|
العوالم الثلاثة في -في السماء صوت يهمس- مادونا عسكر
رائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 5641 - 2017 / 9 / 16 - 14:28
المحور:
الادب والفن
العوالم الثلاثة في "في السماء صوت يهمس" مادونا عسكر
بالتأكيد الواقع يؤثر في الكاتب/ة مهما بدى لنا أنه مستقل/منعزل/منزوي في عالمه الخاص، ومهما اظهرت الطبيعة من جمال وبهاء إلا أن الظرف العام، المحيط الخارجي يؤثر وله وقع وأثر فما يكتب ويقدم لنا في الأعمال ادبية. "مادونا عسكر" تستحضر الطبيعة في كتاباتها، حتى أننا نجدها تقترب من نهج "جبران خليل جبران" و" مخائيل نعيمة" لهذا نجدها إنسانية الطرح، وطبيعة الأدوات، فنادرا ما نجد التوتر والانفعال فيما تقدمه لنا من نصوص، فالطبيعة الخلابة في لبنان وشخصية الأنثى تجعل لغتها وصورها هادئة وناعمة، لكن يبدو أن الحروب في محيط لبنان ومشاهد القتل والتشرد والتدمير والخراب جعلت "مادونا عسكر" تتجه لكتابة هذا النص الذي يتجه نحو التوتر والصراع، لكنه صراع يتجه إلى أسفل، إلى الانخفاض والتهدئة، حتى أننا نجده ينتهي تماما مع آخر فقرة، وهذه اشارة إلى أن حالة الغضب/التوتر هما حالة طارئة على الكاتبة، وستزول مع أول شعور بالراحة، ومع بداية الخلاص من وقع أثر الأوضاع عليها. عالم التضاد تفتتح لنا بهذا المقطع: "(1) السّماء كائنٌ حيّ يقلّص مسافة الصّوت" فالسماء أخذت وصف الشيء الفسيح، وتمنح الصوت للوصول كاملا ودون عوائق أو حواجز، وهذه صفة طبيعية للسماء التي نشاهدها جميعا، لكن هناك سماء خاصة للكاتبة، تقدمها لنا بهذا الوصف: " سمائيَ جهالة الفلسفة وحكمة الحبّ" وهنا نتوقف متسائلين: كيف جمعت "مادونا عسكر بين متناقضين، "جاهلة الفلسفة"؟ فالفلسفة تعني الحكمة، وذروة التفكير الإنساني، لهذا نستطيع الاستنتاج أن هناك مؤثرات خارجية عملت على احداث هذه الهوة عند الكاتبة. وتقدم لنا مشهد آخر يؤكد حالة التوتر فتقول: " جنون يقارب عبثيّة طفل واتّزان ملاك" الجمع بين براءة الأطفال والجنون جمع يبدو في غير محله، وهو يشير إلى أن هناك حالة اضطراب/عدم رضا عن محيط الكاتبة، لهذا جمعت بين متناقضين، الجنون والأطفال. تقدم لنا فقرة أخرى تؤكد فيها عن غضبها، لهذا نجدها تحدثنا عن عالمها الخاص، عالمها الذي تتألق فيه، تقول: " سمائيَ ضدّ أوطان البشر صليبٌ يرتوي من خضرة خافقٍ ما برح يلدُني من ماء ودم. " فهي ترفض الواقع من خلال قولها "سمائي ضد أوطان البشر" فلها عالم خاص بها، بعيد بعد السماء عنا، وعالمها "السماوي" في حالة تضاد مع عالمنا الأرضي، لهذا استخدمت كلمة "ضد" والتي تشير إلى حالة النزاع والصراع مع المحيط . الثقافة الدينية حاضرة عند "مادونا عسكر" فنجدها في غالبية نصوصها، حتى يمكننا القول أنها مؤمنة وبقوة، لهذا نجد حضور السيد المسيح في العالم الذي تسعى إليه، لكن الحضور في النص لم يأتي حسب الفكرة المتعارف عليها، فهي تحدثنا عن "صليب