انتصرت حماس. هذا جيد للديمقراطية، لكنه ليس كذلك بالنسبة لخالد مشعل،ورفاقه في قيادة الحركة. يقتضي الجلوس في كرسي الوزارة برنامجاً اقتصادياً يختلف عن جمع التبرعات الخيرية وتوزيعها. وتتطلب ادارة الدولة عقلاً علمياً منفتحاً يختلف تماماً ويتعارض مع ذهنية الدعوة والوعظ.
لحماس كوادر في مختلف التخصصات، بيد أنها محكومة بعقلية الخطابة وحلقات الدرس والتعبئة. في المؤتمر الصحفي، الذي عقد السبت بدمشق، أكد رئيس المكتب السياسي للحركة ذلك. لم يتحدث الرجل عن برنامج اقتصادي محدد. لم يتحدث عن رؤية سياسية واضحة، ويبدو أنه لم يكن مدركاً النصر والالتزامات المترتبة عليه.
كان الزمن لديه ثابتاً, وبدا منطق العمليات الانتحارية مسترخياً في حديثه وحركاته. وإذ لم يكن مطلوباً من خالد مشعل قراءة التحولات وتوقعها، فإن أبسط مقومات العمل السياسي هي القدرة على فهم المتغيرات والتعاطي معها.
وقف الرجل عند مسألة التهديد بقطع المساعدات. تحدث بفخر:" إن شعبنا لن يعيش على التسول". هاجم:"شعبنا موجود من قبل امريكا وعاش دون الحاجة إليها". تودد:" الدول العربية والاسلامية لن تبخل علينا". المضحك كان رده على مخاوف قطع المساعدات بابتهالة ايمانية: «سنتكل على الله»..!! مستحضراً "ولله خزائن السماوات والأرض".
هذه العقلية رسخت السلبية والإتكالية والخرافة في الوعي العربي، وساهمت بشكل كبير في اتساع رقعة الدجل والتضليل.
الإتكال على الله أمر جميل، لكنه لا يعدو كونه تضليلاً في قيادة الدولة وادراكها. للاقتصاد لغة وللسياسة كذلك. في ادارة الدولة تحضر الخطط والعقول الاقتصادية والسياسية. لكل شيء سبب و"خزائن الله" لاتفتح لمن يكثر بالدعاء ويؤكد مبتهلاً اتكاليته على الله.
امام الحكومات اختبار ليس الله طرفاً فيه على الإطلاق. حتى العمل الخيري يقوم على طرق وخطط واساليب معروفة. ويدرك مشعل ورفاقه أهمية اللحية والصلاة في التسول بقضية شعب اقتلع من أرضه وشرد.
ما أسوأ أن تُجرّد للحديث عن السببية في القرن الواحد والعشرين، ولا أفدح من الاستماع لرجل يتأهب لقيادة "دولة" بالابتهال الديني!
إن عدالة القضية، أياً كانت، لا تعني أبداً تشريع الإتكال على الآخرين، والتظاهر الديني لا يعني الاكتفاء باللحية، وأداء الصلوات الخمس في قيادة شعب هو في أمس الحاجة للعلم الحديث ومناهجه. كان مقرراً أن تقدم امريكا لفلسطين نحو 150 مليون دولار هذا العام. هذا هو المهم لا مسألة من وجد قبلاً. ان القول بأن الشعب الفلسطيني وجد قبل امريكا أقرب إلى المناجمة الهوجاء منه إلى السياسة والمنطق. فلسطين محتاجة كل دولار والسياسي الناجح هو الذي يستطيع الحصول على أكثر من ذلك، بالمواءمة بين المطلوب والممكن تحقيقه.
لا داعي لإحتقار التسول فالهبات والمساعدات لا تخرج عنه. طوال خمسين عاماً ظلت التبرعات تجمع وتتدفق على القيادات الفلسطينية دون أن يعرف احد كيف وبأي طريقة تم انفاقها. لقد أُلزم العرب والمسلمون بدفع تلك الأموال، وظلت "عدالة القضية" حاجزاً لمعرفة كيفية صرفها. ويعرف الجميع أن الأموال صرفت بشكل انتقائي مع انها جمعت تحت «يافطة» الشعب الفلسطيني ككل.
