سولنار محمد
الحوار المتمدن-العدد: 5676 - 2017 / 10 / 22 - 22:55
المحور:
الادب والفن
طريقٌ ترابيٌ وعرٌ,قادني إلى قريةٍ صغيرةٍ لا تبعد عن مكانِ إقامتي سوى كيلومترين فقط, ولكن تختلف عنها مئات الكيلومترات .
عند مدخل القرية استوقفني منظر امرأة جالسة ً تحت ظل جرارٍ زراعي وقد شكل بناتها عقداً حولها , يقمن بتنقية بقايا شتلاتٍ من الحمص اليابس , قمن بجمعها من أرض ما بعد حصاده, لتصبح وجبة غداء لأولادها في أيام الشتاء الثقيلة والباردة عليهن في كوخهم القديم.
اكملت طريقي إلى داخل القريةِ , مررنا بشوارعٍ ضيقةٍ تكثر فيها المطبات ,في نهايةِ أحد الشوارع التي تتسع لمرور سيارة واحدة, هناك بيت قديم وجدار مبني من الحجر والطين, أحمر اللون هدم منه الأيام ما هدم.
دونما موعد مسبق دخلت إلى المنزل , منزل امرأة سبعينية تعيش بمفردها.لم أكن أعلم كيف ستكون ردة فعلها وهي التي لم يزرها أحد منذ سنوات عدا بعض النسوة المعمرات اللواتي يترددن عليها بين الفينة والأخرة ليتقاسمن معها مرارة الحياة.
هل من أحد هنا؟ !! صرختُ بصوتٍ خافتٍ.. " تفضلي يابُنيتي" صوتٌ ما أجابني من فناءِ المنزلِ, اقتربت أكثر أول ما لفت انتباهي موقد مؤلف من ثلاثة أحجار في ساحة المنزل وعليه قِدرٍ قديمٍ لا رماد تحته!! قطع من الأخشاب التي لم توقد موضوعة بشكل منتظم تحت القِدر وكأنها متهيئة لقدوم أحدهم لتضرم النار بها معيدة بذلك الحياة إلى هذا المنزل المنسي.
كانت مستلقية على الأرض لا فراش يحتضن جسمها النحيل الذي أضناه الوحدة والألم , وكأنها كانت تود أخذ قيلولة من هذه الحياة القاسية كقساوة الأرض تحتها.
اقتربت منها وقبلت يدها التي تركت الأيام عليها ما عاشته من ألم وحرمان ..مابين الدهشة والفرحة لم تعد تستطع قول شيء " أجلسي يا بنيتي".
جلست على الأرض أمامها على الرغم من محاولاتها المتكررة ألا أجلس على الأرض ولكنني فضلت ذلك
ربما الطيبة تنسي المرء أحيانا أنه لا يملك ما يود تقديمه للآخرين.
كل شيء حولي قديم جداً , من تلك الحقيبة المصنوعة من التوتياء المزخرف التي لم أكن أراها إلا في الأفلام القديمة إلى الأواني التي تستعملها, ومروراً بطلاء منزلها الذي لم يتبق منه إلا بضع أماكن صغيرة وطغى عليه اللون الأحمر,لون الطوب الذي تم بناؤه منه , والمفتاح الكبير الذي خبأته بقربها تحت السجادة لعلها تخبأ ما تبقى لها من ذكريات لزوجها في مكان ما بغرفتها.
شرعت أحادثها كيف حالك؟ّ! كيف صحتك؟ بابتسامة ونبرة وددت أن أزيل الدهشة من بين تجاعيد وجهها تلك التجاعيد التي شهدت ما مرت به طوال رحلتها الصعبة مع الحياة .. أنا ابنة فلان من القرية المجاورة لكم..
أهلا صغيرتي ..بدا عليها القليل من الارتياح بعد أن عرفتْ عائلتي وبدأتْ تسألني عنهم وعن أحوالهم متناسية ما هي فيه من حال !!.
بعد مضي دقائق سألتها كيف تقضي يومها وتؤمن احتياجاتها؟
بتنهيدةٍ كبيرةٍ بدأت قمرية محمد المرأة السبعينية من قرية كركي سلمى بريف المالكية"شمال شرق سوريا" تسرد لي ما فعل بها القدر والدمع في عينيها الخضراوين كربيعٍ لم يزهر:
"توفي زوجي منذ أكثر من ثلاثة عشرة عاماً ...لا لا أعتقد أكثر ربما ثمانية عشرة عاماً ..لم أعد أتذكر.
لم يرزقني الله بولد يكون سنداً لي في كبري ..رحل زوجي تاركاً خلفه امرأة لا حول لها ولا قوة تمضي ساعات طويلة في هذا المنزل الذي قلما يدخله أحد ما سوى بعض الصبية الذين يتقصدون خلق الإزعاج لي مستغلين ضعف حيلتي والذين يكونون خير جليس لي في المساء رغم خلقهم لبعض المشاكل أحياناً.
تحاول قمرية جاهدةً النهوض بسبب كثرة الأمراض التي أنهكت جسدها ونخرت عظامها حتى أبت العظام الرضوخ لأوامرها . بعد عدة محاولات فاشلة تقف قمرية نصف وقفة ظهرها المقوس وقدميها اللتان لا تساعدانها على المشي كثيراً , فتضطر إلى جرهما ورائها متجهة نحو عتبة باب منزلها على الشارع الممتلئ بالأتربة والذي لم يطأه سوى أقدام أولئك الأطفال الذين يلعبون هناك متخفين من أنظار والديهم موقنون أن لا أحد منهم سيمر من هذا الشارع.
تسارع الطفلة نالين" مصابة بمتلازمة داون"بوضع قطعة من كيس ٍ تآكل جزء منه أمام الباب , لتجلس عليه قمرية خارجة من سجنها الصغير, والتي طالما تمنت لو إن لها سجان عساها تدرك جرمها في هذه الحياة التي حكمت عليها بالسجن الانفرادي مدى الحياة.
تجلس لوحدها لساعات تلتفت ذات اليمين وذات الشمال متكئة على يدها واضعة كفها على خدها وكأنها تنتظر قدوم أحد ما!!
ولكن من تنتظر؟! لا أحد هنا فكلهم تعمدوا هجرانها.
تمر الدقائق والساعات ثقيلة على قمرية وهي تترقب ولكن دونما جدوى... تتعب قمرية من الانتظار ويحل الظلام لتعود أدراجها إلى كهفها المظلم لتكمل ما تبقى من ليلها الطويل لتعيد الكَرة في اليوم التالي دون كلل أو استسلام...
#سولنار_محمد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