قصة قصيرة بقلم: اميرة بيت شموئيل
- يا شعب اشور العظيم: لولا شهادة الرفاق، لما تسنى لنا اليوم ان نقف ونتحدث الى العالم من موقع القوة. فكل شهادة تصاحبها رفعة وقوة لقضيتنا المصيرية. اننا وانطلاقا من وعينا وشعورنا بما قدمه هؤلاء الابطال، عاهدناهم بأن نظل سائرين على خطاهم. كما عاهدناهم على الوقوف كأباء .. اخوة .. وأبناء الى جانب ذويهم واخوانهم وابناءهم، حرصا على الامانة التي تركوها في اعناقنا. والله الموفق.
انطلقت أيادي المتواجدين في التصفق، معبرة عن تضامنها مع هذه الكلمات الانسانية. الكل كان منساقا الى الحديث ... الا هيوي، فقد بدت حزينة ومكتئبة في احدى زوايا القاعة، شاخصة بنظرها الى صورة اخيها، الموضوعة باهتمام الى الخلف من المتحدث. كانت خيالات هيوي تتارجح بين الكلمات الرنانة والذكريات الاليمة. استعدت للخروج قبل انتهاء الخطبة، عندما ناداها صوت من داخل القاعة:
- ما بالك يا هيوي؟؟ الكل منطلق ويتفاعل مع حديث القائد الا انت... انه يتحدث عنكم يا عوائل الشهداء... الا يسعدكم ان يتحدث القائد عنكم؟؟ انتظري لتأخذي صورة تذكارية مع القائد.
- ارجو يا شمعون ان تعذر احساسي بتصدع كلمات القائد. عفوا، لا رغبة لي في اخذ صورة، مع اي من القواد.
لاحقت خطواتها أكثر من عينين وهي تخرج من القاعة. هربت من هذا السجن البغيض الى احضان الحرية الفكرية... انطلقت بسيارتها في بلدها الثاني... قطعت المسافات المزدحمة بالسيارات والسكان... الى ان وصلت الى مكانها المفضل... المقبرة.
في هذا البيت الهادئ.. الفسيح.. المتألق.. الجميل، كثيرا ما تساءلت" لماذا يخشى الانسان هذا المكان الرائع ويتحاشى لقاءه؟" . جلست بين الساكنين، تحاول فك رموز حزنها العميق واكتآبها. استدرجت ذكرياتها القديمة... السعيدة والاليمة... اخيها والقائد... الثورية والسياسة... الصلابة والمساومة... الموت والحياة. كانت هيوي تتحرك بخيالاتها، كمكبل بالجراح، يبحث عن مصدر آلامه.
- هل اطلعت على كتابات نوال السعداوي؟؟ جلبت لك احد كتبها وقصصها. انها رائعة في كتاباتها وطروحاتها لدور المرأة الشرقية. اريدك ان تكوني قوية مثلها.
- اتقرأين لنوال السعداوي؟؟ هذه الكاتبة متعجرفة وتتجنى دائما على الرجل... احذري التقرب من كتاباتها، ستجعلك تقفين في الصف المعادي للتقاليد.
- اسمعي يا هيوي، سفرك الى بغداد للدراسة ومسؤوليتك الجديدة في ادارة كفاحك هناك، سيعد تجربة ورصيدا من القوة تضاف الى شخصيتك في المستقبل، فلا تخافي من الدخول في التجربة يا اختاه... الجميع من تجاربهم يتعلمون.
- ارجو ان تفكري بالامر مليا، وجود فتاة جميلة لوحدها في مدينة كبيرة مثل بغداد، يجعلها عرضة للتشهير بسمعتها، بالاضافة الى سهولة اصطيادها... جميع العيون والالسن كانت مفتوحة على الفتيات اللواتي يعشن في الاقسام الداخلية، بعيدات عن اعين اهاليهن.
