|
طريق اليسار 99
تجمع اليسار الماركسي في سورية
الحوار المتمدن-العدد: 5625 - 2017 / 8 / 30 - 23:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
طريق اليســـــار جريدة سياسية يصدرها تجمع اليسار الماركسي في سورية / تيم / * العدد 99آب/أغسطس 2017 - [email protected] E-M: *
* الافتتاحية. الليبراليون الجدد في سوريا
أعلن أحد قادة حزب «العمل الشيوعي» في سوريا عام 1991 في سجن صيدنايا أنه «كان يأمل لو أن الجنرال شوارزكوف، قائد القوات الأميركية في حرب 1991، قد أكمل طريقه إلى بغداد لإسقاط صدام حسين، بدلاً من الاكتفاء بإخراج القوات العراقية من الكويت». كان المذكور أحد القياديين في الحزب المذكور الذين ضغطوا في الثمانينيات من أجل تبنّي التفسير السوفياتي للماركسية، وبعضهم يقول عنه إنه كان يحفظ كتاب «ما العمل؟» غيباً، ضد قياديين آخرين أرادوا الاحتفاظ بخط ماركسي بعيد عن موسكو. تأسّس الحزب المذكور عام 1976 منذ أن كان باسم «رابطة العمل الشيوعي»، هو أقرب إلى خط «اليسار الجديد» الذي كان رائجاً في الستينيات عالمياً. لا يمكن تفسير هذا القول الذي فيه تعويل على واشنطن، من دون حالة الاحتضار التي كانت تعيشها موسكو آنذاك قبل تفكك الاتحاد السوفياتي بعشرة أشهر. لم يكن هذا فقط نقلاً للبندقية من الكتف الأيسر إلى الأيمن بالمعنى السياسي فقط، بل كان يعني انزياحاً أيديولوجياً من اليسار نحو اليمين واستبدال «الفاتيكان الموسكوفي» بآخر في البيت الأبيض. كان هناك موجة استغراب واستنكار عامة ضد هذا القول، كان يلمسها كاتب هذه السطور عندما كان يلتقي بسجناء قادمين من صيدنايا وهو الآتي من القسم السياسي في سجن عدرا أيضاً للمحاكمة أمام محكمة أمن الدولة العليا في فترة 1992 ـ 1994. ما كشفته الوقائع خلال ربع قرن لاحقة على هذا القول أظهر أنه كان الطلقة الافتتاحية لتيار «الليبرالية الجديدة» في سوريا، وليس مهماً إن كان صاحبه واعياً آنذاك لذلك أم لا. ليس هذا فقط بل كان محدداً للملامح: هجرة من تيار ماركسي سوفياتي، حتى عند من كان معارضاً لموسكو بين الشيوعيين والماركسيين، إلى تيار جديد يميني ومركز عالمي جديد، ولكنها هجرة مبنية على عملية سياسية وليست على عملية فكرية ــ سياسية تتولد فيها السياسة من خلال البذرة والرحم الفكريين. كان العراق هو المناسبة ولكن السبب كان موسكو. خلال التسعينيات، بدأت تظهر ملامح أوسع لهذا التيار الليبرالي الجديد سورياً وعربياً من خلال طروحات بدأ ماركسيون منزاحون بطرحها: «نهاية الأيديولوجيات» ــ «السياسة لا تبنى على منهج معرفي بل على خط سياسي فقط» ــ «الحزب لا يبنى على ثلاثية: فكر ــ سياسة ــ تنظيم، وإنما فقط على البرنامج وبالتالي يمكن لألوان فكرية متعددة أن تتعايش في الحركة السياسية الواحدة وألا يكون هذا مقتصراً على التحالفات السياسية». في عام 1990 وفي كتاب «حوارات»، أعطى القيادي الشيوعي اللبناني كريم مروة إرهاصاً لهذه الآراء، ولكن المحاولة الكبرى كانت في سوريا في عام 1998 عند الدكتور جمال الأتاسي أمين عام «التجمع الوطني الديموقراطي» الذي كان يضم خمس أحزاب هي: حزب «الاتحاد الاشتراكي العربي»، «الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي»، حزب «البعث الديموقراطي»، حركة الاشتراكيين العرب، حزب «العمال الثوري العربي»، لما طرح وثيقة في نيسان من العام المذكور لـ«تحويل التجمع من تحالف إلى حركة سياسية واحدة بألوان أيديولوجية متعددة». كان أكثر المتحمسين لهذا الطرح هم قياديون من «المكتب السياسي»، مع بعض من كان يدور في مداراتهم مثل ميشال كيلو، والجسم الكامل لـ«حزب العمال» الذي كان رمزه منذ تأسيسه عام 1965 هو ياسين الحافظ. تم إفشال المشروع بسبب معارضة أغلبية كوادر وجسم «الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي» والذين تعززت معارضتهم للمشروع مع خروج الأمين الأول للحزب رياض الترك من السجن في 30 أيار 1998 والذي أعلن في مقابلات صحفية عديدة، في جريدتي «النهار» و«الحياة»، بأنه لن يشتغل بالسياسة «إلا تحت راية الحزب الشيوعي». هنا كان العراق المغزو والمحتل أميركياً عام 2003 هو الولادة الحقيقية لتيار «الليبرالية الجديدة» السوري، ويبدو أن عراق 1991 لم تكن بذرته كافية لتلك الولادة. في تلك الفترة نزلت إلى السوق الفكرية الطروحات التالية وكلها من ماركسيين وشيوعيين بدأوا بالتحول أو تحولوا نحو «الليبرالية الجديدة»، مثل: «الديكتاتورية قضت على العوامل الداخلية للتغيير، لذلك لا بد من الاستعانة بالخارج من أجل إحداث تحولات داخلية، الولايات المتحدة ترى في الديموقراطية وسيلة لتجفيف ينابيع الإرهاب الذي ضربها في 11 أيلول 2001، وهي آتية بجيوشها إلى المنطقة من أجل إعادة صياغة المنطقة كوسيلة لتحقيق ذلك، وليس من الخطأ التلاقي موضوعياً معها في هذا، ما سقط يوم التاسع من نيسان 2003 بقوة الجيش الأميركي هو صدام حسين وليس بغداد وهذا طريق نحو «عراق جديد» يمكن أن يبنى عليه في عموم المنطقة». بعد أسابيع من سقوط بغداد، كان هناك رأي عند أحد قياديي حزب العمل الشيوعي التاريخيين هو التالي: «الدبابة الأميركية الواقفة عند الحدود في البوكمال هي مثل الباص الذي يقف في استراحة حمص أثناء توجهه من حلب إلى الشام». يمكن أن يلخص هذا كله ما طرحه أحد قادة حزب «العمال الثوري العربي» قبل ثلاثة أشهر من بدء غزو العراق، هو جاد الكريم الجباعي ومن التلاميذ المخلصين لياسين الحافظ، تحت عنوان مكثف: «تهافت الدفاع عن العراق» (موقع «أخبار الشرق»، 24 كانون أول 2002)، وهو كان أيضاً من القادة المؤسسين عام 2000 لـ«لجان إحياء المجتمع المدني». لم يكن هؤلاء يملكون الثقل المعنوي لإحداث النقلة النوعية في تأسيس تيار «الليبرالية الجديدة السورية»، الذي بدأت ملامحه بالتشكل بقوة داخل «الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي» وحزب «العمل الشيوعي» وحزب «العمال الثوري العربي» و«لجان إحياء المجتمع المدني» مع تاركين من تنظيم خالد بكداش مثل الدكتور عبد الرزاق عيد. وهذه النقلة النوعية التأسيسية لم تحصل إلا مع تحول رياض الترك نحو هذا الاتجاه منذ مقابلته مع «النهار» في يوم 28 أيلول 2003 عندما طرح نظريته حول «الصفر الاستعماري: الأميركان نقلوا