|
ما الفلسفة؟
ياسين كريكر
الحوار المتمدن-العدد: 5644 - 2017 / 9 / 19 - 04:08
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ما الفلسفة؟ إنّ سؤال "ما الفلسفة؟" هو سؤال يطرحه العاميّ كما يطرحه الفيلسوف. إلاّ أنّه سؤال عنيد، متكرّر الطرح، فغياب الإجابة يحيّر العامّي كما يحيّر الفيلسوف. غير أنّ الفلسفة لا تقدر على مواجهة ارتباكها إزاء هذا السؤال أو إزاء مداراته لكأنّ الفلسفة إنّما تنتهي إلى حدّ الصّمت إذا تعلّق الأمر بذاتها. فسؤال "ما الفلسفة؟" هو السؤال الذي لم تقدر الفلسفة لا على دفعه ولا على الاجابة عنه. فما الفلسفة؟ وهل من تعريف لها؟ إنّ هذا السؤال الماهويّ إنّما هو سؤال يبقي على المسافة، بينما الهدف من السؤال الإقامة داخلها، فسؤال ما الفلسفة- ضمن المنظورية الهيدغرية- إنّما يترصّدها ويجعلنا أمام تلمذة لا نهائية لفلاسفة قدامى. فأن نستعيد التعريف الأرسطي للفلسفة، فإنّ ذلك يعني فيما يعني، الإبقاء على أرسطو وصيّا يفكّر عوضا عنّا. فأيّ سؤال يمكن أن يجعلنا داخل الفلسفة؟ إنّ تهافت سؤال "ما الفلسفة؟" يجعلنا نستعيض عنه بسؤال "ما التفلسف؟" فهو سؤال قادر على أن ينفتح على أفق الفلسفة ليجعل للذات إقامة أبدية في ربوع التفكير الفلسفي؟ هل أنّ سؤال "ما التفلسف؟" هو سؤال يدعونا للإقامة لديه أم أنّه يدعونا إلى معاودة التفكير في معنى الإقامة من أجل التفكير(هيدغر)؟ ليس لدينا دلالة واضحة عن التفلسف فلماذا يصمت هيدغر عن سؤال "ما التفلسف؟" رغم أنّه ينبّه إلى أنّ الاهتداء إلى ماهيّة الفلسفة لا يكون إلاّ بمباشرة فعل التفلسف. إنّ صمت هيدغر عن ماهيّة التفلسف هو صمت يعبّر عن تحوّل في دلالة التفلسف إلى موطن للتساؤلات. فما التفلسف؟ وفيم يتمثّل؟ لقد قال يانكليفيتش (Jankélévitch) بأنّ التفلسف يتمثّل في "أن ننظر إلى الكون وكأن لا شيء فيه يسير على ما يرام". فهل يمكن أن نعتبر هذه الإجابة أو هذا التعريف أفقا ملائما للنهوض بسؤال "ما الفلسفة؟"، أي بالكشف عن ماهيتها؟ كيف يكون النظر إلى الكون من جهة أنّه لا يسير على ما يرام، سبيلا للإقبال على فعل التفلسف؟، أي هل أنّ النظر إلى الكون يضطلع بالشروط التي يتدبّرها الفيلسوف من جهة استعداده لخوض غمار التفلسف؟ بعبارة أخرى، هل أنّ ما يدفع إلى التفلسف يعود إلى بنية العالم أم إلى بنية الذات؟ من البيّن إذن أنّ التعريف الذي يقدّمه يانكليفيتش لماهيّة التفلسف هو تعريف يحتاج في قيامه إلى تدبّر نظريّ لما يلزم عن التباس هذا التعريف من مؤشّرات تدلّ في الآن نفسه على ضرورة توفّر إمكانات أصليّة للتفلسف وعلى توعّر واعتياص هذا الفعل ما دام النظر إلى الكون هو نظر إليه من جهة كونه ليس على ما يرام. بيد أنّ هذا القول لا يدرك معناه بعرض لتاريخ الفلسفة من جهة ما هو شاهد على الفعل الفلسفي وعلى نشوئه، وإنّما يلزم عنه استئناف التأمّل في أمر الفلسفة من جهة معاينتها ضمن سياق التفكير. إنّ الفهم الأوليّ لهذا التعريف لا يتحدّد معناه انطلاقا من استخلاص ما ينبّه إليه أو ما يحثّ عليه، لذلك ينبغي أن نترصّد المعنى الذي يرتسم لديه الفعل الفلسفيّ كنظر في الكون من جهة كونه "لايسير على ما يرام". يتحدّد سياق التعريف ضمن ثلاث مؤشّرات رئيسيّة: يتمثّل المؤشّر الأوّل في كون فعل التفلسف هو فعل نشيط، هو فعل يجد أصوله الأولى في مباشرة فعل النظر، ويتحدّد المؤشّر الثاني بكون هذا النظر، إنّما هو نظر في الكون. أمّا المؤشّر الثالث يتمثّل في أنّنا لا ننظر إلى الكون من جهة انتظامه وتراتبه، بل من جهة كونه "كأنّه لا يسير على ما يرام". فالمشكل يكمن في الكيفيّة التي ينبغي أن ننظر بها إلى الكون، كرؤية مبتدعة للاحراجات ولأسئلة. فالكون على انتظامه وتراتبه يكون أمره محيّرا، فما بالنا إذا افترضنا غياب النظام والتراتب فيه؟ "أن ننظر الى الكون وكأن لا شيء فيه يسير على ما يرام"، معناه أن ننظر اليه كما لو كان مصدر حيرة وقلق وتساؤل. نتبيّن إذن أن التفلسف يفصح عن إحداثية للتأمّل فإن كان التفلسف نظرا في الكون فإنّ هذا النظر إنّما يتحدّد كتأمّل أي كفعل يتساوق فيه النظر العقليّ بالنظر العينيّ. إذ ليست الفلسفة شأنا نظريّا فحسب وإنّما هي مكوّنة لهذا الوضع النظريّ دون أن تنحاز عن التأمّل في الكون من جهة ما هو الوجود بأسره ولاسيّما أنّ في لفظ "الوجود" ما يحيل على الكون. فالكون هو ما كان وما يكون، والوجود هو ما وجد وما يوجد وإن كان هذا التقارب في المعنى لا نعثر عليه إلاّ في اللغة العربية، إذ نلحظ ضربا من الترادف اللغوي بين فعل الكينونة وفعل الوجود وإن كان معنى الكينونة يتماثل في المعنى الأرسطي مع معنى التكوّن (génération) ويتناقض مع معنى الفساد (corruption). إذ أنّ اعتبار الكون إحداثية للتأمّل الفلسفي يفضي تبيّن المعنى المبهم في مفهوم "الكون" (l’univers) من جهة ما هو الوضع الأوليّ لاندهاش الفيلسوف إزاء العالم. لذلك فمفهوم الكون لا يقتصر على النظر في أمور تخصّ البنية الكوسمولوجية للعالم، بل ينبغي أن نعّين النظر في الكون على أنّه النظر في الوجود باطلاق. إنّ الفيلسوف لا يقف على الوجود كوقفة الباكي على قوم قد رحلوا، أو وقفة المتحسّر على تمثال زال رسمه، وإنّما هي وقفة السائل. فالفلسفة تتحدّد منذ البدء بكونها تساؤلا في أمر الوجود. إنّ الوجود يفترض دائما على أنّه لا يسير على ما يرام. إنّنا ننظر إلى الوجود دائما على نحو من الأنحاء أي في كلّ مرّة وفق منظوريّة مختلفة عن سابق المنظوريات، لأنّ المنظوريّة يحددّها الموقع الذي تحتلّه الذات المدركة عندما تنظر من تلقاء نفسها إلى الوجود. فالسؤال عن التفلسف من جهة ما هو نظر في الكون الذي يفترض أنّه ليس على ما يرام، ليس تفسيرا وضعيّا كما يتصوّره العقل الطبيعي وإنّما هو بحث عن بنية للمعنى هي مقام للانسان أو هيئة لوجوده أي نحو من أنحاء الوجود يتعيّن عليه تجريبه واختباره. إنّ السؤال عن التفلسف مرتبط بالصّعوبة الملازمة للفلسفة من حيث هي غير مشتقّة من الوضع الطبيعي للانسان إذ أنّ الفكر لا يبدأ على نحو تلقائي وإنّما يولد بتجربة قصوى ليست هي فحسب تجربة الوجود من جهة ما هي انفعال للانسان بالعالم والأشياء أو بهيئة وجوده وبسائر الاشياء المؤلوفة لديه، وإنّما يتولّد التفلسف بدفع هذه الألفة إلى رؤية مستفهمة عن أصل الوجود وأصل العالم. فالدهشة كما قال أرسطو، إنّما هي الأم التي أنجبت الفيلسوف. إنّ الدهشة هي انفعال وارتباك فكريّ وتوتّر يعود إلى الشعور بغرابة الظواهر وإلى فقدان المعرفة والسعي إليها. فما تحتاج إليه الفلسفة هو تنشيط السؤال. لذلك يكون التفلسف علاقة فعلية ومباشرة بالأشياء لتحويل ما هو مألوف إلى إشكال. - هيدغر، ماهي الفلسفة؟، العرب والفكر العالمي، العدد الرابع خريف، 1988)، ترجمة جورج كتورة ومراجعة جورج زيناتي، بيروت، مركز الإنماء القومي، ص. 22
#ياسين_كريكر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فلسفة ديكارت و بذور الذاتية الغربية
-
حل المشاكل وصنع القرار بالتفكير
-
هندسة الحجاج كمجال للحركة حاضر بقوة في يوميات الإنسان
-
أهمية علم النفس بالنسبة الاتجاهات الابستمولوجيا المعاصرة
-
-حدجنة السياسة من داخل القبة البرلمانية-
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|