يرتوي خضرة خافق" وهذا ايضا يشير إلى حالة عدم التوافق مع العقل، مع الأفكار المتعلقة بالسيد المسيح، لهذا يمكننا القول أن حالة التوتر وعدم ارضا عن الواقع/المحيط الخارجي ما زالت مؤثرة على الكاتبة. عالم الكاتبة، عالم الطبيعة المقطع الثاني جاء بهذه الفاتحة: " (2) ليس حبّاً بل كون يستعيد لحظات منعزلة عن ضجيج الوحدة" نفي الحب من خلال قولها "ليس حبا" يؤكد على الأثر المستمر للواقع، لهذا نجدها تميل نحو العزلة الناتجة عن حالة الاغتراب/عدم التوافق مع الواقع، فهي كحال غالبة الشعراء، مرهفة الاحساس تميل نحو العزلة لعدم توافقها/انسجامها مع الواقع. من خلال اعتزالها الناس/الواقع لا بد أن تجد الشاعرة ذاتها وتتصالح مع لغتها، مع الفاظها، مع أفكارها، فقد ابتعد، تم حجز الأثر السلبي في مكان قصي، لهذا نجدها تتقدم من جديد من طبيعتها المرهفة: " تماهٍ مع عبير الشّمس ومخلوقات النّور سكون يتحدّى غواية الرّيح يتهادى كعصفور ثملَ من وهج السّماء أرخى جناحيه وسبح في الأثير... ليس حبّاً بل لحظة كائنة بين "كن" "فكان"." وهنا تنقشع الغمامة تماما، وتظهر لنا "مادونا عسكر" طبيعتها/لغتها/افكارها/أدواتها/ألفاظها بشكل جلي، فعالمها بهي وجميل وطبيعي ينعش النفس ويقدمها من الفرح والبهجة، لهذا نجد كافة ألفاظها جاءت ناعمة وطبيعية وتوحي بالهدوء والجمال وما يتبعهما من فرح وسعادة، ونجد الابتعاد عن المحيط القاسي قدمها من عالمها الناعم والهادئ، وإذا ما قارنا بين عالم "التضاد" وعالم "الطبيعة" بالتأكيد سننحاز إلى عالم الطبيعة، لأنه أرحب بنا، ويمنحنا الفرح بينما الأول يجعلنا في حالة توتر وعدم اتزان. عالم العمل دائما علامة السؤال تجذب المتلقي من النص وتجعله يتوقف عند ما جاء فيه، فعندما استخدمت الشاعرة هذه الصيغة تريدنا أن نركز أكثر فيما تقدمه لنا، وأن نتأمل فيه وما يحمله من أفكار، ونتأمل الشكل والطريقة التي قدمته لنا، فعلينا التوقف عند الافكار/المضمون والأسلوب/الشكل واللغة/الألفاظ المستخدمة: "(3) إلى أين ستؤول الملامح إلامَ تصبو؟" المقصود في الملامح هنا ملامح الناس، المشاعر والانفعالات عندهم، التغييرات النفسية، وأيضا يقصد بالتغيرات في واقع الجغرافيا، المكان، المدن، الطبيعة، فهذه الملامح بعد عزلة الكاتبة من جهة، وبعد الخراب ـ من جهة ثانية ـ كيف ستكون؟: " الأرض خاوية" التغيرات السلبية والتشويهات الإنسانية والجغرافية نتيجة حتمية للخراب الذي حدث، لكن كما قلنا هناك حالتين قدمتها لنا "مادونا عسكر" الأولى الحيط وما فيه من الخراب، والثانية الطبيعة وما تركته من أثر عليها كأنثى تمتلك حس مرهف ومشاعر حساسة، لهذا نجدها تتحرر من ذلك الدخيل عليها وعلى حياتها وطبيعتها ـ العالم الخارجي ـ ، وتقدم لنا ما تصبوا إليه ـ عالمها الطبيعة ـ : " الفجر جديد ظلال ماض تجتذب سواعد النّضج المتعبِ... هناك في السّماء صوت يهمس: "نحن فوق"" فنجد عالمها