المجتمع العراقي من تحت الصفر إلى الصفر». وهذا كان يعني تأييداً لما فعله جورج بوش الابن في العراق، وقد أتى هذا قبل زيارته بأيام لأوروبا وكندا والولايات المتحدة سراً، حيث عاد منها ليقول: «إن هناك رياحاً غربية ستقتلع الأنظمة وعلينا أن نلاقيها بثوب جديد وببرنامج جديد»، داعياً إلى تغيير اسم «الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي». وقد كان عملياً تأسيس رياض الترك لـ«حزب الشعب الديموقراطي» في نيسان 2005 هو الرافعة التي جرفت معظم القوى السياسية السورية المعارضة باتجاه تشكيل «إعلان دمشق» الذي انبنى على أن ما جرى في بغداد في التاسع من نيسان 2003 وترجم في بيروت 14 آذار 2005 ستكون محطته الثالثة في الشام. فشلت مراهنات «إعلان دمشق» (16 تشرين أول 2005) على تغيير في دمشق وقد كان بعض قادته ورموزه يدعون إلى انتظار أسابيع فقط أو على الأكثر لرأس سنة 2006، لتغيير وقت سقوط النظام السوري بناء على التصادم الأميركي ــ السوري الذي كان رأس جبل جليده هو المحقق الدولي ديتليف ميليس في «قضية الحريري». لم يكن «إعلان دمشق» بدلالاته يحوي فقط مراهنة على الخارج الأميركي، وإنما كان تحقيقاً لشيء سعى إليه رياض الترك منذ أحداث 1979 ـ 1982، وقاومته ومنعته أغلبية قيادة «الحزب الشيوعي ـ المكتب السياسي» التي كانت ضده كما أظهر مثلاً اجتماع اللجنة المركزية في أيلول 1980، وهو التحالف مع «الإخوان المسلمين». كان الزواج بين «الليبرالية الجديدة» و«الإسلام السياسي» من أهم ملامح مسار تيار الليبرالية الجديدة، وهو ما ظهر لاحقاً، ولو عبر ذيلية الليبراليين الجدد للإسلاميين، في «المجلس الوطني» 2011 وفي «الائتلاف الوطني» 2012، والتي كان منها كتوابع المراهنة على «التدخل العسكري الخارجي» و«العنف المعارض» من أجل إسقاط السلطة السورية في مرحلة ما بعد درعا 18 آذار 2011. كخلاصة مكثفة: إن تيار الليبرالية الجديدة السوري، وهو تيار تأسس عابراً للأحزاب، انبنى بدلالة حدث خارجي، هو غزو العراق واحتلاله من قبل الأميركان، وكانت خلفيته سقوط السوفيات وانزياح الكثير من الشيوعيين والماركسيين نحو موقع أيديولوجي سياسي جديد. لم يكن هذا التيار في نشوئه مبنياً على تحولات اقتصادية ـ اجتماعية، ما دامت البورجوازية الجديدة في سوريا 1974-2017 قد تشكلت في رحم السلطة السورية وعلى أجنابها وولدت من ذلك الرحم، وهي والفئات الوسطى، قد أثبتت أزمة 2011 ـ 2017 مدى ارتباطها العضوي بالسلطة السورية. لم يكن تيار الليبرالية الجديدة في سوريا مبنياً على مراجعات فكرية نتج عنها الانزياح من فكر سياسي، هو الماركسية، نحو تيار فكري سياسي آخر هو «الليبرالية الجديدة»، التي كانت أيضاً عند «المحافظين الجدد»، الذين سيطروا على إدارة بوش الابن، ناتجة عن متحولين من الماركسية إلى الليبرالية الجديدة التي أسسها ليو شتراوس فلسفياً، واقتصادياً ميلتون فريدمان.
مقال: أفكار اقتصادية من أجل اليسار ودعوة إلى الحوار: ما اليسار... واليسار العربي؟ [1/2]
محمد عبد الشفيع عيسى
أفكار من أجل اليسار، ودعوة إلى الحوار...؟ فما اليسار؟ يأتي أصل اللفظة من الظرف المصاحب لتوابع الثورة الفرنسية الكبرى (1789)، إذ شهدت قاعة البرلمان جلوس نواب الشعب الفرنسي ــ من التيار المسمى «جيروند» على جهة اليمين ــ وكانوا يميلون إلى «الاتجاه المحافظ»، بينما كان النواب من التيار المسمى «اليعاقبة» يجلسون جهة اليسار، ويميلون إلى إحداث تغيرات راديكالية (جذرية) في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية آئنذ. فلذلك جرى العُرف اللغوي ــ التاريخي أوروبياً ومن ثم عالمياً، على إطلاق اسم اليمين على أنصار «المحافظة» على الوضع القائم ــ وربما العودة «الرجعية» إلى أوضاع ما قبل الثورات؛ بينما سمّى أنصار التغيير (الثوري) باليسار. جرت مياه كثيرة في الأنهار خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فانضوى تحت لواء «اليسار» كثيرون من اتجاهات فكرية متعددة تنتمي عموماً إلى مدارس الفكر الاشتراكي بالمعنى العام والعريض بروافده المتنوعة، ابتداءً من «الماركسية» ــ نسبة إلى المفكر الألماني كارل ماركس مؤلف الكتاب الموسوعي الأشهر في تحليل النظام الرأسمالي الأوروبي تحت عنوان «رأس المال».
ونشأت على إثر ذلك مجموعة من الأحزاب المسماة بالشيوعية، انتساباً لما دعاه ماركس بالطور «الشيوعي» في تطور المجتمع البشري بعد مرحلة المجتمع الاشتراكي اللاحق لانهيار الرأسمالية. إلى جانب الماركسية، مرّ اليسار في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بموجات أخرى من الفكر الاشتراكي مثل ما سمّى بالاشتراكية «الفابية»، أي المطالبة بالتغيير التدريجي والجزئي ــ لا الجذري الشامل ــ و«الاشتراكية التعاونية». وخارج الفكر الاشتراكي أو اليسار بمعناه المحدد، ظهر ما أطلق عليه الاتجاه (الإصلاحي) الذي يقبل ببقاء النظام الرأسمالي مع إجراء تعديلات (ترقيعية) عليه بين حين وآخر. وقد بقيت السمة العامة لليسار دائماً في حيز «النقد» للنظام الرأسمالي إما بهدف استبداله بنظام اجتماعي أرقى ــ وهذا هو اليسار «الراديكالي»، وإما بهدف تعديله بصورة أو أخرى في إطار موقع «الوسط» فيما بين اليمين واليسار، وخاصة ما يسمى بيسار الوسط. أما اليمين فقد صار ــ من وجهة الفكر الاجتماعي والسياسي ذي الطابع «النقدي» ــ اسماً علماً على الاتجاه المحافظ، وكذا «الشق الرجعي» الأكثر التصاقاً بمصالح الشرائح ذات النصيب الأعلى من الدخل والثروة الوطنية. بقيام الاتحاد السوفياتي ــ إثر «الثورة البلشفية» بقيادة لينين عام 1917 ــ ولدت حاضنة كبرى لليسار الاشتراكي، في شقة الماركسي المنادي بالتغيير الجذري الشامل للأوضاع القائمة في ظل المنظومة الرأسمالية. وتأكد ذلك من خلال واقع ما بعد الحرب العالمية الثانية بانضواء أوروبا الشرقية تحت الزعامة السوفياتية، فقامت «الكتلة الشرقية» مقابل «الكتلة الغربية» بزعامة الولايات المتحدة الأميركية. ولما سجلت الثورة الصينية بقيادة ماو تسي تونغ ــ زعيم الحزب الشيوعي الصيني ــ نصرها النهائي في كانون الأول/ ديسمبر 1949 تعاظمت قوة المنظومة الاشتراكية العالمية، حتى وقع الانشقاق الصيني ــ السوفياتي، اعتباراً من عام 1957، لأسباب ليس هنا محل ذكرها.