- اذ هاجمك رجل من خلف الستار، لاتخافي من هجومه وكوني شجاعة وقوية في الرد عليه، فلو كان بالانسان، لحاورك باحترام ولما تحول الى خلف الستار لينال منك.
- يجب ان تتخلي عن الدخول في السياسة والصراعات مع الرجال. المجتمع لا يحترم المرأة المنافسة للرجل، ويعتبرها مسترجلة يحاول التخلص منها.
- لو خيروني بين المساومة والاعدام، ساختار الاعدام ولن اساوم على المبادئ ومطاليبنا الانسانية يا اختاه.
- النظال لا يخلو من المساومات، من لا يقبل بها، يقلع من الواقع.
لا تدري لماذا ظل هذان المتناقضان، الثائر والسياسي، يعيشان في داخلها، بالرغم من انهما لم يستمرا معا الا لسنين قلائل.
كانت تجارب هيوي، ابان النظال السري وسنينها المراهقة، غير قادرة على اكتشاف الفوارق بين الرجلين. وجدت احيانا تناقض طروحات الصديق اثناء المداعبات الكلامية او عندما يجتمع بها، لكنه سرعان ما يعود ويناقضها امام الاخرين. ولهذا نسبت طروحاته امامها الى محاولات رجل لايدرك طريقا للاقتراب من المرأة، الا باستفزاز ثورة المنافسة فيها.
استمرت علاقتها بهما كما هي، الى ان جاءت اقدار الزمن واعاصيره الغاضبة تكسر القيود على الحقيقة وتعريها. كما اختارتها هي لتكتشف الاسرار المخفية فيها.
اسرع الثائر الى انقاذ رفاقه في النظال.... ومن معتقلات الفاشية، اثبت صلابة مواقفه، كما اثبت ان ارقى وسائل التعذيب لا تثني الرجل الانسان عن ارادته ومبادئه. لقد رفض جميع المساومات التي خيرته بين الاحتفاظ بمصالحه الشخصية واملاكه والتنصل من مطاليبه الانسانية... واخيرا وقف امام قرار اختيار الاعدام والتراجع عن مبادئه، قائلا لقواد الدكتاتورية والفاشية:" اموت .. اموت، وتبقى اقدامي فوق رؤوسكم".
بعد عذاباتها لاكثر من سنة، بين عصابات مجرمي الامن.. الاستخبارات.. والاقزام المتخاذلين معهم، واخيرا عذابات اعدام اخيها وفراقه الى الابد، انهت الاقدار وجودها قرب الثائر، لتفاجئها بواقع الفروقات اللعين.
وجدت صديقهما، الذي تركهما واختار الهروب بجلده، يتأرجح، بين المنتمي واللامنتمي... الديني والملحد... الشيوعي والامبريالي... القومي والسبطي... المثقف والجاهل، لضمان كفالة النظال.
- هذا ليس عدلا... ما الذي يجعلهم مناظلين يمنون علينا بكفالة... نحن ايضا اصحاب قضية نناضل من اجل حريتنا وحقوقنا المشروعة. لماذا يجبرونا على الاستعباد.
- هذا هو الواقع ... يجب ان نقبل به في الوقت الحاضر.
- الى متى يجب ان ننتظر الى ان نثور عليه، في رأيك.
لم تقبل بطرحه... ثارت على الواقع الظالم... اصرت على كسر قيود العبودية... اصرت على كسر شوكة التسلط في الثورة و... اصرت مواقفها على اثبات وجودها في الحقل السياسي. اما هو، فوقف يتارجح بين الاستفادة من وجودها وكفاحها وبين التعاون مع المساومين، الذين يحاولوا اسكاتها وتهميش دورها.
- لماذا لا تقف معي او معهم. الى متى ستتأرجح بين هذا وذاك.
- لقد قلتها لك وما زلت مصرا على كلامي. يجب ان تتخلي عن الدخول في السياسة والصراعات مع الرجال. المجتمع لا يحترم المرأة المنافسة للرجل ويعتبرها مسترجلة يحاول التخلص منها.
