في الأسبوع الماضي قررت الاستراحة من الكتابة بعض الوقت لأستريح كما تستريح كل مخلوقات الأرض، فمن حق الكاتب، كما يقول الشاعر نزار قباني، أن يستريح قليلا كبقية الطيور المهاجرة، أو المصاعد وهي تتوقف بين طابق وطابق، أو القلب بين نبضة وأخرى، وكما يستريح جورج بوش بضع دقائق من سكب سطل الماء الآسن على رؤوسنا، أو كما يستريح الدكتاتور ثوان عدة من قطف الرؤوس، أو كما يستريح زعماء المعارضة العراقية هذه الأيام من التزلج على مشاعرنا بدون زلاقات بل بحوافر خيل مسننة.
وحاولت كذلك التخلص من هاجس الكتابة عن قضية الجنس والسلطة والنص والمعارضة الملحة، فقررت السفر ،من باب غواية أولا وقضاء عمل ثانيا، إلى مدينة تروندهايم النرويجية الحالمة وهي المدينة التي تمردت على أحد ملوك النرويج قبل قرون فسيطر عليها وعين كلبه محافظا لها من باب الاحتقار.
قررت التخلص من كل ما يشدني إلى هذا الموضوع الذي تعرض له كتاب الحداثة كثيرا في السنوات الأخيرة، وهي موضوع الجنس والسلطة والنص، كما قررت الابتعاد ولو لعدة ساعات من نشرات الأخبار العربية التي صارت في الأيام الأخيرة من الخطورة ومن الصفاقة بحيث تتصور أن مذيع نشرة الأخبار قد يطلق عليك النار من خلف الشاشة وأنت على تخوم القطب الشمالي، أو تختطف من فوق كرسيك، حتى أن طفلتي الصغيرة بدأت تصرخ هذه الأيام بكلمة واحدة وهي تركض كمحترقة" أخباق! أخباق. أخباق!" أي أخبار، أخبار، أخبار.
وكأي حالم هارب بالريش ، فتحت في الفجر النافذة المطلة على حديقة مقابلة للفندق، وهي حديقة يغمرها في المساء ضوء خافت وهادئ ومطمئن من مصابيح داخلية،كما أن ظلال البنايات المطلة تمنح المكان عمقا وشاعرية وصفاء وسكونا وإشراقا يشبه إشراق صوفي في لحظة وجد أو فجر غابي قديم.
لم يعكر هذا الصفاء غير مواء قطط نرويجية لم أسمعه إلا في مثل هذا الشهر، فعرفت أنها مثل قططننا الشباطية تتزاوج هذه الأيام، وانه موسم التزاوج، وهذه الأصوات الخاصة هي علامات الرغبة.
ولا أدري لماذا تذكرت فجأة وبدون وعي السيد خليل زادة مبعوث الإدارة الأمريكية للمعارضة العراقية؟
لكن العجب زال، حين بزغ مرة أخرى موضوع السلطة والجنس والنص والمعارضة، وأن خليل زادة يقوم بمهمة مشابهة لمهمة هذه القطط مع الفارق أنها تتزاوج في إطار قانون جنسي محترم، والسيد زادة يقوم بمهمة اغتصاب علنية لبعض زعماء المعارضة، ومن يريد أن يعرف المزيد عليه أن يتذكر أو يدقق في سلوك هذا الفحل الأفغاني المتأمرك وخبير الدمى والواجهات عند ظهوره على الشاشات أو في مؤتمرات المعارضة، وكيف أن هذا الزير السياسي يدخل غرف هؤلاء واحدا، واحدا، وعلى إنفراد، وهو ينفخ صدره كطاووس، أو فحل ثيران، وهناك خلف الأبواب المغلقة تجري عملية جنسية لا أخلاقية يستباح فيها الزعيم والشعب وتاريخا عريقا من النضال والشهداء.
هكذا أحالني قط نرويجي مرة أخرى على هذا الموضوع الذي هربت منه، وذكرني بصورة آلية بأن الجنس موجود حتى تحت طاولة المفاوضات، بل الاغتصاب تحديدا، لأن قانون التفاوض يقوم على القوة والرغبة والاعتراف بالآخر حتى لو كان عدوا، وعلى مبدأ أساسي معروف في علم التفاوض هو المساومة والتسويات المشتركة القائمة على فهم حقوق الطرف الآخر، وليس فن التدليس أو الغرف المغلقة القائم على الابتزاز والقرصنة والتهديد لا بنزع كل حقوق التفاوض، بل نزع حتى الألبسة الداخلية للمفاوض الذي هو ليس طرفا، بل ورقة إملاء أو قنينة فارغة.