من اجتماع «الانفتاح» و«الإصلاح» برزت نخبة «الليبرالية الجديدة»
في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، قامت حركة استقلالية في عموم المستعمرات سعياً إلى التحرر السياسي فالاقتصادي، من الاستعمار ــ القديم والجديد. وشيئاً فشيئاً تبلورت حركة التحرر الوطني والقومي في القارات الثلاثة: آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، تحت شعارات التنمية، بدءاً من حركة التضامن الآسيوي ــ الإفريقي منذ مؤتمر باندونغ عام 1955 والاتجاه إلى «الحياد الإيجابي» بين الكتلتين الكبيرتين، انتهاءً إلى «عدم الانحياز» كسياسة وحركة، وبخاصة بعد مؤتمر بلغراد عام 1961. في الإطار العام لحركة التحرر الوطني العالمية بآفاقها الاستقلالية والتنموية، تبلورت حركة التحرر العربي فى ساحة المشرق والمغرب، خلال الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، بمسعاها الاستقلالي وتوجهها الوحدوي وأفقها التنموي، خصوصاً الاشتراكي. وقد انتصرت مصر سياسياً، وصموداً عسكرياً إزاء العدوان الثلاثي فيما سمى حرب بورسعيد (أو السويس) عام 1956، على إثر تأميم قناة السويس ومقاومة «حلف بغداد» ومساندة ثورة الجزائر عسكرياً وسياسياً (1954 ــ 1962). وقامت الجمهورية العربية المتحدة بوحدة مصر وسوريا (1958-1961) وانتصرت مصر لثورة اليمن اعتباراً من عام 1962 وقامت من أجلها «حرب اليمن» حتى 1967. في ظل هذه المنجزات التحررية ــ الوحدوية، حافظت «مصر الناصرية» على موقعها كقاعدة للحركة القومية العربية. وكانت هذه الحركة قد نشأت كمحض حركة سياسية بأفق وحدوي (مشرقي) أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لتتطور كحركة للتحرر القومي والوطني بُعيْد الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين 1948، ثم لتستوي في الخمسينيات والستينيات قوة عالمية صاعدة تحت لواءات الحرية والاشتراكية والوحدة، بقاعدة من مصر وقيادة من جمال عبد الناصر، في غمار التجربة المصرية في التخطيط والتحول الاشتراكي والتصنيع (حتى وفاة جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر/ أيلول من عام 1970). فى إطار حركة القومية العربية ــ الثورية الجديدة هذه، تطور اليسار العربي ليأخذ مناحي متنوعة، منها ما هو اشتراكي خالص (وفيه شق ماركسي) كالعديد من الأحزاب والحركات الاشتراكية و«الشيوعية»، ومنها ما هو قومي وحدوي بأفق اشتراكي عام (مثل أحزاب وتنظيمات متنوعة في المشرق العربي خاصة)، ومنها ما هو تحرري وطني جذري بمضمون اشتراكي (كما في الجزائر والمغرب)، ومنه ما هو «التلخيص والمتلقي» حيث تآلفت عناصر اليسار العربي فكرياً وسياسياً من تكامل الشعارات الثلاثة، على اختلاف ترتيبها: ما بين (الحرية والاشتراكية والوحدة) لدى عبد الناصر، و«حرية ــ وحدة ــ اشتراكية» لدى «حزب البعث» بفرقه المتعددة، و(حرية ــ وحدة ــ اشتراكية) كما نادى بعض المفكرين. بعد عدوان نكسة 1967 انزوى اليسار العربي جانباً، وبرز إلى الواجهة تيار «الإسلام السياسي» بفصائله وتياراته العديدة. وخلال عقود زمنية أربعة تقريباً، تربع على عرش «السلطة والمعارضة» فرسا الرهان العربي العليل: العسكريون، والإسلاميون. ومن قلب المعمان برز حصاد التجربة البائسة لنظم الحكم العربية ذات الجوهر التسلطي، وذات منحى اقتصادي ــ اجتماعي (يميني) محمول على أجنحة «الانفتاح» و«اقتصاديات السوق» والاعتماد الكامل على العالم الخارجي، وعلى التفاوت الطبقي الهائل في توزيع الثروات والدخول. آنئذ طفح الكيل وانفجر البركان (الثوري) عند خواتيم 2010 ومطالع 2011 ــ في مصر وتونس واليمن بشكل محدد. ومن بين الركام صعد تيار الإسلام السياسي، حتى بزر إلى قمة السلطة، بالاحتكار أو بالمشاركة، ثم هوى النجم الساطع انطلاقاً من مصر في منتصف عام 2013. منذئذ تهيأت الفرصة لإعادة صعود اليسار العربي بديلاً مستطاعاً، ونجماً مؤهلاً للسطوع، ولكن التقاء تيار المحافظة على الوضع القائم Status quo مع تيار محاولة العودة إلى ما مضى، جعل المحافظين والرجعيين على خط واحد مستقيم معاد في جوهره لجدول أعمال اليسار ملخصاً في الشعارات الأساسية لـ«ثورة يناير»2011: حرية، تغيير، عدالة اجتماعية. وكانت محصلة هذا الالتقاء بروز ــ أو «إعادة بروز» ــ التيار المسمى بالليبرالية الجديدة، النيوليبرالية، كما يسميها البعض. فكيف يمكن استنهاض اليسار؟ ومن أين نبدأ في «نقد الفكر» و«فكر النقد»...؟ وإنّا لنأمل أن تثير هذه الكلمات اهتماماً مستحقاً، وأن تفتح باباً واجباً للحوار بين المعنيين بالأمر من أهل اليسار في مصرنا العربية وفي الوطن العربى الكبير. وفي الجزء التالي عود على بدء، للبحث في علامات الطريق المفضى إلى «الليبرالية الجديدة» الراهنة فى مصر بالذات، ثم نعرج من بعد في جزء ثالث على نقد «الليبرالية الجديدة»، أننتهي إلى جزء رابع فيه عرض موجز لبنود برنامج اقتصادي مقترح لليسار العربي ـ بما فيه المصري ـ مقابل للبرنامج «النيو ليبرالي» المطروح. الطريق الطويل إلى «الليبرالية الجديدة» في مصر
اليسار ــ بصفة عامة ــ وجهته الأساسية هي الاشتراكية بأطيافها المتنوعة، وقلبها المركزي العدل التوزيعي للثروات والدخول تأسيساً على بناء قاعدة إنتاجية قابلة للاستمرار زمنياً، وللتعمق موضوعياً من زاوية التصنيع والعلم والتكنولوجيا. وفي كلمات أخرى، اليسار يتجه أساساً نحو تحقيق التنمية الشاملة، مستخدماً أدوات المنهجية التخطيطية من دون إخلال بمقتضيات السوق إن وجدت. أما اليمين فوجهته الأساسية إعطاء الأولوية لتطوير مصالح الأقلية الاجتماعية من الشرائح الاجتماعية ذات النصيب الأكبر من الثروة والدخل، في مواجهة الأغلبية الشاسعة الممثلة لنحو 80% من أبناء المجتمع. وفي كلمات أخرى، اليمين يتجه إلى تعزيز الأنشطة الاقتصادية الهامشية نسبياً، مع الاعتماد على إطلاق قوى السوق ــ العرض والطلب ــ من دون تدخل فعّال من جهات الدولة، وذلك سعياً إلى تعظيم عوائد أصحاب الملكية الخاصة الكبيرة والرأسمالية من رجال المال والأعمال، الكبار بصفة أساسية، في مواجهة العاملين والمنتجين المباشرين المجردين إلى حد كبير من تملك رأس المال المادي والمالي والمعرفي. بعد تصفية التجربة التنموية المصرية ــ بقيادة عبد الناصر ــ والتي اكتسبت في مراحلها الأخيرة، أواسط الستينيات، السمات الاشتراكية، تبلورت منذ مطلع السبعينيات، برعاية السادات ونظامه الانفتاحي التابع للرأسمالية الدولية، نخبة جديدة. تلك النخبة، كانت تتعيش فئاتها المتنفذة من «رجال المال والأعمال الجدد» على الأنشطة الهامشية لتغذّي الانقسام الطبقي الحاد للمجتمع بين أقلية مؤسرة وأغلبية معسرة من جميع الوجوه، خلال حقبة «الانفتاح» في عقدي السبعينيات والثمانينيات، ثم تحت ظلال ما سمّي «الإصلاح الاقتصادي» ــ وفق «وصفة صندوق النقد الدولي» ــ خلال عقد التسعينيات. من