|
الحداثة وفراغ الوجود .
عزالدين جباري
(AZEDDINE JABBARY)
الحوار المتمدن-العدد: 5676 - 2017 / 10 / 22 - 17:25
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إذا كانت الحداثة نزعا لقناع القداسة عن الوجود، بما هو إدراك للذات وللطبيعة، وملأ لأثر فراغ هذه القداسة بمحمكات العقل النظري المجرد، أو العقل التجريبي التحليلي، فإن نداء الوجود قد فقد حضوره في هذه التجربة الإنسانية منذ بزوغ عصر التنوير في مدارات الغرب. سؤالنا في المنطقة العربية التي ما استطاعت نزع رداء القداسة عن وعيها التاريخي: هل حققت الذات العربية الإسلامية وعد وجودها؟ أو بعبارة أخرى، هل لبَّت هذه الذات نداءها الموعودة به في دنيا الوجود؟ أم تراها اعتزلت حلبة التدافع وقررت إرجاء وعودها إلى اليوم الآخر؟ ولعل قارئا فهيما يعترضنا بالقول: نحن نحتاج في مرحلتنا الراهنة إلى تأسيس مقومات الحداثة بما هي تنوير العقول والخروج بها من غشاوة الخرافة ووصاية أدعياء الفكر المغلق ،والمنطق الواحدي- وما إلى ذلك مما صار ممجوجا لكثرة ذكره- وليس إلى إحياء النزعات الوجودية المُغرِقة في التصورات الفردانية المتروحنة ! ونجدنا في مثل هذا الموقف غير مخاصمين لهؤلاء ولا راضين تمام الرضا عن مضمون دعواهم، إذ إن من أسباب فشل المشاريع النهضوية-التنويرية، في نظري، منذ زهاء القرنين هو إغفال مسألة " التصالح مع الوجود" . أن نسير في اتجاه إنتاج عقولا مُثْرِية من المعلومات الحداثية، والخبرة التقنوية، ثم ترانا عندما نشرع في خدمة أوطاننا نغتال الوطن، ونخون الأمانة، ونخنع للمصلحة الفردية - ونخشى الناس والله أحق أن نخشاه – فنحن إنما نُصَدِّرُ حداثة معطوبة. إن مشكل التخلف في الأصل، ينغرس في صميم وعي الفرد العربي- المسلم، إنه حزمة ثغرات تتخلل التركيبة الذهنية للمجتمع، وتنخر فيه "داء الزيف" حتى أمسى سلوكا معتادا، فغُذِّيَ هذا السلوكُ بفضل رعاة الاستبداد في كل بلد، وما لبث أن تواطأت الأمة على" الانحدار الإنساني"، وَتَنَشَّأت الفراغات بين الفكر والوجدان، بين النص والتاريخ، بين الحقيقة والعلاقة، بين القيمة والنبض. إنْ لا تُحَلّ إشكالات العقيدة والوعي التاريخي بالأحدلث، في الماضي والحاضر، سنراوح أمكنتنا آمنين وادعين، أو ناقمين موتورين، طيلة ما تبقى من عهود الانحطاط المظلم، غير أن الدَّعَة والوَتْر، حبلان لا ينفتلان، هما أشبه بكتلتين ذريتين ترزحان في "الصميم"، توشكان في كل حين على الانشطار، وخلق انفجار عظيم؛ هذا الانفجار الذي لن يكون سوى "اليأس المطلق المميت" و انضغاط " فُرْجة الأمل"؛ فلا فرجةَ ثقب أحدثنا، يحدونا فيها سَيْرٌ في نفق يَعِد بانفساح ضوءِ ممكنٍ جديد، ولا فرجةَ هَمٍّ من همومنا الثقال قد كشفنا. لقد أنتجت مفاعلات الزيف الوجودي منتوجاتها السامة والنفاثة، فَوَلّدت عقولا مستقيلة عن "المجال العام" طيلة قرون؛ عقولا لاتحسن سوى الدروشة الصوفية، أو عبادة أقوال السلف، أو التزلف إلى موائد الحكام، وكان ثمرة ذلك حُؤولٌ بين الفرد وكلام ربه. هذا الانشطار في الذات هو عامل داخلي يعطل حركة الفكر المتوثب نحو التجلي والظهور، وقد خمدنا في