أغلقت النافذة وسحبت الستارة لكن صورة خليل بك زادة، مهندس المعارضة الجنسية، وفحل المستقبل، والذكر الوحيد في مملكة الأرانب، سيطرت على حواسي، وصار أمر نسيان الموقف كله غير ممكن بدون رحلة إلى حديقة حمام قرب الكاليريه لكي أنسى بعض الوقت مشاهد ليلة الدخلة التي تتكرر مرة في لندن ومرة في مصيف يحمل اسم صلاح الدين، وهو مشهد يتنافر فيه اسم المكان مع الغرض، التاريخ المشرف مع الواقع المهين، البطولة مع الارتزاق.
وفي الطريق إلى حديقة الحمام، تذكرت يوم دخلت ضريح صلاح الدين الأيوبي مع طفلتي في نسيان العام الماضي في دمشق وكيف تهالكت على القبر وسط دهشة الزوار ودهشتي وغرقت في نوبة خاصة تمتد إلى قرون قادمة.
وسمعت صوتي يقول على الضد مني أمام القبر" لقد ذللنا يا صلاح الدين!".
قبل أن اصل إلى حديقة الحمام، وكان الجو مشرقا على غير عادته في مثل هذه الأيام، كنت أصلي كي لا يجمعني لقاء نحس مع صديق قديم خاصة في هذه الساعات التي أريد فيها أن أستريح قليلا من رصاص الفضائيات العربية وخطاب البرلمانات وصراعات الدول فيما بينها على ثمن الاشتراك في الحرب.
طرف يريد نفط الشمال.
آخر يريد نفط الجنوب.
طرف يريد الاضرحة.
رابع يريد التاريخ.
خامس يريد سرقة معطف الرصافي.
سادس يريد سرقة غليون حسين مردان.
سابع يحلم بنومة هانئة تحت ظلال دبابة أمريكية وهو يشرب الويسكي.
ثامن يريد فتح سجونا جديدة لمعاقبة الذين لا يشبهونه في الشكل والفكر ولون القميص أو في وجبات الطعام أو صاحب الشعر المستعار والذين كتبوا في المنافي باسم مستعار أو الذين اختلفوا معه على مائدة الطعام أو على أجرة القطار ...الخ.
ولا تهم الأسباب، لأن جعبة قاموس الردح قادرة على تحويل كل شيء إلى قضية كبيرة، وحشد وتعبئة ورص الصفوف في سبيلها.
وهذا القاموس المفلس لم يبق من يستعمله غير حفنة من العاطلين عن الوعي، والعاطلين عن الضمير، والذين يعتقدون ونحن في القرن الواحد والعشرين أن ثقافة فرقة الطرب ما تزال قادرة على الضحك على الذقون رغم أننا لم نعد اليوم نعيش على معلومات افتتاحية الجريدة الحزبية ولا على المنشور السياسي السري أو توجيهات الرفيق، بل أن بعضنا في هذه المنافي يستطيع قراءة كل صحف العالم وهو في غرفة النوم عبر الأنترنيت، أو الكلام مع أي كان في ابعد نقطة في المكسيك، أو ممارسة الحب مع رفيقة صينية في شنغهاي على الهاتف الخلوي وهي في الطريق لحضور اجتماع حزبي، وهو في الطريق إلى العمل أو السباحة أو حضور جنازة.
وقبل أن أصل إلى حديقة الحمام، وضع شخص ما يده على عيني من الخلف بلطف ورقة وحنان تصورته مخلب تمساح لأني خمنت أن نزهتي إلى حديقة الحمام قد قضي عليها تماما، وأن صديقا فالتا بالريش هو الآخر قد قبض عليّ.
سمعته يقول بمرح:
ـ أحزر من أكون؟
كنت أريد أن أقول له دون معرفة أسمه: أنك ملخص للقمع والكآبة والحروب والسجون والكبت والمرض والجنون. لكني عدلت عن ذلك لأن هذه العفوية كانت قد أوقعتني مرات لا تعد ولا تحصى في كوارث مهلكة.
شعرت أن تاريخا من الكآبة يلتف حول عيني، وأن صواريخا وراجمات ومعارك الخليج الأولى ومشانق سنوات الرعب والمقابر الجماعية ستكون هي موضوع الحديث بيننا.
فلا حمام ، ولا بط، ولا هم يحزنون.