اجتماع «الانفتاح» و«الإصلاح» برزت في العقد الأول من القرن الحالي نخبة «الليبرالية الجديدة» التي آمن أعضاؤها بقدسية الأسواق، وباقتصاديات السوق ــ آليات العرض والطلب (العمياء) ــ كآلية منفردة لتسيير الحياة الاقتصادية وفق مصالح الأقلية من المجتمع، المشتغلة ــ كأولوية أولى ــ في الأنشطة الهامشية ذات العائد السريع المرتفع، لا سيما العقارات والاتصالات، بدلاً من الزراعة والصناعة التحويلية والخدمات العلمية ـــ التكنولوجية المتطورة. وكان أن دفعت نخبة الليبرالية الجديدة بوجوه رجالها إلى سدّة السلطة العليا منذ عام 2004 فيما سمّي بحكومة «رجال الأعمال» تحت رعاية «مشروع التوريث» المعروف، وكان ما كان من تزاوج «السلطة وعالم الأعمال» حتى واقعت الواقعة في 25 يناير 2011. كانت سياسة «الليبراليين الجدد» خلال العشرية الأولى من هذا القرن نموذجاً نمطياً للسياسة الداعية إلى «انفتاح» الاقتصاد الداخلي على العالم الخارجي دون ضوابط، فأصبح اقتصاداً قائماً على الاستيراد بصفة أساسية وشبه كلية ــ سواء فى ذلك استيراد السلع الغذائية والدوائية الأساسية أو استيراد السلع الإنتاجية من المستلزمات والمدخلات الوسيطة (كالكيماويات والمعادن الأساسية)، ومن الآلات والمعدات وأدوات الورش. وكان قد قام على «مدماك» الانفتاح الذي بدأ أواسط السبعينيات ــ مدماك آخر سُمّي من طرف دعاته بـ«الإصلاح» وبدأ في أول التسعينيات وفق سياسات موجهة نحو ما أطلق عليه «التثبيت» أو «الاستقرار» عبر استهداف التضخم بواسطة خفض الإنفاق الاجتماعي على الدعم العيني والخدمات الأساسية، من أجل تقليل عجز الموازنة العامة ومن ثم استبعاد الحاجة إلى التوسع في التمويل التضخمي الذي يضخّ السيولة النقدية كرافعة لصعود المستوى العام للأسعار. ولما أضيفت إلى سياسات «التثبيت» واستهداف التضخم، سياسة للصرف هادفة إلى خفض قيمة العملة المحلية Devaluation مع إزالة الضوابط على حركة رؤوس الأموال نحو الخارج (Capital Controls)، فإن ذلك أدّى في نهاية الأمر ــ مع سياسة رفع أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية ــ إلى تثبيط حركة الاستثمارات المحلية مع ما يتبع ذلك من ركود. هذا من جهة أولى. ومن جهة ثانية، فقد انتقل أثر التضخم الدولى إلى الداخل عبر آليات الاستيراد الحر واقتصاديات السوق الطليقة في الداخل. وكان أن هزمت سياسة «الإصلاح» نفسها، إذ بدأت باستهداف التضخم فإذا بها تنتهى إلى الوقوع في «جب الركود» ممتزجاً بالتضخم المستورد، وهذه هي حالة السياسات التي تهزم نفسها بنفسها Self-defeating . وكان هذا أوضح ما يمكن في مطلع القرن الحادي والعشرين، خلال فترة 2000-2003، مع بروز سمات الكساد المقيم. فوق المدماك المزدوج للانفتاح والإصلاح، وجدت السياسة الاقتصادية نفسها وقد انجرفت تلقائياً إلى المزيد من خدمة مصالح الأقلية في وجه مصلحة الأغلبية تحت راية «الليبرالية الجديدة»، وفق ما أشرنا إليه آنفا، مما مهدّ السبيل سالكاً إلى حدث الثورة العظيم في الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2011. ومن عجائب الدهر أن فشل «الليبرالية الجديدة» ــ خلال فترة محاولة توريث السلطة (2004 ــ 2010) ــ لم يشكل رادعاً كافياً للنخبة المصرية المتنفّذة بعد الثورة بما يحول دون العودة إلى السياسات الفاشلة نفسها بعد حين. غير أن هذا حديث آخر، نعود إليه في مقالنا التالي، للسؤال عن البديل من واقع بنات أفكار اليسار. * أستاذ في معهد التخطيط القومي بالقاهرة رأي العدد ٣٢٢٢ الاربعاء ١٢ تموز ٢٠١٧ . مقالات أخرى لمحمد عبد الشفيع عيسى: أفكار اقتصادية من أجل اليسار ودعوة إلى الحوار: نحو نقد الليبرالية الجديدة [2/2] كيف تكوّنت الأيديولوجية السائدة في مصر الآن؟ مصر: محاورة نقدية مع إيديولوجيا الليبرالية الجديدة وحواشيها الاجتماعية هوامش حول النهضة العربية المغدورة العرب وإيران في مواجهة التحديات الإقليمية ----------------------------------------------------------------------------------------------- من تاريخ الحركة الشيوعية العربية: من أسباب وعواقب الأزمة بين عبدالناصر والشيوعيين في 1958 و 1959 أحمد القصير
الحوار المتمدن
2014 / 8 / 20 عن الإشكالية شهدت الفترة التي أعقبت تأميم قناة السويس عام 1956 تعاونا بين حدتو وعبدالناصر. وبرزت صورة ذلك بوجه خاص في مشاركة حدتو بدور هام في مقاومة الغزو وعملية انزال القوات البريطانية والفرنسية في بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي 1956. كما برز في عملية تنظيم المقاومة لذلك العدوان حتى جلاء القوات المعتدية في 23 ديسمير 1956. وفي ديسمبر1957 ذهب جمال عبدالناصر إلى بورسعيد واحتفل بمرور عام على جلاء القوات المعتدية عن بورسعيد. وحضر ذلك الاحتفال رسميا أعضاء حدتو الأبطال من أبناء مدينة بورسعيد الذين كان لهم دورا في مقاومة الغزو والاحتلال. وأبرز هؤلاء الرفاق ابراهيم هاجوج وأحمد شوقي المرجاوي. لكن بعد مرور عام، أي في 23 ديسمبر1958، شن عبدالناصر هجوما علنيا ضد الشيوعيين من بورسعيد ذاتها. واتهم الحزب الشيوعي السوري بأنه يقف ضد الوحدة المصرية السورية التي تحققت في 22 فبراير 1958. وكانت وحدة اندماجية وفقا لما طلبه السوريون خاصة ضباط الجيش. وكان عبدالناصر يريد وحدة فيدرالية. وعندما أصر السوريون على الاندماج قام عبدالناصر بفرض شروطه. ومن بينها أن يكون "الاتحاد القومي" هو التنظيم السياسي الوحيد وأن يتم حل الأحزاب السياسية. وأعلن الحزب الشيوعي السوري رفضه لحل الأحزاب وصيغة الاتحاد القومي. وفي مصر دعت حدتو بأن يكون "الاتحاد القومي" هو الشكل السياسي لجبهة وطنية تضم مختلف القوى الوطنية وليس بديلا للأحزاب. تحدث عبدالناصر أيضا عن التصنيع وضرورة الثورة الاجتماعية وهاجم أعداء تقدم مصر. وشن هجوما على الاستعمار العالمي والصهيونية والرجعية العربية واتهمها بالوقوف ضد الوحدة بين مصر وسوريا وضد القومية العربية. هنا نقول إن الوحدة تعرضت بالفعل إلى التأمر من جانب قوى رجعية وأجنبية. وكان هذا من أسباب انهيارها وحدوث الانفصال في 28 سبتمبر 1961. لكن التآمر لم يكن السبب الوحيد في هذا الصدد. فإن كبت الحريات وعدم مراعاة خصائص الأوضاع في سوريا كان من ضمن العوامل التي أسهمت في انهيار تلك الوحدة. تكلم عبدالناصر أيضا عن سقوط حلف بغداد لكنه تجنب الكلام عن ثورة 14 يوليو العراقية التي أدت إلى سقوط هذا الحلف رسميا. تجنب عبدالناصر الحديث عن ثورة العراق مع أنه بذل جهودا عند قيامها من أجل حمايتها ومن أجل عدم تدخل الدول الغربية لإجهاضها. وقام بزيارة موسكو سرا لهذا الغرض. وبعد عودته تجمعنا في مظاهرة داخل حديقة مجلس الوزراء وخرج عبدالناصر إلى شرفة المجلس وألقى كلمة شدد فيها على أهمية حماية ثورة العراق. فما هو السر وراء اختلاف موقف عبدالناصر في ديسمبر 1958 عنه في يوليو من نفس العام؟ بعد أسبوع واحد من خطاب عبدالناصر في بورسعيد يوم 23 ديسمبر 1958 بدأت في أول يناير 1959 حملة اعتقالات واسعة ضد الشيوعيين أعقبها محاكمات عسكرية. وبعد المحاكمات تعرضوا لعملية تعذيب. فما هي الأحداث أو التطورات التي كانت وراء ذلك المشهد واختلاف موقف عبدالناصر في 1958 عنه في العام السابق، أي في 23 ديسمبر1957؟ لقد تناولنا من قبل أحد جوانب هذا الموضوع في كتاب "حدتو ذاكرة وطن". لكن لم أطرح هذه التساؤلات. لهذا أتناول الموضوع الآن من جوانب أخرى. وأضع مزيدا من النقاط فوق بعض الحروف بهدف إلقاء الضوء على خلفية بعض الأحداث وعلى مسؤولية الأطراف المختلفة عن هذه الأزمة. وهي أزمة يتحمل مسؤوليتها جمال عبدالناصر. كما يتحملها الشيوعيون العراقيون ومعهم بعض المنتسبين للشيوعية في مصر. وقد كان موقف عبدالناصر شديد العدوانية في إدارته لتك الأزمة. كما تنكر خلالها لتاريخه المشترك مع حدتو ودورها في التحضير لثورة 23 يوليو وفي تنفيذها. وذلك علاوة على دورها في بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي 1956. أغفل عبدالناصر كل ذلك وقام بالهجوم على الشيوعيين واعتقلهم، وشكل محكمة عسكرية لمحاكمة قادة حدتو وكوادرها وبقية الشيوعيين. لم يكن عبدالناصر وحده مسؤولا. بل يتحمل العراقيون خاصة الحزب الشيوعي العراقي جانبا كبيرا من المسؤولية. كما جر العراقيون معهم في هذه المقامرة بعض الشيوعيين المصريين الذين انتسبوا لحزب الراية ومنظمة طليعة العمال. ولم يشعر هؤلاء المصريين الذين انزلقوا للمقامرة بأي قدر من المسؤولية عما اقترفوه. فقد استجابوا لطلب العراقيين الذي كان دافعه خلق محور بغداد في مواجهة القاهرة وزعامتها للعالم العربي. ولا ينبغي أن نكتفي بالقول بأن الخلافات حول صيغة التنظيم السياسي الواحد في دولة الوحدة المصرية السورية قد ألقت بظلها على العلاقة بين القاهرة وبغداد في أعقاب قيام ثورة 14 يوليو 1958 في العراق. وذلك لأن العلاقات بين عبدالناصر وبعض الأطراف السياسية في العراق دخلت على طريق الأزمة قبل قيام الثورة العراقية ذاتها. وهذا هو جوهر حديثنا الآن. ويجب أيضا التنويه بأن أزمة عبدالناصر مع الشيوعيين كانت وراء توتر العلاقات مع الاتحاد السوفيتي. وقد تبادل عبدالناصر وخروشوف الانتقادات علنا. وعلاوة على ذلك جرت بينهما مراسلات واتصالات سرية ترتبط بالموضوع. وقال خروشوف خلالها لعبدالناصر إن إعلان الحرب على الشيوعية لن يجلب المجد ولا الصواب. مقامرة شيوعيين عراقيين مع مصريين تمثلت المقامرة التي قام بها قادة الحزب الشيوعي العراقي في اتصالهم بعناصر شيوعية مصرية وطلبوا منهم أن يتخلصوا من قادة حدتو بحجة أنهم حلفاء عبدالناصر. والعناصر الشيوعية المصرية هي تحديدا فؤاد مرسي زعيم حزب الراية وابوسيف يوسف زعيم منظمة طليعة العمال وآخرين كان من بينهم محمود أمين العالم. فما هي أولا حكاية حلفاء عبدالناصر، أي ما هي مواقف وسياسة حدتو التي أثارت انزعاج العراقيين وآخرين؟ وما هي سياسة أولئك الشيوعيين المصريين الذين كانوا يعادون ثورة يوليو ونصيرتها حدتو؟ موقف حدتو من ثورة يوليو وموقف معارضيها كان العراقيون يعلمون أن حدتو شريكة لجمال عبدالناصر في ثورة يوليو. ولهذا اتصلوا بشيوعيين مصريين كانوا يعارضون موقف حدتو المؤيد لهذه الثورة. أيدت حدتو الثورة منذ لحظة قيامها بينما عارضها الآخرون ووصفوها بأنه مؤامرة وانقلاب. وهذا الوصف قاله د. سمير أمين. ونستند في عرض موقف حدتو وموقف معارضيها إلى ما كتبه سمير أمين بنفسه الذي كان من أعضاء حزب الراية الذي اعترض على ثورة يوليو وعلى موقف حدتو. وهو الحزب الذي كان قادته أحد أطراف المؤامرة مع العراقيين. فقد عرض د.سمير أمين الموقفين في تقرير كتبه في 1955 باسم حزب الراية تحت عنوان "تحليلان .. سياستان". وأعاد نشره في 2014 في كتاب "قضايا الشيوعية المصرية". واستند ذلك التقرير إلى مطبوعات حدتو ومطبوعات حزب الراية. وأوضحت تلك المطبوعات أن حزب الراية يرى أن التمرد في مصر يتصاعد في الفترة السابقة على ثورة يوليو. ولذلك "قرر الأمريكان أن يتقدموا الصفوف". كما قال هذا الحزب "وكان هناك احتياج لنظام أقوى، ولكن ديماجوجي وشعبي. والانقلاب الذي باركه الامبرياليون كان سيخلق هذا النظام". هكذا اعتبروا أن ثورة يوليو انقلابا رحب به الغرب الاستعماري. بعد ذلك قام سمير أمين بعرض موقف حدتو من ثورة يوليو وانتقده وأعلن معارضته له. فقد قال إن حدتو كان لها موقفا مختلفا حيث "إدعت أن تنظيم الضباط الأحرار يمثل التحالف بين البرجوازية الوطنية والبرجوازية الصغيرة". ثم واصل عرض موقف حدتو في تلك الفترة. وخلال ذلك وصف ثورة يوليو بالمؤامرة والانقلاب. فقد قال "ينبغي هنا التنويه أن حدتو كانت على علم بالمؤامرة والانقلاب. فقد اشترك فيها عضوان من التنظيم العسكري في حدتو وهما يوسف صديق وخالد محي الدين. وعقب الانقلاب مباشرة دشنت حدتو "الحركة الشعبية للجيش" لتصف بها الأحداث. ونادت الشعب ليساند جيشه. وشحذت همم المثقفين للكتابة في جريدة الحركة وهي التحرير". كان لحدتو بالفعل دورا فعالا في قيام ثورة يوليو وحشدت التأييد لها. وكان موقفا صائبا. ولم تكن مؤامرة ولا انقلابا. كما دعت بوصفها فاعلة في الأحداث إلى استمرار الجبهة التي أسقطت الملك فاروق وسيطرة الاقطاع. وقالت حدتو في هذا الصدد "يجب علينا السعي لبناء جبهة مع الشريحة الاجتماعية التي في السلطة، أو بالأحرى، أن نعيد البناء مع هذه الشريحة للجبهة التي أدت إلى إسقاط فاروق وإنهاء السيطرة الاقطاعية في مصر". يعبر هذا عن دور حدتو ومكانتها في التاريخ. ولكن تم توجيه الاتهام لها ومحاربتها من جانب بعض الماركسيين ومن بينهم الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي البريطاني وشيوعيين مصريين. وكانت حدتو تعرف مكانتها وأن موقفها يواجه معارضة. لكنها معارضة خاطئة. ولهذا قالت في مطبوعاتها "ألم يؤخذ علينا اشتراكنا في أحداث يوليو 1952؟ كما استنكرت موقف المعارضين لثورة 23 يوليو قائلة: هل كنتم تريدون أن نقف في صف الملك فاروق؟ إن هذه المواقف لحدتو كانت وراء طلب العراقيين التخلص من قادتها. وهو أمر كان من ضمن خلفيات الآزمة بين عبدالناصر والشيوعيين. فقد كان ذلك الطلب من جانب العراقيين ضمن عوامل تفاقم تلك الأزمة على أكثر من مستوى. الأول مستوى العلاقة بين مصر والعراق. والثاني مستوى العلاقة بين عبدالناصر والشيوعيين في مصر وفي العالم العربي. ولم تكن الحملة الإعلامية ضد الشيوعيين في نهاية 1958 بعيدة الصلة عن كل ذلك. وقد بدأها عبدالناصر شخصيا، وأعقب ذلك بحملة اعتقالات واسعة في أول يناير 1959. وكنت شخصيا أحد المقبوض عليهم. كما تصاعدت الحملة الإعلامية والأمنية ضد الشيوعيين خلال الشهور الأولى من عام 1959. وتزايدت حدتها بعد إجراء العراق محاكمات شملت أنصار لتوجهات عبدالناصر.
