حسن عجمي
الحوار المتمدن-العدد: 5641 - 2017 / 9 / 16 - 05:09
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يصوّر نموذج علمي معاصر الكون على أنه عزف جاز. لهذه النظرية العلمية نتائج فلسفية مثيرة منها نفي الفلسفة العبثية و الشكية و التأكيد على محورية الوجود الإنساني و تفسير نجاح النماذج العلمية التي تبدو مختلفة و متعارضة.
موسيقى الفيزياء المعاصرة
يشير الفيزيائي ستيفون ألكسندر إلى نظرية الأوتار العلمية التي تؤدي إلى نتيجة أنّ الكون موسيقى. بالنسبة إلى نظرية الأوتار , العالَم يتكوّن من أوتار و أنغامها و بفضل اختلاف ذبذبات الأوتار تختلف طاقات الكون و مواده. و بذلك يغدو الكون سمفونية موسيقية. ثم يوضح ألكسندر في كتابه " جاز الفيزياء " كيف أنّ نظرية ميكانيكا الكم العلمية تسمح بوجود كل الاحتمالات فيقول إنّ من منطلق هذه النظرية العلمية يعبر الجُسيم كالإلكترون من كل الممرات أو المسارات الممكنة من نقطة مكانية إلى أخرى فيتخذ مثلا ً مسارا ً مستقيما ً و مسارا ً ثانيا ً شبه ملتوٍ ومسارا ً ثالثا ً ملتوٍ أكثر إلى ما هنالك من مسارات ممكنة عدة و مختلفة فتوجد بذلك كل مسارات الجُسيم الممكنة و المحتملة. لكن هذه المسارات الممكنة تناقض بعضها البعض. لذا تختزل بعضها البعض ما يؤدي إلى ظهور مسار واحد للجُسيم في عالمنا المنظور. هذا لا يلغي تحقق مسارات الجُسيم الممكنة و المتعارضة لكونها متحققة بالفعل في عالَم ما دون الذرة رغم اختزالها في العالَم المنظور من جراء تعارضها. هنا يرى ألكسندر أنّ العزف التلقائي الإرتجالي لموسيقى الجاز شبيه بما يحدث في نظرية ميكانيكا الكم إن لم يكن مطابقا ً له. (1)
في عزف الجاز تلقائيا ً أو إرتجاليا ً يعلم العازف فقط بداية و نهاية النوتات الموسيقية و ما بينهما من زمن بلا أن يعلم النوتات الأخرى بين بداية العزف و نهايته. و يتأمل هذا العازف بطريقة غير واعية كل النوتات الممكنة بين بداية العزف و نهايته. و حين يعزف ما بين بداية عزفه و نهايته فهو يوحِّد بين كل النوتات الموسيقية الممكنة و يختزلها إلى سلسلة موسيقية واحدة. فيغدو عزف الجاز التلقائي عزفا ً لكل النوتات الموسيقية الممكنة ما يتضمن تحقق الممكنات الموسيقية كافة تماما ً كما تتحقق كل المسارات الممكنة للجُسيم في نظرية ميكانيكا الكم. على هذا الأساس , يستنتج ألكسندر أنّ الكون عزف جاز ارتجالي. يضيف قائلا ً إنّ عازف الجاز التلقائي يوحِّد بين كل احتمالات العزف و يدمج كل النوتات الموسيقية الممكنة فيُنتِج عزفه. و هذا ما يحدث للكون بالنسبة إلى ميكانيكا الكم. فكل مسار للجُسيم له احتمالية وجود معينة و فقط حين تُجمَع كل احتمالات المسارات الممكنة نحصل على المسار المتحقق في العالم المنظور ما يطابق توحيد عازف الجاز للنوتات الموسيقية الممكنة ( المرجع السابق ).