- وهل يحترم المجتمع الرجل المنافق والمتقلب في سياساته؟؟ هذا المجتمع لو لم يتفاعل مع مأساتنا ولو لم يعتبر طروحاتنا، لما فسح لكم مجال الانطلاق. ولما استطعتم فرض وجود الحزب فيه، ولما استطعتم اليوم، التحرر من التأرجح بين كفالات الاحزاب الاخرى.
- انك تثيرين غيض الرجال بوجودك.
- بل انا اثير همة الرجال بوجودي.. اما من يشعر بالغيض فليس برجل. بالمناسبة، اعتقد ان الحزب ايضا، يلتزم في احدى بنوده بضرورة اتاحت الفرصة للمرأة للعمل في الحقل السياسي .
جاءت عباراتها لتعري حقيقة لاانتمائه الى مبادئهم وصداقتهم. اكتشفت تحركه وراء الستار وتعامله مع الجبناء والساقطين، يتحين فرصة الهجوم عليها والنيل من شرف عائلتها، بغرض زحزحة مكانتها وازاحتها.
ابتعدت تكتب وتنطلق بعيدا.. لم تكمل طريق العمل معه، بعد ان اقتنعت بأن هذا الرجل لم يكن يوما صديقا لها ولاخيها، ولكنه كان بحاجة للوقوف مع عائلة لها مواقف ومركز ومال ليثبت في نفسه ما ينقصها. اما وقد ابتعد عن تأثيرهم، زال زيف التطبع وبانت حقيقة الطبع فيه.
عادت هيوي الى البيت، بعد ان عادت اليها السكينة، لتجد عبارات غاضبة تلاحقها عبر مسجل الهاتف:
- لم نستضيفك لتتجني على القائد باكتآبك وتجهمك، كما انها لمن السخافة ان تغادري القاعة دون تكملة سماع خطابه التاريخي ودون ان تجمعك صورة به. الموتى ليسوا افضل من الاحياء. القاثد يرغب بالالتقاء بك لنشر لقاء معه في مجلتكم.
بدا صوت شمعون جاهلا ومغرورافي نفس الوقت، بالرغم من ضخامته. اما هي، فقد قررت ان تتحدث الى القائد مباشرة ، لترد على اشكالاته المرسلة بصوت الاخرين.
- الو، هل لي التحدث مع القائد رجاءا؟؟
- من المتحدث؟
- هيوي.
- الو، تفضلي.
- تفضل انت. هل لك اي اعتراض على اسلوبي في القاعة؟ لقد اتصل بي احدكم وابدى اعتراضا مبهما من جانبكم... هل لكم ايضاحه؟.
- لا ادري بالضبط عما تتحدثين!!!.
- اتحدث عن فرض القيود على الاحاسيس والحركات ... اتحدث عن الملاحقات اللاشرعية لمخالفي الرأي... اتحدث عن المضايقات اللا اخلاقية في المجابهات... هلا دخلت في الموضوع رجاءا.
- لماذا لم تقفي الى جانبي امام الجماهير. الا تعني صداقتنا القديمة لك شيئا؟
- من حقي ان اقف ضد من يساوم في القضية... من حقي ان ابتعد عن من يكذب وينافق في تعامله مع الاخرين... من حقي ان اهجر صديقا لا يدرك قيمة الصداقة.
- ماذا تعنين؟؟
- النتائج التي وصلتم اليها، تفضح مساوماتكم ومناوراتكم السرية... مواقفكم السياسية تفضح بعدكم عن الثورية ومواقف الثوار، رغم تشبثك بصداقتهم... اما عن التزاماتكم تجاه اهالي وذوي الشهداء ، هذه الامانة التي تركوها في اعناقكم، فوالله ان اعتداءاتكم المتكررة على مسيرة وشرف الناشطين منهم للنيل من مكانتهم، لهو خير شاهد على نفاقكم وادعاءات حرصكم على الامانة!!!.