الهدف من طرح هذا الموضوع هناك أكثر من دافع وراء تناولنا هذه القضايا. فأولا نريد إلقاء الضوء على قضية كان لها تأّثيرات سياسية بالغة ومع ذلك لا يتناولها المؤرخون والمعنيون بتاريحنا الوطني. ونريد ثانيا توضيح أن المغامرات السياسية غير المسؤولة لبعض الشيوعيين ينتج عنها الكثير من الكوارث. ونود ثالثا توضيح أن الأزمات من ذلك النوع كان لها تأثيرات سلبية على التضامن العربي وعلى الوحدة بين مصر وسوريا. كما كان لها رابعا تأثيرات سلبية على علاقة مصر بالاتحاد السوفيتي. ونريد خامسا إلقاء مزيدا من الضوء على قهر عبدالناصر للقوى الوطنية الديمقراطية ومحاربته لها حتى وإن كانت حليفة له. كما أن محاصرة عبدالناصر للقوى السياسية الوطنية التقدمية كانت بداية لتجريف الحياة السياسية. بل كانت النتيجة النهائية هي عدم استمرار تجربة عبدالناصر السياسية والاجتماعية ذاتها. قام عبدالناصر قبل شن حملاته الإعلامية والأمنية بتوجيه تحذير للشيوعيين نقله لهم أنور السادات. وكان الدافع لذلك متعدد الجوانب. فقد أراد إنهاء وجود الشيوعيين، وذلك في سياق رفضه التعددية الحزبية وفرضه صيغة التنظيم الواحد المتمثل في "الاتحاد القومي". وقد اتخذت هذه الصيغة اسم "الاتحاد الاشتراكي" بعد تأميمات الستينات. كما أراد عبدالناصر ثانيا، وهو الأمر الأكثر خطورة، مواجهة وإحباط خطة العراق إلى تحويل قيادة العالم العربي من القاهرة إلى بغداد. وهي عملية دبرها الشيوعيون العراقيون وأبلغوها لبعض الشيوعيين المصريين الذين كانوا تاريخيا يعادون منظمة حدتو ويقفون ضد توجهاتها. في هذا السياق طلب الشيوعيون العراقيون من الذين يعادون حدتو أن يتخلصوا من قادتها حتى لا يكونوا عقبة أمام عملية نقل زعامة العالم العربي إلى بغداد بدلا من القاهرة. ويقتضي فهم هذه الأمور أن نشير أولا إلى عملية تأسيس الحزب الشيوعي المصري في 8 يناير1958 وعلى السلبيات التي ترتبت على الأخطاء التي شابت عملية الوحدة التي تأسس بموجبها ذلك الحزب. تأسيس حزب 8 يناير 1958 بداية التآمر على الحركة الشيوعية وانهيار مرحلتها الثانية في 8 يناير 1958 توحدت ثلاث تنظيمات هي حدتو وحزب الراية وحزب العمال والفلاحين الذي كان يعرف من قبل بمنظمة "د.ش" ثم "طليعة العمال". وتشكل بذلك الحزب الشيوعي المصري. وحمل الحزب عوامل عدم الاستمرار نتيجة الخطأ في اتفاق الوحدة. وأبرز أشكال الخطأ هو أن حدتو تخلت عن حقها في الحصول على أغلبية مقاعد القيادة. فقد كانت هي الأكثر عددا ويزيد أعضاؤها عدة مرات عن مجموع عدد أعضاء التنظيمين الآخرين. كما كانت حدتو هي صاحبة النفوذ السياسي والجماهيري. وأدى هذا التنازل من جانب حدتو إلى أن أغلبية قيادة الحزب الجديدة جاءت منعزلة عن جسد الحزب والخبرات النضالية لأعضائه. فقد وقع الحزب الوليد في قبضة عناصر قاصرة سياسيا، وعديمة الخبرة نضاليا، ومقامرة، وتتأرجح بين اليمين واليسار، وهمها الأول هو مساومة الحكومة للاشتراك في الحكم. وفي الفترة التالية لقيام هذا الحزب مباشرة حضر إلى القاهرة قادة من الحزب الشيوعي العراقي والتقوا ببعض قادة الحزب الجديد فاقدي الخبرة النضالية والمقامرين. وتم هذا اللقاء من وراء ظهر زعماء حدتو وبخاصة زعمائها الأساسيين والتاريخيين الذين يمثلوها فكريا. وهما كمال عبدالحليم وشهدي عطية. والأشخاص الذين تقابل معهم العراقيون هم: د. فؤاد مرسي وكان ينتمي إلى حزب الراية، وأبوسيف يوسف وكان ينتمي إلى حزب العمال والفلاحين المعروف تاريخيا باسم د. ش، ومحمود امين العالم ولم يكن تاريخيا حدتاوي الأصل لكنه تبنى مواقفها السياسية. وفي ذلك اللقاء قام العراقيون بإبلاغ الذين التقوا بهم بما يلي: سوف تقوم قريبا ثورة في العراق سيترتب عليها قيام محور تقدمي في العالم العربي تتزعمه بغداد في مواجهة محور رجعي في القاهرة بزعامة عبدالناصر. كما طلبوا أن يستعد الشيوعيون المصريون لذلك لآن زعامة العالم العربي سوف تنتقل من القاهرة إلى بغداد. ولهذا على الشيوعيين المصريين أن يتخلصوا من زعماء حدتو لأنهم حلفاء لجمال عبدالناصر. وقد قال محمود أمين العالم أنه اعترض على هذا الكلام. لكننا نقول إنه لم يفضحه في حينه رغم النصائح التي قدمت له من قادة حدتو وقادة الحزب الشيوعي السوداني. وهو بذلك شريك في الجريمة بالصمت على الأقل لسنوات طويلة. تنفيذ المؤامرة في 4 يوليو 1958 قامت مجموعة فؤاد مرسي وابوسيف يوسف ومن خلال المكتب السياسي بفصل 4 من قادة حدتو على رأسهم كمال عبدالحليم وشهدي عطية بوصفهما قادة حدتو سياسيا وفكريا. وكان كمال عبدالحليم عضوا في اللجنة الثلاثية الدائمة ممثلا لتيار حدتو السياسي والفكري في الحزب الذي تأسس في 8 يناير1958. وهي أعلى هيئة في الحزب. وكان معه في اللجنة الثلاثية فؤاد مرسي ممثلا لحزب الراية. كما كان ابوسيف يوسف ممثلا ل "د. ش". وفي 14 يوليو قامت ثورة العراق. وفي 24 يوليو صادقت اللجنة المركزية على فصل الأربعة بالإضافة إلى آخرين. وتم بعد ذلك فصل بقية قادة حدتو في اللجنة المركزية. وكانت النتيجة هي تمزيق الحزب الذي تأسس في 8 يناير 1958. وعادت حدتو لمزاولة نشاطها باسم الحزب الشيوعي المصري- حدتو. ذكرت آنفا أصحاب هذه المقامرة المصريين الرئيسيين. لكن كان لهم شركاء في عملية التنفيذ. ومن بين هؤلاء الشركاء د.عبدالعظيم أنيس ود. اسماعيل صبري عبدالله وسعد زهران الذي تم في منزله تنفيذ مؤامرة فصل رفاق حدتو. وقد قال سعد زهران في حواري معه حول هذا الموضوع يوم 26 مارس 2014 إنه لم يتقابل مع شيوعيين عراقيين، ولم يكن على علم بأنهم طلبوا التخلص من قادة حدتو. لكن هذا القول لا يعفيه من المسؤولية خاصة أنه كان أحد تلاميذ شهدي ويعرف أدواره الرائدة. وعلاوة على ذلك فإن سعد زهران يرى أن كمال عبدالحليم هو "الممثل الأمثل لكتلة حدتو وهي الحركة التي كانت غالبة عدديا وسياسيا وجماهيريا في الحركة الشيوعية المصرية". وقد حرص سعد زهران على التدقيق في اختيار هذه الكلمات وقام بإملائها كلمة كلمة. ومع ذلك اشترك في مؤامرة ضد ضد كمال عبدالحليم وبقية رفاقه. وهي مؤامرة كان لها عواقب عديدة. فقد أدت إلى انقسام الحركة الشيوعية المصرية ذاتها. بل كانت في نهاية المطاف من عوامل أنهاء مرحلتها الثانية. وقد ابتعد هؤلاء الذين قامروا وتآمروا عن الحركة الشيوعية ولم يشتركوا في تأسيس المرحلة الثالثة للحركة الشيوعية التي بدأت في 1965. وعلاوة على ذلك أدت تلك المؤامرة إلى خلق محاور وصراعات بين القوى الوطنية في العالم العربي. وهو ما أضعف هذه القوى في مواجهة الرجعية العربية والاستعمار العالمي. مأساة د. عبدالعظيم أنيس أما مشاركة د. عبدالعظيم أنيس في تلك المؤامرة فتعبر عن مأساته. فقد لفظته تلك المجموعة بعد أن تم استخدامه في فصل شهدي ورفاقه. كان عبدالعظيم أنيس عضوا بحدتو لكنه لم يكن ضمن قيادتها المركزية. وفي عام 1957 خرج من حدتو بعد خروجه عن قراراتها وإصراره على أن يترشح في دائرة العباسية ورفضه اقتراح حدتو بأن يترشح في دائرة أخرى، فهو من المثقفين المعروفين