الطبيعي حاضرا كما كان قبل الخراب، لهذا تستخدم ألفاظ بيضاء ومعاني تدعو للعمل الايجابي، وكأنها تقول من خلال العمل نستطيع أن نتقدم من جديد مما نريده، لأنه يحررنا ويعتقنا من الأثر السلبي الذي تركه الصراع علينا. إذا ما توقفنا عن العوالم الثلاث سنجد هناك عدم ترتيب بينها، فكان منطقيا أن تفتتح لنا الكاتبة عالمها (الطبيعة) في البداية، ثم تنقلنا إلى عالم (العمل) وتنهي حديثها عن عالم (الصراع)، لأن فاتحة النص الجميلة كان يمكنها أن تقدم القارئ من النص أكثر وتعطيه/تقدم له الفرق بين العالم الأول (الطبيعي) والعالم الثالث عالم (الصراع)، وبينما يكون العالم الثاني (العمل) الذي يدعو للحفاظ على بهاء ومنع حدوث الخراب، فهل كانت الكاتبة تعي هذا الترتيب أم أنه جاء هكذا دون انتباه؟. اعتقد أن كانت تعي هذا الأمر أم لا، إلا أن العقل الباطن عند "مادونا عسكر" هو أكثر وعي من عقها الواعي، لهذا نجدها قدمت لنا هذا العوالم بهذا الترتيب، وكأنها تريدنا أن نكون واقعيين، ومهتمين/مدركين لما يجري حولنا، وأن نشعر بهذا الواقع المؤلم، ليس لنتألم، بقدر دفعنا للعمل على احداث التغير الايجابي، الذي يقربنا مما يجب أن نكون عيه وفيه، عالم (الطبيعة)، وعندما انهت حدثها عن عالم (العمل) والذي من المفترض أن يكون في المرتبة الثانية، أرادتنا بعد أن عباءتنا معنويا واقنعتنا فكريا أن واقعنا ـ الآن ـ ليس سوي، وهو مشوه ، وعلينا أن نتجه مباشرة إلى ما يمكنه أن يكون رد عملي في تقدمنا، (العمل)، فهي لا تريد إثارتنا بقدر أرادتها أن تجعلنا فاعلين على أرض الواقع.
#رائد_الحواري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مشاكلنا في كتاب -ثقافة الهبل- جميل السلحوت
-
مناقشة كتاب- قلب العقرب- في دار الفاروق
-
قصة الومضة عند -محمد عارف مشه- في مجوعة -شبابيك-
-
حل المسألة الكردية
-
في السياسة بين كوريا والعرب
-
التشكيل في مجموعة -وليمة الجاحظ- حسام الرشيد
-
الحرف في قصيدة -عبود الجابري-
-
الانحياز للأطفال والفقراء في مجموعة -عصافير المساء تأتي سرا-
...
-
الصور الشعرية عند -محمد العموش-
-
غياب المكان والزمان في مجموعة -هي لعبة .. ولكن- عمر الخواجا
-
الالفاظ القاسية في قصيدة -الخرافة- جواد العقاد
-
طبيعية الشخصيات في رواية -مقامات العشاق والتجار- أحمد رفيق ع
...
-
اللغة المتألقة والصوت الواحد في رواية -وداع مع الأصيل- فتحية
...
-
استحضار النص الديني في ديوان -طفل الكرز- عدلي شما
-
مناقشة -الاشتباك- في دار الفاروق للروائي الفلسطيني :سعادة أب
...
-
المرأة والحرب في رواية -زبد الحديد- إيفان أوخانوف
-
الهدهد الذي يرى في قصيدة
-
أثر الواقع في ديوان -زفير- سعادة أبو عراق
-
عالم السماء والأرض في قصيدة -مرايا العشق- جواد العقاد
-
البياض والسواد في قصيدة -ذكريات وألم- منصور الريكان
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|