|
اليسار بين الصعلكة و التحررية
هيثم بن محمد شطورو
الحوار المتمدن-العدد: 5683 - 2017 / 10 / 29 - 11:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
خطب "ستالين" في 1931 متهجما على الفلسفة المثالية و مهددا أصحابها، و تصور كيف تحولت ما سمي بـ"الفلسفة الروسية" إلى يمينية و رجعية خطرا على الدولة من قبل "معهد موسكو للفلاسفة الحمر". المدرسة الميكانيكية مثلا القائمة على مبدأ الدراسة للأصول الكيميائية و الفيزيائية لأي ظاهرة حيوية تم اعتبارها تهديدا رجعيا يمينيا للدولة السوفياتية.. اتهم "ستالين" بالخيانة لمن اعتبرهم قد سلموا بالمنهج الجدلي الهيغلي دون أن يحولوه إلى جدل مادي وفق التحديدات الماركسية.. انظر أي جحيم تتحول فيه الفلسفة إلى محاكمات محاكم التـفتيش الشيوعية.. انك اليوم لتجد نفسك مجبرا على الضحك بتهكم من التعامل الشيوعي مع الفلسفة.. انك لتلعن الشيوعية حين تـقـف عند تلك التعبيرات التي تم تداولها شيوعيا على أساس كونها تهما خطيرة تمس الأمن القومي من مثل: التجريدية و المثالية و المدرسية و الأمية السياسية.. قام "اتحاد الجمهوريات السوفياتية" على أساس تحويل الماركسية إلى عقيدة باعتبارها فلسفة، بينما "ماركس" ذاته اخرج نفسه من نادي الفلاسفة معتبرا الفلسفة تـقوم بتـفسير العالم، أما هو فقد اعتبر نفسه صانعا لنظرية واصفا إياها بالعلمية لأجل تغيير العالم، مع أن تكوينه فلسفي و قد كان قد أحرز الدكتوراه من جامعة "يينا" الألمانية سنة 1841 في فلسفة "ابيقور" (341ـ270 قم) صاحب المذهب الذري الذي اخذ منه مبدأ الصدفة في التكوين نتاج تجمع الذرات، و "ديموقريطس" (460ـ361 ق م) الذي عمق النظرية الذرية حتى انه يعتبر النفس مادية تتألف من ذرات كروية.. في الوقت الذي ادعى فيه "ماركس" انه جعل من الديالكتيك الهيغلي المثالي يمشي على قدميه، فانه في الحقيقة لم يعرب إلا عن قصور مفضوح في الإلمام بالديالكتيك الهيغلي لأنه أشمل و واقعي و تاريخي و ثري يلم بمختلف حالات الوعي الإنساني، و ما وصف المثالية الموضوعية سوى إقرار بان العالم الإنساني هو تاريخ الوعي الإنساني. لم يقم ماركس بقلب الديالكتيك الهيغلي و إنما قلب نفسه في حقيقة الأمر. أي انه وضع نفسه في حالة السالب في تـقابل مع الرأسمالية و هي في النهاية مرحلة صراع يتم فيها تجاوزه و تجاوز الرأسمالية إلى مركب جديد لا يخرج في نهاية الأمر عن صيرورة تحقـق متـقدم للفكرة الجوهرية لفلسفة التـنوير و التي هي الحرية و المساواة الإنسانية.. جل النظرية الماركسية متأسسة على عملية نقدية لواقع العمال و الرأسمالية في أوربا و خاصة في بريطانيا في القرن التاسع عشر. أما حين نتحدث عن الفلسفة باعتبارها فكرا شموليا متعلق بالبحث في الكليات، فانه غير مرتبط بطرف مقابل في الواقع الحي فهو منفلت من اسر الزمان و المكان نافذا إلى جوهر الأشياء و ليس مظاهرها.. كان "ماركس" قد عبر عن إعجابه الشديد بجدلية السيد و العبد عند "هيغل" و التي تُـفيد بانقلاب السيد إلى عبد للعبد و انقلاب العبد إلى سيد للسيد بواسطة العبودية للطبيعة و العمل، و ما قام به هو تحديد العبد بالعامل و السيد بالرأسمالي أو البورجوازي. كما أن "ماركس" أخـذ تحديد الكيان الإنساني بالعمل من "هيغل". يبدو انه ليس من باب الأخلاق الفلسفية فعل الصعلكة و الادعاء بابتداع مفاهيم مأخوذة و زيادة على ذلك إطلاق الأوصاف الابتذالية و السالبة ممن أخذت منه المفاهيم. فالمفاهيم الفلسفية برغم ارتباطها بالعقل الإنساني أساسا إلا أن الفلسفات فلاسفة و من باب النزاهة الفلسفية و الأخلاق المطلوبة للمفكر أن يكون نزيها.. كان "ماركس" بالنسبة لهيغل ليس مصححا لديالكتيكه و إنما هو بمثابة فاعل الصعلكة على "هيغل". انبنى الاتحاد السوفياتي على أساس هذه الصعلكة الفكرية بل انه جعل نفسه حارسا لها، و بالتالي حارسا للامشروعية و بالتالي فقد قام على الامشروعية الفكرية. هذه هي الجرثومة الااخلاقية الأساسية الفاتكة بالشيوعية و الاشتراكية الشيوعية.. لم تأخذ النظرية الماركسية حضها من النجاح إلا في روسيا أساسا. لماذا؟ لان الفلسفة الروسية في الأدب في القرن 19 كانت تأخذ أفكار الحرية و العدالة من المتون الفلسفية الأوربية و الألمانية أساسا أي العقلانية الألمانية التي تتوافق مع الصوفية الاورتودكسية الروسية. و كذلك للتخلف السياسي و الاجتماعي لنظام القيصر المستبد القروسطي. إذن، لان روسيا أو المثـقف الروسي أو الانتلجنسيا الروسية كانت تطلب تحديث روسيا. تحديث روسيا ليست مسالة الأخذ بموضة. انها متعلقة بالكرامة. الصراع لأجل إثبات الذات أمام الأوربي الذي يعتبر الشعب الروسي همجي و غبي. هذه العقدة متواصلة إلى اليوم و هي التي تختـفي وراء الأكمة. روسيا الشرقية الغربية في نفس الوقت وارثة الكنيسة البيزنطية تاريخيا و واضعة نفسها في مقابل الكنيسة الكاثوليكية في روما. صراع قديم جدا إذن تجدد بالبلشفية في أشكال أخرى مثلما يتجدد اليوم مع "البوتينية" بتسمية مباشرة هي الوطنية الروسية. هذا ما يختـفي وراء عبقرية "لينين" و "ستالين" و البلاشفة الفاهمين بدقة لهذا العنصر السالب و لتمزق الوعي الروسي بين الشرق و الغرب، و ما عشق "ماركس" سوى عشق "شهد شاهد من أهلهم"، بمثل تعلق الشعوب العربية بالنازية الهتلرية لأنه منهم يحاربهم. أدرك البلاشفة كيف يبنون روسيا قوية بعقيدة ثورية قوية بناها "ماركس" و عدلها العبقري"لينين" لتكون نظرية ثورية روسية بل أساسا نظريا للثورة التحررية الإنسانية لبقية العالم خارج الدائرة الأوربية أو المحتـقرة من الأوربي.. لأجل ذلك، و من منطلق روسي و من منطلق الدولة السوفياتية التي أعلنت عقيدتها في النظرية الثورية العلمية، أي الثورية الحقيقية باعتبار العلم دليل الحقيقة في العصر الحديث، فانه إعلان الدخول في الحداثة و لو بشكل قصري. انك هنا أمام إرادة إثبات و تأسيس لروسيا ذكية على عكس النظرة الأوربية لها. روسيا التي يمكن للسياسي أن يؤسسها و غير المتـفـقة مع الحرية الفكرية لان السياسي يطلب من نفسه الانجاز، و الانجاز التاريخي الكبير لمن يعتبر نفسه ذو مسئولية تاريخية يتعلق بها مصير الإنسانية جمعاء.. ساند الاتحاد السوفياتي حركات التحرر في العالم الثالث. أنقذ العالم من النازية الهتلرية. عقيدته و ممارسته الواقعية إذن كانت تحقيقا لجوهر فلسفة الأنوار و هي الحرية و المساواة لجميع البشر. الدولة السوفياتية لم تعد مجرد بناء لروسيا حديثة بل بناء عالم بالصيغة التي عرفناها في الواقع. عالم بلا نازية (مؤقتا) و عالم توازن الرعب بين الشرق و الغرب أو بين المنظومة الاشتراكية و المنظومة الرأسمالية، و في نفس الوقت عالم الجنوب الذي بث فيه السوفيات الأدب الروسي و الأدبيات الثورية السوفياتية و النظرية الثورية الماركسية.. إذن بالنسبة للعالم العربي كذلك لم تكن الحركات الشيوعية سوى حركات تحرر برغم تيهانها عن تحديد هذا الهدف و صياغته وفق البنية الثـقافية العربية المتكونة تاريخيا. فمن باب الغباء الكبير بل الكذب على النفس ربما تعلق الشيوعية العربية بالإلحادية و نكران الروحي الإسلامي الجوهري عربيا... ربما يجوز لنا اليوم استعمال المنهج