ولا يرتبط بدائرة معينة. وكانت حدتو تؤيد مرشحا عماليا هو رئيس نقابة عمال شركة الترام. والغريب أن الحكومة اعترضت على كافة المرشحين الشيوعيين باستثناء عبدالعظيم انيس. وكان الضابط أحمد حمروش ومحمود أمين العالم، على سبيل المثال، من بين الذين تم الاعتراض على ترشيحهم. انضم د. عبدالعظيم أنيس بعد انفصاله عن حدتو لجماعة فؤاد مرسي. وأصبح قياديا في الحزب الذي تشكل في 8 يناير 1958. لكن تم ابعاده في أغسطس من نفس العام. أي بعد ستة أشهر فقط. فقد استبعدوه من القيادة بمجرد أن تم استخدامه في فصل كمال عبدالحليم وشهدي ورفاقهما. وعندما تقدم عبدالعظيم أنيس في 1961 بطلب العودة إلى حدتو هو ومحمود العالم رفضت حدتو قبول طلبه بينما قبلت طلب محمود أمين العالم. وأعلنت حدتو بيانا عن أسباب ذلك الرفض. ومن بينها أنه اعتاد ترك حدتو دون إخطار سعيا إلى مصالح خاصة. ومن أمثلة ذلك قبوله في بداية خمسينات القرن العشرين منحة لدراسة الدكتوراه خارج مصر قدمها له فؤاد سراج الدين وزير داخلية حكومة الوفد. وكان ذلك ضمن خطة أعدها ونفذها سراج الدين لإبعاد عدد من الشيوعيين عن مصر وعن العمل السياسي. وكانوا جميعا من المتفوقين علميا. وظل د.عبدالعظيم أنيس منذ أن رفضت حدتو قبوله في1961 حتى وفاته غير منتمي إلى أي تنظيم شيوعي. مسؤولية محمود أمين العالم في المؤامرة أعلن محمود أمين العالم عدم موافقته على طلبات العراقيين، لكن ذلك لا يعفيه من المسؤولية عن الجريمة بسبب تردده وتستره. فلم يفضحها علنا إلا بعد عدة عقود من حدوثها. فقد تم نسج خيوط المقامرة السياسية وتنفيذها ما بين مارس – يوليو1958، لكنه ظل صامتا ولم يكتب عنها إلا عام 2001. وذلك على الرغم من النصائح التي قدمها إليه آنذاك عبدالخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني الذي أعدمه جعفر نميري فيما بعد. وعلى الرغم من صمت محمود أمين العالم طويلا فإن كلامه يفيدنا في فهم التاريخ. فقد قال في الجزء الخامس من توثيق تاريخ الحركة الشيوعية الصادر في 2001 ما يلي: "وقابلت كذلك زعيما ثالثا من قيادات الحزب الشيوعي العراقي قبل قيام الثورة العراقية وأبلغنا أن شيئا سيحدث في العراق بقيادة الحزب الشيوعي العراقي، وأن العالم العربي سينقسم إلى نظامين وقيادتين. نظام وقيادة ثورية في العراق ونظام وقيادة رجعية هي قيادة عبدالناصر. لم تكن ثورة عبدالكريم قاسم قد قامت بعد في العراق، وقال لنا إننا يجب أن نعد أنفسنا وحزبنا لذلك. وكنت ضد هذا الكلام بشكل كامل، وأذكر أني أدركت بعد ذلك أنه كان وراء هذا الرأي إيحاء بل كلام شبه صريح حول ضرورة استبعاد العناصر الموالية لعبدالناصر من الحركة الشيوعية المصرية، وهذا ما يفسر فصل الرفاق الأربعة من قيادات حدتو". هنا أقول يا ليتك نطقت في حينه. فقد ظل محمود العالم صامتا على الرغم أيضا من التقرير السياسي التفصيلي الذي كتبه كمال عبدالحليم حول سياسة مجموعة فؤاد مرسي وأبوسيف يوسف والآخرين. وقد أطلق عليها اسم "التكتل". وقال في تقريره إن سياسة ذلك التكتل سوف تؤدي إلى تصفية الحزب وتدميره. والجدير بالذكر ان كمال عبدالحليم شاعر طليعي وصاحب نشيد "دع سمائي". وكان مسؤولا عن مكتب الأدباء والفنانين في منظمة حدتو. كمال عبدالحليم يتهم "التكتل" بمساومة الحكومة للاشتراك في الحكم تم نشر تقرير كمال عبدالحليم يوم 2 سبتمبر 1958 بعد أن وقعه معه شهدي عطية وزملاؤه. واتهم كمال عبدالحليم في ذلك التقرير "تكتل" المجموعة التي تضم د. فؤاد مرسي وابوسيف يوسف ود. اسماعيل صبري عبدالله بأنهم يقامرون بنضال الشيوعيين بهدف مساومة الحكومة للاشتراك في الحكم. كما أوضح التقرير أن هذه المجموعة تتخبط سياسيا، وتنتقل من اليسار إلى اليمين والعكس، وتمثل تيارا انتهازيا. وقال إن سياستها ستؤدي حتما إلى تصفية الحزب الشيوعي تنظيميا وسياسيا. وتوجد نسخة من هذا التقرير ضمن مضبوطات شهدي عطية في القضية التي جرت محاكمته فيها عام 1960 أمام محكمة عسكرية خاصة. وكنت شخصيا بين زملائه المتهمين في تلك القضية. وفي أعقاب المحاكمة تم تعذيبنا وتم قتل شهدي تحت سياط التعذيب.
وقد اتضح من تطور الأحداث أن كمال عبدالحليم كان صاحب بصيرة سياسية في توصيفه لتلك المجموعة وحديثه عن انتهازيتها وأنها تساوم للاشتراك في الحكم. فبعد الخروج من المعتقلات في عام 1964 التحق زعماء تلك المجموعة بنظام عبدالناصر. فقد قام محمد حسنين هيكل بتعيينهم في الأهرام رغم أنهم وقفوا ضد ثورة 23 يوليو وقالوا انها انقلاب أمريكي وأن قادتها يلعبون دور البورجوازية الكبيرة. واتهموا حدتو بأنها شاركت فيما أسموه انقلابا ومؤامرة. ثم قالوا بعد ذلك أن عبدالناصر يمثل الاحتكارات الأجنبية. وبلغت المأساة-الملهاة ذروتها بقيام أنور السادات بتعيين د. اسماعيل صبري ود. فؤاد مرسي وزراء. كما قام بتعيين أبوسيف يوسف عضوا في البرلمان. إننا أمام حالة تثير كثير من التساؤل وتضعنا أمام تناقض غريب. فإن هؤلاء الذين استوعبهم السادات وقفوا من قبل ضد حدتو وهاجموها لآنها تعاونت مع عبدالناصر وأيدت ثورة يوليو. ومن هذا المنطلق تأمروا أيضا ضد قادتها مع العراقيين. لكنهم في نهاية المطاف وضعوا أنفسهم سياسيا في معسكر السادات صاحب كامب دافيد. يوضح ذّلك صحة كلام كمال عبدالحليم بأنهم كانوا يساومون بنضال الشيوعيين بهدف المشاركة في الحكم. وقد تمت هذه المساومة على حساب مناضلين دفعوا حياتهم من أجل الوطن. وعلى حساب الحركة الوطنية وليس الحركة الشيوعية وحدها. أما كمال عبدالحليم وشهدي عطية فكان مصيرهم على نحو آخر. فمن جانب لم يلتحق كمال عبدالحليم بنظام عبدالناصر. ولم ينضم مثلا إلى تنظيمه السري المسمى "طليعة الاشتراكيين". كما تعرض للاعتقال طوال عام 1966 ثم طوال عام 1967. وكان ذلك بسبب مواصلته النضال وتزعمه تأسيس "التيار الثوري" في 14 مارس 1965 الذي شكل بداية للمرحلة الثالثة للحركة الشيوعية. وكنت شخصيا ضمن المجموعة الصغيرة التي أسست ذلك التيار والتي ضمت الرفاق محمد عباس فهمي وطاهر البدري. أما شهدي عطية فقد تم تعذيبه وقتله بالمعتقل في يونيو 1960 في سياق تداعيات جريمة التآمر مع عراقيين. ومن المفارقات أن الذين قامروا وأجروا المساومات تم إلحاقهم بنظام عبدالناصر وتم بعد ذلك استيعابهم في نظام أنور السادات. مسؤولية عبدالناصر وتنكره لحدتو ودورها بالرغم من كل شئ فإن عبدالناصر يتحمل مسؤولية الوصول بأزمة عامي 1958-1959 إلى أبعاد خطيرة. فقد قام بقمع الشيوعيين وفي القلب منها حدتو. وذلك بالرغم من تشكيلها الصف الأول للقوى الوطنية الديمقراطية. وأصر أيضا على فرض صيغة الحزب الواحد. وكان ذلك من عوامل تجريف الحياة السياسية. كما أن النهضة الثقافية والفنية التي تمت في عهده قامت أساسا على أكتاف مجموعة كبيرة من كفاءات نوعية ومبدعين تكونت في فترة النظام الملكي. وكانت أغلبية هؤلاء المبدعين من الشيوعيين وأنصارهم. ولم يظهر أو يتشكل في عهد عبدالناصر مثل هذه النوعية من الكفاءات والمبدعين. ومن جانب آخر تنكر عبدالناصر للتاريخ المشترك بينه وبين الشيوعيين الذين تمثلهم حدتو تحديدا. ولم يضع ذلك التاريخ في اعتباره أثناء تصديه للأزمة مع العراق. كما تجاهل حقيقة أن تاريخه المشترك مع حدتو كان من عوامل نجاح ثورة 23 يوليو ذاتها. وفيما يلي مجرد إشارات توضح أن عبدالناصر تنكر للتاريخ: 1- اشتركت حدتو في تاسيس تنظيم الضباط الأحرار. وكان خالد محي الدين وهو حدتاوي من بين الأعضاء الخمسة الذين أسسوا التنظيم. كما كانت حدتو هي التي تطبع منشوراته ويقوم ضباطها في الجيش بتوزيعها. 