عيش على القضية.. عيش على الاكاذيب
في المؤتمر الصحافي قام فلسطيني مخاطباً مشعل:" عمري خمسون سنة ومازلت أحمل هوية مؤقتة، أريد منك ان تقول لاطفالي، أطفال الشتات، إنهم سيعودون إلى القدس". رد رئيس حماس كان صاعقاً، مليئاً بالغطرسة الفارغة وقلة العقل:"بشر اولادك.. كلنا عائدون"!! قال للمواطن ذي الهوية المؤقتة، الذي لا اعرف كيف دخل مؤتمراً خاصاً بالصحافيين: «التقيت باحد الفلسطينيين في احد المطارات العربية، وقال لي: يا أخ خالد! انا كلما اشوفك او أشوف احد اعضاء حماس اعرف أننا سنعود إلى القدس"!! وبعد أن سأله عما يراه هو في و جهه أكد مشعل لمواطنه: «إن من يركب قطار حماس سيصل إلى فلسطين.. سنعود إلى كل قرية..»!!
هكذا يُباع الوهم والتنطع في آن. أهذه هي الواقعية؟ تحدث مشعل كما لو أنه قائد فتح مكة. والمنتصر، الذي يمثل الاسلام لم ينس اصوليته المتعصبة، إذ احتكر كل شيء في ذاته: "نحن الحاضر والمستقبل في فلسطين"!
في الجانب السياسي كان كلام مشعل مطاطياً:" ستلزم بالتزاماتنا التي تخدم شعبنا ولن نرضخ للضغوط". لم يقل لنا الرجل ماهي الإلتزامات التي سنلتزم بها حركته، المعارضة لجميع الإلتزامات والاتفاقيات التي ابرمتها "فتح" مع اسرائيل، بدءاً في أسلو وانتهاء بخارطة الطريق.
قال رداً على مخاوف قطع مسيرة السلام:" نحن نعيش العالم كما هو وليس كما نريده نحن"، فيما تحدث عن الثوابت التي لا تراجع عنها!! قال انه ورفاقه يؤمنون "بالتدرج والواقعية"، فيما رفع سقف مطالبهم: «التمسك بتحرير الأرض كلها بما فيها القدس، التمسك بحق العودة..».
الرجل الواقعي يحلق أبعد من كامب ديفيد الثانية و1967. الرجل الذي يؤمن بالتدرج ردد كثيراً:" سنفرض ارادتنا"،والشعب الفلسطيني ليس بحاجة، في المرحلة الراهنة، لشعارات عن قوة الارادة.
قوة الإرادة احدى أكبر الكذبات العربية، إذ كانت مرادفة للعجز والفشل وعدم الاحتكام للعقل.
سُحل الفلسطينيون، شردوا، فتم الحديث الحماسي المفرط عن قوة الإرادة. اقتلعت قرى، احتلت مدن، رُفضت اتفاقيات بعودة اكثر من نصف الأرض، أملاً بقوة "شعب الجبارين". قامت الانتفاضة الثانية، رُفض عرض 97% من الضفة وقطاع غزة في كامب ديفيد الثانية رهاناً على قوة ارادة المطالبين بالقدس وحق العودة. أنهك الفلسطينيون تحت دعوى مواصلة الانتفاضة ولازال خالد مشعل يتحدث عن "قوة الإرادة" وامكانية فرضها بالقوة على اسرائيل!!
أين يعيش خالد مشعل ورفاقه حملة راية الاسلام؟ وكيف يفكرون؟ ليست المشكلة في الافكار المنغلقة المتطرفة، كما هي ليست في قوة الاخلاص للقضية والأرض الفلسطينية. انها أبعد من ذلك: مصالح شخصية مباشرة.
أفرحني فوز "حماس" ليس حباً في الديمقراطية فحسب، بل رغبة في وضع الحركة على المحك انتقالاً من دورها الشعبوي المضلل.
أظن "حماس" ستفشل في ادارة الدولة، وذلك سيضع حداً لتوسعها الشعبي، الذي يظهر كما لو أنه رسالياً. الفشل سيتحول إلى ممانعة ومحاولة لتفجير الوضع، كي يتمكن "الأخوة" من العودة إلى دورهم السابق.
