عامر الدلوي
الحوار المتمدن-العدد: 5641 - 2017 / 9 / 16 - 14:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تصل بيتك صبيحة هذا اليوم من عائدا ًمن جبهات القتال في العمارة " الفكه / الطيب / أبو غرب " لتلك الحرب الكافرة التي أطال أمدها " مغفلين " أثنين حسب تفكيرك الساذج أنت و من تنتمي إليهم فكرا ً و عقيدة , لكن الوقائع أثبت بعد إنتهائها أن هذين " المغفلين " لم يكونا سوى بيدقين يحركهما أسيادهما كيفما شاؤوا , هذه الحرب الكافرة التي أتت على خيرات و مقدرات شعبين كانا يعيشان بوئام وسلام رغم تباين الأنظمة الحاكمة لعشرات السنين لتزرع بديلا ً عنها هذه الحقول الكبيرة من الحقد و الكراهية بينهما.
تصله مجازا ً لمدة أسبوع تستعيد فيه أنفاسك و تجدد نشاطاتك الحيوية لتعود بعدها لشهر جديد من تلك الجولات القذرة التي ما تخلف من نتائج سوى الجثث الممزقة و سيول في الدماء يخلفها كل هجوم أو تعرض أصغر منه من شبيبة الجانبين و التي تجاوزت أرقاما ً فلكية في مجملها من القتلى و الجرحى و المعوقين .
تستقبلك الزوجة بفرح شديد نتيجة لخروجك سالما ً من تعرض قام به اللواء الذي تعمل فيه على تلة صغيرة سبق و أن أحتلتها القوات الأيرانية على مشارف الطريق المؤدي إلى منطقة المقالع في ناحية الطيب و الذي ذهب قربانا ً له و لمطامع آمر اللواء بالتكريم من قبل " المغفل الأكبر " الفوج الثاني من اللواء الذي خرج من الخدمة و كان أفراده قد توزعوا بين قتيل و جريح .
تسألها و أنتما تعيشان في ذلك البيت الواقع في مدينة تقع جنوب غرب بغداد بمسافة 55 كم تقريبا ً منذ ثلاث سنوات بعد أن صدر أمر نقلها هناك ضمن مشروع التدرج الطبي :
- ما هو برنامجنا لقضاء الإجازة ؟ هل سنأخذ الأولاد إلى مدينة الألعاب و منتزه الزوراء حيث حديقة الحيوانات ؟ كيف حال أهلك في بغداد و هل أتصلت بهم هذه الأيام ؟
- بالتأكيد سنتفرغ يوما ً منها لفسحة الأولاد و الأهل لم أتصل بهم منذ 5 أيام .. حاول أنت الإتصال بينما أعد شيئا ً للغذاء .. لنعرف أخبارهم و مشاريعهم لعطلة نهاية الأسبوع .
- ماشي عزيزتي .
تزول الرقم ويبدأ الرنين هناك في البيت الكبير في بغداد و يأتي صوت " ص " أخيها الأكبر من هناك :
- ألو ... ألو ...نعم
- ما لصوتك يا أخي قد تغير .. هل أنت مريض ؟
- أوه ... هذا أنت .. متى وصلت .. كيف علمت .. و هل بلغوك هناك ؟
- لا تقلقني رجاء ً ... ما هذه الأسئلة .. وعماذا يبلغوني ؟ أنا وصلت في إجازتي الدورية .
- إسمع لا تخبرها بشيء , و إذا أردت ذلك فبتروي , أنا عدت للتو من مديرية أمن القناة وقد بلغوني بأن نكون عند بوابة سجن " ابي غريب " في الساعة السادسة مساء ً لإستلام جثة " عماد " لقد أعدموه شنقا ً بموجب حكم صادر من " محكمة الثورة " .
- طيب لا تفعل أي شيء لحين قدومنا .
كانت الساعة قد إقتربت من الثانية ظهرا ً عندما سمعت صرختها و هي تهوي إلى الأرض منتحبة ً بصوت مكتوم و هي تبكي بصوت متهدج خافت خوفا ً من أن يسمع صوتها خارج البيت : أخي .. أخي ... فيما بدا أنها قد أستمعت للحديث الذي دار بيننا .
أتصلت بأحد الأصدقاء من العاملين على خط بغداد بسيارته " الكراون " ليأتينا للبيت ويأخذنا إلى بغداد .. و كان لا بد من إختراع قصة لها الذهاب المستعجل إذا ما رأنا في وضعنا ذاك , و لأنه كان صديقا ً مقربا ً و كنا نتوقع سؤاله , لذا أقنعناه بكون أن أحدى قريباتنا ظهرت نتائج دراستها و كانت غير موفقة في النجاح و حاولت الإنتحار و هي في المستشفى الآن حالتها حرجة و نريد زيارتها , ظل الرجل طول الطريق يحوقل و هو يسمع نحيب " الدكتورة " تسميته و تسمية أبناء المدينة المحببة لقلوبهم .