لا فرار من الآخر أبدا، وأن الرحلة إلى تروندهايم لا تختلف في جوهرها عن الرحلة إلى عمان، وأن حديقة الحمام هي صورة أخرى للساحة الهاشمية، وأن أي مقهى نرويجي هو نسخة أخرى لمقهى السنترال، أو أي مقهى عراقي في دمشق.
تعرفت عليه بعد أن أطلق سراحي بالمعنى الحرفي، وبلا مقدمات كانت الدماء والمجازر وخشبات الموت وصرخات التعذيب وعبور الحدود والرصاص يتطاير من أحاديثنا بطريقة تلقائية كما لو كنا نتحدث عن أخبار الطقس.
كل أنواع الفظاعات والجرائم صارت، في اللغة المشوهة، عادية وممكنة وطبيعية. وهو أمر لا يحدث هذه الأيام عند أي شعب في العالم.
قلت له وقد شعرت بأني على وشك الانبطاح من رشقات الرصاص من أنباء معارك قديمة خضناها معا في واحدة من حروب الدكتاتور، ردا على سؤاله:
ـ إلى أين ذاهب؟
أجبته وقد خفت من رد الفعل الشنيع:
ـ حديقة الحمام.
بحلق بي كما لو أني قلت له ذاهب لارتكاب مجزرة أو نسف فندق أو تفجير مطعم أو القاء قنبلة على روضة أطفال أو القفز من أعلى عمارة أو الانتحار بطريقة يابانية.
قال باستغراب:
ـ يا حمام، يا بطيخ!
قلت في الرمق الأخير:
ـ ولماذا؟ ألا يحق لنا أو نعود لحظات إلى عالم الناس الأسوياء ونجلس في مطعم على ضوء الشموع أو نرقص في مرقص أو نجلس على حافة بحيرة وننسى ولو ساعة هذه اللغة المشوهة؟ هل نبقى سجناء خطاب الدكتاتور أو خطاب خصومه؟ أليس هذا إلغاء لإنسانيتنا؟.
هز رأسه موافقا:
ـ كل هذا صحيح. باستثناء أنك لن ترى لا الحمام ولا حديقته بل سترى صور الذاكرة وهي تمطر بلا انقطاع. تعال عيوني، تعال نشرب بيرة أو زجاجة سم كي ننسى كما تريد.
في المشرب، وبعد أن تحول هذا إلى ساحة قتال، سألني:
ـ في أي فندق تسكن؟.
حاولت الهرب:
ـ لا أعرف الاسم.
شرع يذكرني بأسماء فنادق المدينة:
ـ فندق تروندهايم؟
ـ لا.
ـ فندق أوغسطين؟
ـ ولا هذا؟
ـ فندق كومفورت؟
وكان هذا بالضبط هو الفندق، لكني خفت من أن يمتد الخراب إلى هناك وتفسد رحلة العائلة. قلت:
ـ صدقني لا أذكر.
ـ لا تذكر الفندق الذي تنام فيه؟ كيف سنحكم العراق غدا؟.
قلت:
ـ أولا أني لن أشارك في أية حكومة قادمة ولو كانت حكومة العدالة المطلقة برئاسة السيد المسيح، لا كوزير أو مدير عام ولا بصفة كنّاس. ثانيا: لن أعود إلى العراق إلا إذا سمعت أن هذا الجيل الحزبي الذي شرّع للسفالة والجريمة والقتل والوشاية قد انقرض تماما وأرسلوا لي قبورهم مع كتب تصديق رسمية موقعة من قبل لجنة دولية رصينة. إنهم من الآن يسجلون أسماء ضحاياهم ويهددون بقتلهم. هل هذا بار يجلس فيه العراقيون عادة؟ أرى وجوها عراقية؟
قال:
ـ نعم. إذن خذ رقم هاتفي كي تتصل بي اليوم هذا المساء.
ذهبت إلى المرحاض لأستريح قليلا من إنهاك عصبي ونفسي وعقلي وإعياء مفاجئ من لغة مجنونة مخيفة عن موتى وقتلى ورصاص. جلست في المكان المخصص وفوجئت بجملة مكتوب بخط عربي واضح أمامي وبلطف مبالغ فيه:
ـ ( لطفا أنظر إلى الوراء !).
نظرت خلفي فقرأت جملة أخرى بالخط الأنيق نفسه:
ـ ( لو لم تكن حمارا لوجدت مرحاض في وطنك..تقضي فيه....!).