سيعود خالد مشعل ورفاقه للمعارضة وتفجير أي تسوية للصراع دفاعاً عن مصالحهم المتمثلة في التعيش بالقضية واهلها. ان مقر حركة حماس في صنعاء افخم وأفضل من مقرات الاحزاب اليمنية، باستثناء الاصلاح والمؤتمر. للاخوة المجاهدين في سبيل فلسطين من صنعاء دور مع التبرعات بفرش "الكشائد" في المساجد، وقضم اقساط من رواتب الموظفين، وجمع ملايين عن طريق المهرجانات والتجار، ونشر الحصالات النقدية الشفافة في البقالات ومراكز الاتصالات. وليس بمقدورهم التنازل عن ذلك حتى بعودة كافة الاراضي الفلسطينية، ورمي شارون وشعبه في البحر.
بين شعبين احدهما ميت
بعد العراق، قدمت فلسطين نموذجاً جيداً للديمقراطية. للأمر إرتباط مباشر بالخارج. في الأولى ضمن التدخل الأمريكي حدوث انتخابات بعيدة عن السيطرة الطائفية والعسكرية فيما كان لاسرائيل دور اساسي في التغيير الذي حصل في الثانية. وإذا ما أغفلنا دور اسرائيل في ارتفاع رصيد المتطرفين وسيطرتهم على المجلس التشريعي، لن يكون بإمكاننا تجاهل أثرها المكاني والإنساني والديمقراطي: في معرض تباهيها بماجرى، قالت قيادات فلسطينية إنها أثبتت أن اسرائيل ليست الديمقراطية الوحيدة في المنطقة. كثيرون كرروا ذلك بصيغ اخرى. الديمقراطية هنا ليست خياراً ذاتياً وانسانياً، بل مجاراة مفتعلة للارتفاع إلى المستوى الانساني والديمقراطي لـ"العدو"!!
منذ 1969 وحركة فتح تسيطر منفردة على "الذات الفلسطينية". وحتى 11 نوفمبر 2004 ظل "أبو عمار" هو بطل الفلسطينيين وصوتهم. حسبة بسيطة تظهر أن "الختيار" ظل مغيباً لـ"شعبه" 35 سنة. مقابل هذا الموت الجماعي كانت اسرائيل تضج بالحياة والتطور: تعددت الكيانات والادوات النضالية وتنوعت قياداتها: اللجنة التنفيذية الصهيونية، الوكالة اليهودية، التي تنقل منها بن غوريون، إلى رئاسة كيانات أخرى قبل ان يتولى الاعلان عن قيام دولة اسرائيل عام48.
لم تقف اسرائيل عند وعد بلفور. لم تقف عند المحرقة أو العصور الأوروبية/ الانسانية المظلمة.
تجاوز الاسرائيليون البطل والقائد المؤسس: بن غوريون، الذي تولى رئاسة المجهود الحربي والأمني للدولة اثناء سنوات التأسيس الأولى، شغل منصب رئيس الحكومة ووزير الدفاع لفترتين فقط انتهت باستقالته من وظائفه الحكومية في يونيو 63، ثم انتقل إلى المعارضة ومات وهو خارج العمل الرسمي.
حضور ياسر عرفات طغى على المؤسسات المفترضة. على الطرف الآخر كانت الحياة السياسية والاجتماعية تسير دون هيمنة شخصية: تداول الحكم احد عشر شخصاً: بن غوريون، شاريت، اشكول، جولدا مائير، رابين، بيجن، شامير، بيريز، نتنياهو، باراك، شارون. من هنا يمكن ملاحظة الفارق الكبير بين الشعبين: فارق القوة والعجز، الحياة والموت، احترام الانسانية والدوس عليها.
ان شعباً يسيطر عليه رجل واحد لـ(35) عاماً هو شعب لا يمكنه إلاَّ ان يكون في الهامش. ليست المشكلة في "البطل" وإنما في الشعوب التي لا تحترم حياتها وتتنازل عن حقوقها لآخرين.
لأبي مازن دور في النصر الديمقراطي الذي جرى في فلسطين. لو كان عرفات موجوداً لتخذت نتائج الانتخابات مساراً آخر: شخصية "الختيار" كانت ستتدخل نفسياً أوأمنياً.
يستخدم العرب شعار "قوة الارادة" في غير موقعه، شأن خالد مشعل. والحاصل ان شعباً حياً تبدأ إرادته من احترام ذاته، واجبار مستبديه المحليين على ذلك.