرض بخمس لوحات أنجزها العام الماضي وتحمل كلها اسم "طرطوس" لكن المتأمل في هذه الأعمال الفنية سيكتشف من دون عناء أن الفنان لم يرسم ما تراه العين المجرّدة، وإنما رسم فقط ما سرّبته ذاكرته الفردية البصرية، وما تسلل من لا وعيه الخاص لحظة قيلولة الرقيب فبدت أعماله الفنية وكأنها لوحات حُلُمية وجدت طريقها إلى السطح التصويري في غفلة من الزمن حتى أن تقنيتها التعبيرية التي تميل إلى المنحى التجريدي بدت بخطوطها الليّنة المطواعة وكأنها مُنفّذة بجرأة طفل فنان لكنه يعرف ماذا يريد. تُذكِّر لوحاته بأعمال كارل أبل وكورنيه لكنها لا تحيل إليهما مباشرة. لا يمكن إغفال تقنية التضاد اللوني في مجمل أعماله حيث تتجاور الألوان الحارّة والباردة، الصريحة والممزوجة التي يتسيّد فيها الفرح والحيوية والتوهج. ومن بين أطيافه الحُلُمية تبرز معالم المدينة التي استقرت في ذاكرته مثل الكاتدرائية، وبرج طرطوس، وسورها القديم وسواها من المعالم المحبّبة إلى نفسه. اشترك الفنان نزار صابور بخمس لوحات صغيرة لكنها معبِّرة جدًا وتحمل جميعها اسم "ذاكرة المدينة". فقد ولد في اللاذقية عام 1958 وأحبّ كل المدن والمواقع الأثرية سواء في مسقط رأسه أو في بقية المدن السورية، فلاغرابة أن تتسلل إلى أعماله الفنية التي يُحضِّر لها سلفًا قبل أن يشرع في تنفيذها على الكانفاس أو الخشب أو الورق أو أي سطح تصويري آخر. عُرف صابور برسومه للأيقونات التدمرية التي تعود إلى 1800 سنة لكنه استدار بكل شغفه ليجسِّد مدينتي معلولا وصيدنايا المعروفتين برمزيتهما المسيحية التي لم يجرؤ أحد على حرقهما أو تدميرهما على مرّ التاريخ لكن ألسنة الحرب والنيران امتدت إليهما عام 2014 وأخذت منهما مأخذًا كبيرًا. تتميز أعمال صابور بتقنيتها الحزينة المرهفة التي يحاول بواسطتها أن يخلّد الأبدية من خلال إحياء الماضي في الحاضر، ويسعى في مصغّراته أن يقدم صورًا بصرية سهلة القراءة، وجميلة التكوين. ومَن يتمعن في بعض لوحاته سيجد أنها منفّذة بطريقة التطريس Palimpsest وكأنه يوحي بتماهي الماضي بالحاضر. لابد من الإشارة إلى أن لوحاته الخمس في هذا المعرض مريحة بصريًا فثمة مربع صغير مرسوم بألوان هادئة داخل مربع أكبر منفّذ بالرماد وهي المادة التي يستعملها كثيرًا في أعماله الفنية التي يعالج فيها فكرة الموت والتآكل والانحلال. في كل مجموعة أشجار ثمة شجرة شاهقة لا تُخطئها العين ولوحات الفنان منهل عيسى تشبه الأشجار المتسامقة التي تتميّز بحضورها الاحتفائي الباذخ الذي يجذب المتلقي ويُرغمه على الغوص في متون الثيمات وهوامش الأفكار الثانوية التي تتشظى تباعًا مثل الألعاب النارية التي تضيء عتمة السماء. وعلى الرغم من سمّو الموضوعات التي يطرحها في أعماله الفنية، وحسّاسية خطابها البصَري إلا أنّ تقنيته الصادمة هي التي تجبر المُشاهِد لأن يتسمّر أمام لوحاته مدهوشًا وهو يرى أن عجلات السيارات قد أستُعملت كأداة من أدوات الرسم لغاية مُحددة تعكس رأي الفنان في الحرب الكونية التي تدور رحاها في المدن والقرى السورية. اشترك منهل بثلاث لوحات كبيرة الحجم كي تضمّ فضاءاتها التصويرية جبل "قاسيون" على وجه التحديد وجانبًا من الأحياء الدمشقية التي تلوذ بسفح هذا الجبل الخالد المحفور في الذاكرة لكن الفنان قدّم هذه الفكرة بمعالجتين لونيتين مختلفتين، الأولى يتزاوج فيها الأسود مع الأزرق بدرجاته اللونية المختلفة ليعبِّر عن رؤيته الشخصية التي تمثلت في لوحة "قاسيون 1"، أما اللوحة الثانية "قاسيون 2" فيتسيّد فيها الأحمر الدموي الذي يتخفّف شيئًا فشيئًا إلى البنفسجي الأقل وطأة ويستقر في خاتمة المطاف إلى درجاته الزهرية التي تهيمن على المدينة برمتها. كما تخضع لوحة "حلب" إلى ذات الثيمة والتقنية التي يؤكد من خلالها الفنان منهل عيسى بأن المدن السورية منقوشة