الافتراضي كعملية نقدية وفق الصراعات اليوم و وفق نظرة مستـقبلية. كان من شأن الفصل بين الفلسفة و عقيدة الدولة السوفياتية، ان يسير بالأمور إلى بناء مركب جديد على المستوى الفكري و بالتالي الواقعي، في حالة استـقلالية عن الأوربي، و التجدد الذاتي للدولة السوفياتية، و بالتالي بناء بديل إنساني على مستوى إنتاج أفكار جديدة تتصل بمختلف الحالات الإنسانية كحرية فردية و جماعية. أي الخروج من القولبة الطبقية التعسفية للفرد لجعله مجرد تركيبة من الذرات داخل مكون ذري اكبر وفق الأساس النظري العميق لـ.."كارل ماركس". إن الفصل بين العقيدة الماركسية و البحث الفلسفي الحر هو وحده من شانه أن يخرج اليسار العالمي من اضمحلاله، و يخرج اليسار العربي من زعامتياته و بيوتات العنكبوت و الرداءة في الفهم و القراءة و السكونية الواقعية، بل يخرجه من الرجعية و التخلف الفكري الذي يعبر عنه في عديد المناسبات دون وعي منه.. أليس هذا الفصل و بالتالي خلق حالة من الديالكتيك الحي داخله من شانه أن يوحده في شكل سياسي جديد مبتكر يكون ديمقراطيا بحق و ديناميكي و مبدع.. أكيد إن توفر هذه الإرادة يستلزم إيمانا فعليا بالفكرة و القضية و ليس مجرد إرادة تميز أو إرادة بناء طرف منزوي لمجموعة حقيرة عدديا لها زعيم و مكتب سياسي و ناطق رسمي على هواه يستحضر وصفات حنينه الريفية ما قبل الحداثية، جاعلا من الغدر و الخيانة بالأقربين تكتيكا و من الاتكال على عقلية المقامر الخاسر استراتيجية.. إذا كان لليسار إرادة فعلية في الانتـشار و في أن يكون الشعب فعليا و أن يعبر عن إرادة بناء واقع إنساني تـنويري جوهريا، أي واقع الحرية و المساواة الإنسانية، فانه ابتداء يجب أن يواجه مجمل موروثاته الايديولجية بمثل الأسئلة التالية: لماذا لم تـنجح الأحزاب الشيوعية الأوربية رغم انتـشارها في النصف الأول من القرن العشرين، خلافا لأوربا الشرقية بحكم ارتباطها بالسلافية و بالكنيسة الاورتودكسية قديما أي بروسيا، و خلافا لألمانيا الشرقية بحكم نتائج الحرب العالمية الثانية؟ كانت الأفكار و الأحزاب الشيوعية منـتـشرة في أوربا. لماذا لم تـتمكن من السلطة، بينما تمكنت أفكار العدالة الاجتماعية مع الحرية الفردية؟ لماذا زحف آلاف العمال في الحربين العالميتين للدفاع عن الأوطان؟ الوطن الذي يعتبره "ماركس" مقولة بورجوازية لأجل التغطية على استغلال العمال و على التناقض الطبقي؟ تحولت أوربا إلى عمال يحاربون عمال في تـناقض مع شعار "يا عمال العالم اتحدوا" الذي بدا اكبر مقولة زائفة أكلتها ألسنة نيران الحرب العالمية الثانية.. لماذا أوربا اليوم في أزمتها الاقتصادية التي هي أزمة الرأسمالية العالمية لا تتوجه بكثافة نحو الأحزاب الشيوعية أو اليسارية الراديكالية عوض أن تتوجه بأعداد متزايدة نحو أحزاب اليمين القومي؟
#هيثم_بن_محمد_شطورو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-ترامب- أو المشهد الأخير
-
السياسي الوضيع
-
أفق البديل السياسي المطلوب في تونس
-
قاون المصالحة يقلب المشهد السياسي التونسي
-
مصالحة ألامصالحة
-
النداء التقدمي
-
تاريخية القرآن ( من خلال سيرة ابن هشام)
-
الرئيس التونسي يتحدى الشرق البائس
-
زقاق الجن
-
الأيادي القذرة
-
نهاية الفصل الأول من الثورة
-
الدوامة السورية إلى أين؟
-
معركة -بدر-
-
من يخون من؟
-
ضرورة الانبعاث الفكري للثورة العربية
-
انبعاث ثورية السلطة في تونس
-
معركة -المصالحة- في تونس
-
الأخلاق حرية
-
يوم الإضراب العام
-
دولة الثورة
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|