أما مبدأ اللايقين فمبدأ أساسي في ميكانيكا الكم و مفاده أنه من غير المُحدَّد مكان الجُسيم و سرعته في آن. بكلامٍ آخر , يعبِّر مبدأ اللايقين العلمي عن عدم معرفتنا سرعة الجُسيم و مكانه في الوقت عينه. و هذا المبدأ يطابق لا يقينية عازف الجاز حين يعزف موسيقاه تلقائيا ً من دون مخطط مُسبَق كما يقول الفيزيائي ألكسندر. من هنا , الكون محكوم بمبادىء علمية كمبدأ اللايقين مطابقة لمبادىء الإبداع الموسيقي ما يشير بقوة إلى مقبولية تحليل الكون على أنه موسيقى. كما يؤكد العلماء على أنّ الكون يصدر موسيقاه الخاصة. و يفسِّر ألكسندر ذلك من خلال جدلية الجاذبية و الإشعاع. فبينما الجاذبية تكدِّس المادة بكثافة ما يمنع تشكّل البنيات المختلفة في العالَم إن كانت الجاذبية هي القوة الوحيدة في الوجود , الإشعاعات الناتجة عن الفوتونات تشكّل قوة طبيعية تعيد التوازن إلى الكون فتعارض قوة الجاذبية و تسمح بتكوّن بنيات الكون المتنوعة من نجوم و كواكب و مجرات. هذه الجدلية بين تعارض الجاذبية و الإشعاع الكوني تنتج " الرقص المنسجم " بينهما كما يقول ألكسندر. و هذا الرقص المنسجم بين الجاذبية و الإشعاع أدى إلى نشوء موسيقى الكون. بالنسبة إلى هذا النموذج العلمي , بنيات الكون بدأت كموجات صوتية فاتخذت بنية الموسيقى. على هذا الأساس , يستنتج الفيزيائي ألكسندر أنّ الكون آلة موسيقية تعزف ذاتها ما يتضمن أنّ الكون هو أيضا ً موسيقى ( المرجع السابق ).
نتائج فلسفية
إذا كان الكون عزف جاز أو موسيقى , و علما ً بأنّ للموسيقى معان ٍ و دلالات مشاعرية و فكرية , إذن للكون معان ٍ و دلالات. من هنا , النموذج العلمي القائل بأنّ العالَم موسيقى يتضمن أنّ العالَم المادي بظواهره الطبيعية كافة له معنى و دلالة. و بذلك وجود الكون ليس عبثيا ً بل لديه هدف أو أهداف. فبما أنّ للكون معان ٍ و دلالات , إذن معانيه و دلالاته هي الأهداف وراء وجوده. و لذلك وُجِد الكون للتعبير عن معانيه و دلالاته. هكذا نظرية أنّ الكون موسيقى تنفي الفلسفة العبثية التي تدعي أنّ الكون عبثي بلا معان ٍ و بلا أهداف. من معاني الكون أنه غير مُحدَّد ما هو و فقط الإنسان يحدِّده. ففي نظرية ميكانيكا الكم من غير المُحدَّد ما إذا كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة , و فقط حين يدرك وعي الإنسان تلك القطة تغدو القطة إما حية و إما ميتة. و هذا يعني أنّ الوعي يُحدِّد الكون غير المُحدَّد كما يقول الفيزيائي جون ويلر. على هذا الأساس , من معاني الكون أنّ وعي الإنسان يُنتِج الكون و يُشكّله ما يدل على محورية الوجود الإنساني و عدم عبثية وجوده. بالنسبة إلى نظرية أنّ الكون موسيقى , كل ظاهرة طبيعية لديها معنى و دلالة علما ً بأنّ للموسيقى معان ٍ و دلالات , و بذلك لم توجد عبثا ً.
من المنطلق نفسه , بما أنّ الكون عزف جاز , و علما ً بأنّ الموسيقى لغة تتكوّن من أنغام و انسجامها , إذن الكون هو لغة أيضا ً. لذا الكون يخاطبنا باستمرار تماما ً كما تفعل اللغة حين نستخدمها. و بما أن العالَم لغة و بذلك يخاطبنا , إذن المعرفة ممكنة. تفصيل ذلك أنّ الظواهر الطبيعية كالكواكب و النجوم و المجرات لغات متنوعة ضمن لغة الكون نفسه و تخاطبنا من خلال صفاتها كطاقاتها الجاذبة و الطاردة و إشعاعاتها الضوئية و موجاتها الصوتية المُنتِجة للموسيقى الكونية فتمكننا بذلك من استنتاج مما تتكوّن. و هذا ما يقوم به العلماء بالضبط ما يضمن النجاح في معرفة ظواهر الكون. هكذا نظرية أنّ الكون موسيقى تتضمن إمكانية الحصول على المعرفة فتنفي المذهب الشكي القائل باستحالة امتلاك الإنسان للمعرفة. هذه نتيجة فلسفية أخرى للنموذج العلمي القائل بأنّ العالَم موسيقى فلغة ذات معان ٍ و دلالات. و إن لم يكن العالَم لغة موسيقية لاستحالت المعرفة فاستحال نجاح الإنسان في البقاء حيا ً على ضوء معارفه. كل الظواهر الطبيعية لغات ذات معان ٍ لكونها موسيقى. فالأشجار و الزهور مثلا ً لغات أيضا ً لكونها تخاطب الكائنات الحية الأخرى بأشكالها و رائحتها فتدعوها إلى الاستفادة من ثمارها أو رحيقها. هكذا الكون لغة هدفه استمرارية الوجود و الحياة.