قرابة الثالثة كنا في البيت الكبير وقد أجتمعت العائلة كلها تقريبا ً , كنت أتحدث بحكم العارف بما يجري من أمور سواء في الطب العدلي أو في السجن حسب ما توفر لي من معلومات عن طريق أحد الأصدقاء من أهالي " كركوك " عندما كنت أعمل هناك عامي 1979 / 1980 وكان سائق تاكسي يذهب لإستلام جثث المعدومين من أهالي منطقة تسن " تسعين بتسميتها العربية " ذهب هو الآخر شهيدا ً بحكم الإعدام في العام 1984 .
قلت سوف لن نأخذ أي شيء معنا لا صندوق و لا حبال لأن " عبد الأمير " أخبرني بأنه كان يتعرض للسب و الشتم عندما يذهب مصطحبا ً صندوق و حبال للربط على السيارة من قبل أزلام النظام من رجال الأمن المنتدبين للعمل في الطب العدلي لتسليم جثث المعدومين قائلين بالحرف الواحد :
- لك حيوان نحن ما دورنا هنا ؟ أولسنا هنا لنرتزق من وراء التسليم ؟ نحن نبيع الصندوق بأربعين دينارا ً و الحبل بعشرة دنانير سنأخذها منك هذه المرة و نسامحك . و لكن في المرة القادمة سنقتلك و نرسلك إلى أهلك في الصندوق الذي تأتي به معك .
في تمام السادسة مساء ً كنا عند بوابة السجن الرئيسية الواقعة على طريق أبي غريب – فلوجة عند ناحية الزيدان , كنا خمسة أفراد , ثلاثة من أخوانه و أنا و عديلي الأكبر , بسارتين الأولى بيك آب تعود لأخيه الكبير و المرسيدس العائدة لعديلي , ذهب أخيه الأكبر إلى الإستعلامات :
- تفضل أخي , ماذا تريد ؟
- أنا مبلغ من قبل مديرية أمن القناة بالحضور في السادسة مساء ً لإستلام جثمان أخي المعدوم .
- إرجع إلى مكانك و أنتظر , سنتصل بالداخل و نناديكم .
إنتظرنا و الساعات تمر , قاربت التاسعة مساء ً عندما ذهب إليهم مرة أخرى تحت إلحاحنا , و عاد ليخبرنا إعتذارهم لأن الجماعة في الداخل كانوا يتناولون وجبة العشاء و الآن يشربون الشاي و عندما ينتهون سينادون علينا , و لإستغلال الوقت رحت أكلمهم عن قرار الحكم بأنشاء بنك العيون و كيف أن أحد مصادر البنك غير الموتى من المتبرعين هو عيون المحكومين بالإعدام , لذا طلبت منهم أن أدخل أنا في الإستلام حتى لا يضعف أحدهم عند مشاهدة الجثمان .
الجميع رفضوا دخولي معللين بذلك أنهم سيطلبون منا الهويات و إذا ما عرفوا بأنك عسكري فسيكون في ذلك خطر على حياتك , رضخت لطلبهم , وصار الأمر أن يدخل الأخوين الأكبر و الأصغر منه و نبقى نحن الثلاثة بالإنتظار , و مرت الساعات وعندما قاربت الثانية عشرة ليلا ً و هم مستمرون في إذلالنا نادوا علينا أن تعالوا , ذهب الأخوين ليعودا بعد دقائق و قد خاضا الحوار التالي :
- هل جئتم هكذا بدون صندوق ؟
- لقد قيل لنا بأن السجن يوفر الصندوق لذلك لم نأتي بواحد معنا .
- ولكن هذا غير صحيح و غير جائز أن تأخذوه بدون صندوق .
- و مالعمل الآن ؟
- بدلا ً من عودتكم إلى بغداد إذهبوا إلى الجامع في المقبرة و إجلبوا صندوقا ً بعد أن تدفعوا التأمينات لشيخ الجامع فيكون ذلك اسهل لكم .
ذهبنا أنا و أخيه الأكبر بالبيك آب لجلب الصندوق و كانت الساعة قد شارفت الواحدة ليلا ً , عندما رنيت جرس بيت الشيخ الملاصق للجامع , خرج الرجل و بعد السلام عليه قلت له :
- شيخنا نحن بحاجة لصندوق لإستلام جثة .
- من أي مستشفى ستستلمها ؟
- من الزيدان يا مولانا , وهذه التأمينات .
- لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , خذ الصندوق يا ولدي , وضع فلوسك في جيبك , و ارجو أن تنقل وصيتي لذويك , حذار من الإنفعال و التحدث بكلام غير لائق , لأن أخيكم قد مضى في حال سبيله و هذا قدره , ولكن حافظوا على أنفسكم قدر الإمكان . و أنا سأخبر الدفان بحفر القبر بمكان جيد .