أخدار الوهم العتيق ردحا طويلا لم تزحزحنا عن ركدتنا فيه قوارع الزمان. أقول إن هذا الانشطار لم يَعُد العامل الوحيد في سقوطنا الرهيب، بل لقد اجتاحنا طوفان العولمة. فالنظام العالمي الجديد قد أفرز آليات جديدة للهيمنة، آليات اقتصادية تتحكم في رقاب الشعوب من خلال نواصي الحكومات فيها. فيذهل المرء منا إذ يراهم يطبقون الديمقراطية داخليا، ويحفظون للمواطن حريته و كرامته وحقوقه، ثم حين يعرجون على المستعمرات القديمة يجرفون خيراتها الخام، ويحركون المدفعية الثقيلة، وهي آليات التحكم الإعلامية، فيبثون فينا عمالهم، من بني جلدتنا و بني جلدتهم، يزيفون وعي الأمة بحاضرها وماضيها. إن حضارة تبني تنميتها الاقتصادية والمعرفية على السرقة المسلحة لخيرات الشعوب هي حضارة واهنة الوجود، معتلة في العمق، مريضة في الصميم، إذ اغتالت الإنسان قبل أن تبني أسباب وجودها، فلما طلع الزرع أصيب بداء الحزن الغريب، بالمالينخوليا، التي ذكرنا جذورها الآن، والتي أفرزت كراهية الشعوب، وشكلت خلايا سرطانية في المجتمع البشري المعولم، لن تنفع معها القنابل، ولن يَجْلُوَ أوارَها تهديدٌ بالوعيد، إذ ليس الخاسرون في معركة التحضر وحدهم من يشكلونها، بل أيضا، مَن أصابهم سقم الوجود من جموع الإنسان الحزين في الحضارة الغربية الكئيبة. وإذا عدنا إلى حاضرتنا العربية نفحص عن دائنا العياء، فإن الذي نجده قد اقتلعنا من جذورنا المعنوية في الماضي هو "موات" لَحِقَ بنا، بما كسبت أيدينا، حين خرجنا من التاريخ واستسلمنا للزيف، و إن الذي يجتث أوصال وجودنا اليوم هو امبريالية رأسمالية كاسحة، لم نبلغ معها بعد طور التمييز، ليس لأنها فاقت قدرة عقولنا وأبهرتها، ولكن لوجود عوائق تمنع " التوثب- المتآزر" في الإبداع والتحديث، وهي عوائق مهما تكاتفت أسبابها، أو تعدد تشخيصها، تعود في الجذر إلى فراغ الوجود.
#عزالدين_جباري (هاشتاغ)
AZEDDINE_JABBARY#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الظاهر والباطن، أو محنة الوجود.
-
الحرية نداء الوجود
-
مساواة أم تماثل ؟ بحث في الرؤيا الكونية.
-
هل كل خطاب يحمل حقيقته في ذاته ؟
-
في الموقف الفلسفي، أو الموقف من الحقيقة .
-
في ماهية القول الفلسفي وضرورته .
المزيد.....
-
بأكثر من 53 مليون دولار.. مرسيدس تعرض سيارة سباق نادرة للبيع
...
-
-مخطط لتهجير المواطنين-.. السلطة الفلسطينية تتهم إسرائيل بتو
...
-
دور الصحافة بمكافحة -التضليل الإعلامي- في سوريا.. مسؤول في م
...
-
مرتديا -ملابس الإحرام-.. أحمد الشرع يصل إلى جدة لأداء العمرة
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير مستودعات أسلحة لـ-حزب الله- في ج
...
-
هل يشهد لبنان أزمة مياه هذا العام؟
-
نتنياهو في واشنطن لعقد -اجتماع بالغ الأهمية- يبحث المرحلة ال
...
-
انفجار يستهدف مجمعا سكنيا فاخرا في موسكو ويوقع قتيلا وأربعة
...
-
هجوم من ماسك وترامب على الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية: -
...
-
أكثر من 200 هزة أرضية تضرب -إنستغرام-.. اليونان تغلق المدارس
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|