إن كان العالَم موسيقى فلا بد من مستمع. فموسيقى من دون مستمع ضائعة و فاشلة. بكلام ٍ آخر , موسيقى من دون متلق ٍ خالية من معانيها و أبعاد مضامينها غير مُحدَّدة. فالخطاب الموسيقي كالخطاب اللغوي يستلزم بالضرورة وجود متلق ٍ له لكي يتحقق بالفعل. المتلقي يشارك بقوة في تحديد معاني الخطاب أكان خطابا ً لغويا ً في النثر أم الشِعر أم خطابا ً موسيقيا ً. لذلك عالَم من دون إنسان مستمع لموسيقى الكون هو عالَم ناقص و غير مكتمل في تشكّله و حضوره. على هذا الأساس , تتضح محورية الوجود الإنساني. لذا وُجِد الإنسان لكي يستمع إلى موسيقى الكون فمن دون وجود الإنسان يفشل الكون في الحضور الفعلي لكونه حينها يبقى بلا اكتمال عزفه الموسيقي. فلا عزف بلا مستمع تماما ً كما لا عزف بلا عازف. هذا لأنّ الموسيقى تتشكّل من قبل عازفها و مستمعها معا ً كأي لغة أو خطاب. من هنا , النموذج العلمي القائل بأنّ العالَم سمفونية موسيقية يؤدي إلى الفلسفة الإنسانوية و يدعم مصداقيتها. فبما أنّ العالَم عزف موسيقي , و الموسيقى تتطلب الاستماع إليها لكي تتحقق بالفعل و تتحدَّد مضامينها , إذن نظرية أنّ العالَم موسيقى تستلزم بالضرورة وجود الإنسان المستمع إلى عزف الكون و أنغامه. و هذه النتيجة هي الفكرة الجوهرية في الفلسفة الإنسانوية التي تؤكد على محورية الوجود الإنساني. هكذا نظرية أنّ العالَم موسيقى تبرهن على مقبولية الفلسفة الإنسانوية.
كما أنّ الموسيقى مجردة و مادية في آن. فهي مجردة لكونها أنغاما ً و انسجامها. و هي أيضا ً مادية لأنها نتيجة آلات موسيقية مادية و من الممكن دراسة أنغامها و قياسها كما تُدرَس المادة و تقاس موضوعيا ً و علميا ً من خلال اختبار الواقع. الآن , إن كان الكون موسيقى , و علما ً بأنّ الموسيقى مجردة و مادية في الوقت عينه , إذن الكون مجرد و مادي في آن. لذلك من الممكن بنجاح وصف الكون و تفسيره على أنه مجرد كأن يكون مكوَّنا ً من بنيات الرياضيات المجردة كما يصر الفيزيائي ماكس تغمارك تماما ً كما من الممكن وصف الكون و تفسيره بنجاح على أنه مادي كأن يكون متشكّلا ً من مواد كالذرات و جُسيماتها و طاقاتها كما يؤكد نموذج علمي آخر. من هنا , تنجح نظرية أنّ الكون موسيقى في تفسير لماذا ينجح العلماء في وصف العالَم و تفسيره على أنه مجرد و مادي في الوقت نفسه. و بذلك تكتسب نظرية أنّ العالَم موسيقى فضيلة كبرى لكونها تفسِّر نجاح نموذجيْن علميين أساسيين. كل هذا يرينا أنّ حقيقة أنّ الكون موسيقى تتضمن أنّ الكون مجرد و مادي في آن. لذلك عالَم بلا موسيقى عالَم مسجون إما بماديته و إما بمجرديته. لذا عالَم بلا موسيقى يسجننا في مفاهيم و نظريات مُحدَّدة بينما العالَم الموسيقي يحررنا فيحقق إنسانيتنا.
المرجع
(1) Stephon Alexander : The Jazz of Physics. 2016. Basic Books.
#حسن_عجمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