حالا حضرت صورة السيد خليل زادة وهو يدخل إلى غرف زعماء المعارضة واحدا، واحدا، وهو يوزع الابتسامات على طريقة عريس في ليلة الدخلة. عدت إلى صاحبي وسألته عن هذه العبارات فأجاب ببداهة كما لو كنت قد عثرت على باقة زهور هناك:
ـ طبعا، طبعا هنا يجلس عراقيون كثيرون.
قلت حاسما الأمر معتذرا بموعد عائلي ونهضت دون أن أترك له أية فرصة للاحتجاج وكنت قد صممت على إطلاق ساقي للريح إذا تطلب الأمر.
في الطريق إلى فندق كومفورت وجدتني أفكر على نحو عشوائي وهي طريقة العقل المنهك من جلسة أو عمل ثقيل أو ممل، في عدد من أسماء المرشحين لرئاسة العراق من غير العراقيين.
خطر ببالي الأمير السعودي طلال بن عبد العزيز. يقولون أنه مرشح قوي لحكم العراق لما يتمتع به من مواهب وأخلاق حسنة وأنه من المؤمنين بسياسة الانفتاح ولو على طريقة بعض رجال المعارضة العراقية الذين تختلف معهم عن البصل فيصدر بيان بحقك بتهمة العمل في جهاز الشين، فين، وتختلف معه حول أسعار الفجل فتصبح عميلا للسي، آي، أي، في أقرب نشرة أخبار أو جريدة.
والمرشح الثاني هو أمير هاشمي يعيش في الأردن قال عنه ناطق بلسانه على فضائية أي.ن.ن، أن مواهبه وكفاءته وحبه للعراق جعله إلى اليوم يطبخ الطعام العراقي ويتكلم اللغة العربية الفصحى أو ربما العامية.
وسمعت شخصا يعلق على هذه المواهب قائلا عبر الهاتف: وهل هذه تكفي كي يكون الرجل مسؤولا عن وطن لمجرد أنه يطبخ على بعر الأباعر؟!
الثالث: أمير أردني أيضا شقيق الملك حسين.
والرابع: هو الشريف بن علي طيب الله ذكره، وقال الناطق بلسانه ردا على الأول أنه أكثر فصاحة من الأمير العراقي المقيم في الأردن رعد بن زيد، وان الشريف حفظه الله ورعاه هو ابن أسرة عريقة ومن سلالة ملك وهم من أسرة هاشمية غير عراقية.
لقد جفت أرحام العراقيات ولم يعدن ينجبن سوى المشنوقين والفارين والقتلى.
ولا أدري لماذا يكررون دائما حكاية الأسرة العريقة، مع أننا لم نهتم يوما بهذا الموضوع، خاصة وأن أغلبنا من أسر فقيرة ومعدمة، ولا فرق عندنا أن يكون الحاكم ابن ملك أو ابن بائع شلغم في ساحة الطيران، شرط أن يكون نزيها، ومنتخبا، ولم يدخل غرفة البيك خليل زادة السيئة الصيت التي لا يدخلها زعيم حزب ويخرج منها بلباس داخلي نظيف!
والخامس: هو الجنرال فرانك أمريكي الجنسية والهوية والعقلية.
وهذا العريس يختلف عن العرسان السابقين في كونه أشقر البشرة وعيونه زرق ورشيق مثل صاروخ ملجأ العامرية، وعنده وثائق تثبت خلوه من الآيدز وفحولته الجنسية قوية بما يكفي حكومة احتلال بتمام أفرادها.
لكن أغرب مرشح يتداول اسمه هذه الأيام في المزاد العلني المخصص لبيع أشجار ومنائر وقبور وأضرحة ونفط وتاريخ وحضارة العراق ومستقبله هو جزائري الأصل.
وتساءلت في الطريق إلى الفندق:
لماذا مرة أردني ومرة أخرى أفغاني وثالثة سعودي ورابعة أمريكي وخامسة جزائري وربما غدا صومالي وليس فيهم عراقيا واحدا؟.
سأقول لكم السر مع الرجاء الكتمان:
يقول السيد خليل زادة في تقرير سري رفعه إلى الإدارة الأمريكية عن لياليه مع زعماء المعارضة وخلواته الغرامية معهم في الغرف المغلقة انه لم يجد فيهم واحدا منهم لا يزال يحتفظ ببكارته الجنسية أو الوطنية أو القومية أو السياسية.
بل لم يجد شيئا أمامه حتى أوشك أن يلج برأسه أيضا...!
ــــــــــــ*
سلسلة مقالات" محنة البطريق".