في ذاكرته، ومحفورة في عصب القلب، وأنها لن تغيب فهي على حد قوله "تشبه الفن والحب والأحلام التي لا تنطفئ أبدًا". يبدو وجود الخطاط خالد الساعي في هذا المعرض شاذًا لأن الخط يقترن بالزخرفة الإسلامية ولا يرتبط بالتشكيل كثيرًا، ولعل صلة الخطاط الوحيدة في هذا المعرض هي ثيمة "ذاكرة المدن" التي جمعت أعمال الفنانين الخمسة في صالة واحدة. اشترك خالد الساعي بأربعة أعمال فنية تتناول أربع مدن وهي أصيلة ودمشق والميادين والمدينة السماوية لكن المتأمل في هذه الأعمال لا يجد أثرًا ملموسًا للمدن المشار إليها سلفًا وذلك لغلبة المنحى التجريدي على أعماله الفنية. ولنفترض أن هناك ملامح متوارية للمدن الثلاث قد تصطادها العين المدربة على معرفة مَشاهد المدن ومعالمها الأثرية لكن الأعمال نفسها خالية من أي معْلمٍ شاخص باستثناء بعض العمارات الشاهقة وواجهة البيوت في خلفية لوحة "دمشق" التي قد يتعرّف عليها المُشاهِد السوري الذي يتوفر على ذاكرة بصرية قوية وحسّاسة في الوقت ذاته. إذا كان ثمة مفاجأة أخرى في هذا المعرض فهي لوحات الفنانة السورية من أصل أرمني فيرجيني أراكيليان التي قدِمت من أورلاندو الأميركية وفي جعبتها 12 عملاً فنيًا، تسعة منها بقياس 25 X25سم، والثلاثة الباقيات بقياس 50 X50 سم وهي تشتمل على لوحات لبلدات سورية وأماكن دمشقية كانت تتردد عليها فيرجيني مثل "حديقة التجارة"، "مركز المدينة"، "البزورية"، "كسب"، "صلفنة"، إضافة إلى مَشاهِد أحبّتها مثل النافورة، شرفة دمشقية، النارنجة، مجنونة وما إلى ذلك. ما يميز أعمال هذه الفنانة الشابة هو ثيماتها المكانية، وتقنيتها العفوية السلسة، وتفجّر ألوانها الشرقية الصريحة التي تخطف القلوب قبل الأبصار وهي تذكِّر ببعض أقطاب حركة "كوبرا" أيضًا وآخرين يتصفون بنزعتهم الطفولية الجريئة في الخطوط والتكوينات والألوان مثل فنان البوب آرت ديفيد هوكني الذي تكتظ لوحاته بالألوان الصارخة التي تغيّر مزاج المتلقي وتبعث في نفسه الفرح والنشوة القصوى. تحتاج أعمال الفنانَين منهل عيسى ونزار صابور إلى قراءة نفسية للعمل الفني فقد بذل الإثنان جهودًا مضنية في إنجاز أعمالهما الفنية التي تحتاج إلى بعض المفاتيح لسبر أغوار الموضوعات التي يجسّدانها على السطوح التصويرية فثمة رؤىً وأفكار عميقة في كل عمل فني وثمة تخطيط مدروس يسبق تنفيذ هذه الأعمال الفنية التي سيترسخ بعضها في ذاكرة المتلقين حتمًا.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيلم فوتوكوبي وقصور الرؤية الإخراجية
-
شريط -وليلي-. . أداء معبِّر لقصة سينمائية هزيلة
-
عقوبة الإعدام بين العدالة والانتقام
-
بداية موفقة لمهرجان الجونة السينمائي
-
حكايات سينمائية تتجاوز لذة السرد
-
اللمسات الإنسانية في الأفلام الروائية لمهرجان الجونة السينما
...
-
معرض استعادي للفنانة البريطانية راتشيل وايتريد في«تيت غاليري
...
-
الفنان علي الموسوي بين فكرة الأمومة وهاجس الجسد الإنساني
-
مُعجم طنجة . . سيرة مدينة تحتفي بالثقافة المُضادّة
-
رسائل خاتون بغداد ودورها في تعرية المواقف المحجوبة
-
فرناندو بيسوّا. . الكاتب المختبئ وراء أنداده السبعين
-
فرق يهودية معاصرة تتنازعها الاختلافات الدينية
-
الفنان التشكيلي سعد علي: ما أزال تائهًا بين ثنايا الروح الحل
...
-
الفنانة مونيك باستيانس . . شغف بالطبيعة ونزوع لتجميلها
-
البوح وسيلة للاعتراف في النص السردي
-
الكتابة والحياة: سيرة جريئة كتبها علي الشوك قبل ضمور الذاكرة
-
محمد شكري جميل . . عرّاب السينما العراقية بلا مُنازع
-
حكاية البنت التي طارت عصافيرها: لغة سلسة وبناء قصصي متماسك
-
رازقي . . رواية جريئة تفتقر إلى الثيمة الرئيسة
-
اللاجئ العراقي وثنائية الهجرة والحنين إلى الوطن
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|