لا أدري هل لأن الرجل كما يبدو قد مر بتجارب كثيرة سبقتنا , أستطاع أن يعرف الموضوع بمجرد ذكر كلمة " الزيدان " أمامه ليعرف أنني كنت أعني السجن المشؤوم , قفلنا عائدين وقد نقلت توصية الشيخ لهم , ليدخل بعدها الأخوين ولا يخرجا إلا قرابة الثالثة فجرا ً , و كان أول ما لاحظت بروز اليد اليمنى للشهيد من الصندوق متجهة ً إلى أعلى بوضع معقوف , جلست في البيك عند الصندوق ملامسا ً يده فإذا هي متجمدة تسائلت :
- مالأمر ؟
- إنه أعدم يوم في اليوم العاشر من الشهر و قد حفظو جثته في البراد , سأحدثك بالتفاصيل حالما نبتعد عن السجن و في المقبرة .
كان هذا جواب الأخ الذي دخل مع الأكبر لجلب الجثمان . و عندما أبتعدنا قليلا ً أبتدأ بالحديث :
" عندما دخلنا إلى مكتب التسليم لاحظت وجود قضيب معدني مدبب الرأس بطول مسطرة تقريبا ً و قطر 5 ملم و قد مررت به العشرات لا بل المئات من شهادات الوفيات و التي أخذت منهم وقتا ً طويلا ً ليتم العثور على الشهادة الخاصة بالشهيد , وطلبوا إن يذهب واحد منا فقط معهم للتعرف على الشهيد بعد أن استدعوا شخصين متقدمين بالعمر من قسم الأحكام الطويلة ليصحبانا إلى البراد , فإذا به جملون كبير ما أن فتحت أبوابه حتى كنت أمام منظر تقشعر له الأبدان , مئات الجثث ملقية الواحدة فوق الأخرى تذكرت حينها صناديق السمك البحري الذي كانت توزعه " المبايعات الحكومية " على وكلائها لبيعه للمواطنين , أعطى مسؤول المكتب الرجلين أرقاما معينة للرجلين و طلب منهما البحث عن حاملها , ليعودا بعد جولة قصيرة قضياها بالسير فوق الجثث , بجثتين ملتصقتين ببعضهما , وبنفس الطريقة التي كان الوكيل يفرق بها السمك عند التوزيع , حمل الرجلين الجثتين قليلا ً عن الأرض و ألقيا بهما عليها , ليفتحا أحدهما عن الأخرى , تعرفت على الشهيد و أستلمت شهادة الوفاة و جئناكم , هذا مختصر مفيد " .
عندما وصلنا المقبرة وجدت الشيخ بالأنتظار قائلا ً :
- لقد أوصيت الدفان بأن يختار مكانا جيدا ً ليحفر له قبراً فكان أن حفر له بين شهيدين من شهداء الحرب في المجموعة 19 , و أرجوا الله أن يتقبله و يحفظكم جميعا ً من كل سوء .
كان الدفان مصري الجنسية و كان هو من يقوم بالتغسيل و التكفين وقد دخلت معه أساعده فإذا بي أمام منظر تشيب له الولدان حال نزعنا لملابسه , ثمة أربعة مكانات في ظهره كان واضحا ً فيها اثر الحروق الناجمة عن استعمال النار في التعذيب " لحام الأوكسي أستيلين " أما ركبته اليمنى فكانت مفتحوة و أثار تهرء واضحة في المنطقة المحيطة بها , كنت قد وضعت صنبور الماء الساخن على يده المتجمدة قرابة نصف ساعة قبل أن نتمكن من إلانتها نوعا ً ما حتى تطوى على جسده عند التكفين . وعندما هممت بتقبيل جبينه رافعا رأسه بيدي إذا بيدي تغور في كسر بالجمجمة , الأمر الذي تطلب من المصري إعادة غسل الرأس بعد أن لاحظت خروج ألياف قطن من عينيه , فإذا بهم و لشدة زحمة الإعدامات في ذلك اليوم قد وضعوا عدستين مختلفتين في اللون في محجر العينين التي كما أسلفت , يبدو إنها أخذت إلى بنك العيون , الأمر الذي صرت موقنا ً منه أن الشهيد قد نفذ به الحكم بعد أن قتلوه أو كان في نزعه الأخير جراء التعذيب .
في تمام الرابعة و النصف صباحا كانت عملية الزفاف قد تمت , و حال عودتنا إلى البيت تفاجئنا بأن السادة قد زاروا البيت و فتحوا جهاز التلفون ليرفعوا منه الحاكية فقط , بعد أن كانوا قد بلغوا الأخ الأكبر مسبقا ًبأن الإستلام يتضمن الذهاب به مباشرة إلى المقبرة و عدم جلبه إلى البيت و عدم إقامة مراسم العزاء أو البكاء حتى في البيت , و لثلاث ايام أعقبت ذلك كان التلفون يرن كل نصف ساعة و عندما نرفعه لا أحد يتكلم , كانوا ينصتون فقط ليعرفوا أن لا أحد منا يبكي أو حتى " يقرأ قرآن و فاتحة لروح الشهيد . في اليوم الرابع شرفونا بزيارة أخرى ليعيدوا ربط الحاكية التي كانوا قد أخذوها معهم .
#عامر_الدلوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