2- قامت حدتو أيضا بدور رئيسي في تنفيذ الثورة. وقد أشاد الجميع وأولهم عبدالناصر بالدور البطولي الذي قام به يوسف صديق ليلة الثورة. وهو من كوادر حدتو. وتم ضمه لمجلس قيادة الثورة تقديرا لذلك الدور. 3- لم يقتصر دور حدتو على المشاركة في ثورة يوليو سواء في التحضير أو في التنفيذ. فقد قامت بدعوة الشعب إلى تأييدها والالتفاف حولها. وطبقا لكلمات د. سمير أمين فإن حدتو وصفت حركة الجيش بأنها حركة شعبية "ونادت الشعب ليساند جيشه. وشحذت همم المثقفين للكتابة في جريدة الحركة". ويقصد سمير أمين بذلك مجلة التحرير. وهي مجلة صدرت في أعقاب قيام الثورة. وكان رئيس تحريرها في البداية الضابط أحمد حمروش الذي كان مسؤولا سياسيا عن قسم الجيش التابع لحدتو. كما كان حسن فؤاد وهو من كوادر حدتو وأبرز الفنانين التشكيليين هو المسؤول الفني للمجلة. 4- ساهمت حدتو بدور هام في مقاومة غزو القوات البريطانية والفرنسية لبورسعيد. كما قامت بالدور الرئيسي في تنظيم المقاومة في بورسعيد أثناء العدووان الثلاثي عام 1956. لقد أخطأ عبدالناصر عندما قام بالتنكيل بالشيوعيين وتعذيبهم. ومن المآسي في هذا الصدد أن يتم إجبار المعتقلين الشيوعيين على القيام بأعمال سخرة وتكسير أحجار الجبل في أبوزعبل. كما ارتكب خطيئة بتجاهله أن حدتو وقادتها كانوا أول ضحايا خطة العراقيين ومحاولتهم نقل قيادة العالم العربي من القاهرة إلى بغداد. تجاهل عبدالناصر ذلك وقام بتقديمهم للمحاكمة أمام محكمة عسكرية خاصة برئاسة هلال عبدالله هلال قائد سلاح المدفعية. لقد كان عبدالناصر يدرك أن حدتو هي القوى الفاعلة في الحركة الشيوعية، ويخشى وجودها بعد انفراده بالسلطة خاصة بدءا من أبريل 1954. وكانت لا تزال ماثلة في ذهنه "الجبهة الوطنية الديمقراطية" التي شكلتها حدتو عام 1953 لإعادة الحياة النيابية. وهي الجبهة التي اشركت حدتو فيها كلا من حزب الوفد والحزب الاشتراكي. وبسبب تلك الجبهة تعرض قادة حدتو وكوادرها للتعذيب بالسجن الحربي ما بين نوفمبر 1953 وفبراير 1954. وليست مصادفة أيضا أن تم تعذيب رفاق حدتو على نحو بشع ثانية في 1960 حيث تم قتل شهدي عطية الذي تم التآمر عليه من قبل في 1958 هو وبقية رفاق حدتو. وقد أفضت المحصلة النهائية لتلك التطورات إلى إضعاف القوى الوطنية في العالم العربي في مواجهة القوى الرجعية والاستعمارية. بيان: هيئة التنسيق لقوى التغيير الديمقراطي بيان سياسي في إجتماع المكتب التنفيذي بتاريخ 12/8/2017، ناقش التطورات السياسية وتقارير ممثليه في إجتماع الهيئة العليا للمفاوضات ، واتفاق وقف التصعيد في ريف حمص الشمالي، واللقاء المنوي عقده بين وفد الهيئة العليا ووفدي منصة القاهرة وموسكو في الرياض ، كما ناقش بعمق ومسؤولية التطورات الدولية الجديدة في مواقف الدول الكبرى – روسيا الاتحادية، والولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا وفرنسا ( إيمانويل ماكرون) ومجلس الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي والدول الإقليمية ، والموقف من النظام السوري في المرحلة الانتقالية، وأثره على العملية السياسية التفاوضية، وانتهى إلى ما يلي: 1-إعادة التأكيد على أنه لا حل عسكري للمسألة السورية، وأن الحل السياسي هو الخيار الوحيد. 2-المطالبة ببدء المفاوضات المباشرة دون شروط مسبقة، والتنسيق مع الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص، والإصرار على التفاوض المباشر من أجل الانتقال السياسي، وتشكيل هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية، والمؤسسات التشريعية والقضائية والإدارية والعسكرية والأمنية المنبثقة عنها ، وممارسة صلاحياتها بمقتضى إعلان دستوري تشرف على صياغته وإقراره، خلال الفترة الأولى من المرحلة الانتقالية ، وتغيير منظومة الحكم الحالية بجميع أركانها ورموزها، وفق الآليات المقررة في بيان جنيف /1/ والقرارين 2118 و،2254 لأنها المسؤول الأساس عما آلت إليه الأمور في سوريا خلال سبع سنوات عجاف.؟ 3- ضرورة اللقاء مع وفدي منصتي القاهرة وموسكو، بهدف تشكيل الوفد الواحد على أساس توافق سياسي يستند إلى بيان جنيف /1/ وجميع القرارات الدولية ذات الصلة والرؤية المشتركة والتغيير الجذري الشامل. 4- تأييد اتفاقات خفض التصعيد في المنطقة الجنوبية والغوطة الشرقية، وريف حمص الشمالي، والتعديل اللاحق عليه والعمل على إنجاز اتفاقات مماثلة ، تحقيقاً لوقف إطلاق النار والاستمرار في إدخال المساعدات الانسانية وإطلاق سراح المعتقلين . 5- التأكيد على رفض الإجراءات الخاصة بالاستفتاء الأحادي الطرف بمعزل عن إرادة جميع السوريين وأي مشاريع استباقية، تمس بوحدة البلاد أرضاً وشعباً ، ورفض مشروع الفيدرالية أو الدولة الاتحادية والعمل على مقاطعة تلك الانتخابات والاجراءات الإدارية. 6- متابعة الجهود لتشكيل جبهة القوى الديمقراطية ، من خلال إعداد مشروع رؤية سياسية مشتركة ، والسعي لتشكيل لجنة تحضيرية من تلك القوى ، وصولاً إلى مؤتمر موسع لها . دمشق ٢٠١المكتب التنفيذي الموقع الفرعي لتجمع اليسار في الحوار المتمدن: htt://www.ahewar.org/m.asp?i=1715
للاطلاع على صفحة الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي على الفيسبوك على الرابط التالي: https://www.facebook.com/pages/الحزب-الشيوعي-السوري-المكتب-السياسي/1509678585952833 موقع الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي على الإنترنت: www.ahewar.org/m.asp?i=9135 5
#تجمع_اليسار_الماركسي_في_سورية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طريق اليسار - العدد 98- تموز/يوليو 2017
-
طريق اليسار - العدد 97حزيران/يونيو 2017
-
طريق اليسار - العدد 96أيار/مايو 2017
-
طريق اليسار العدد 95 نيسان/إبريل 2017
-
طريق اليسار العدد 94
-
طريق اليسار العدد 93 شباط/فبراير 2017
-
طريق اليسار - العدد 92 كانون ثاني/يناير 2017
-
طريق اليسار - العدد 91
-
طريق اليسار 90
-
طريق اليسار 89
-
طريق اليسار 88
-
طريق اليسار - العدد 87 آب / أغسطس 2016
-
طريق اليسار - العدد 86 تموز / يوليو 2016
-
طريق اليسار - العدد 85
-
طريق اليسار - العدد 84
-
طريق اليسار - العدد 83
-
طريق اليسار - العدد 82 آذار / مارس 2016
-
طريق اليسار - العدد 81
-
طريق اليسار - العدد 80
-
طريق اليسار - العدد 79
المزيد.....
-
إدارة بايدن تسمح للمقاولين العسكريين الأمريكيين بالانتشار في
...
-
بايدن يعلق على أحداث أمستردام
-
روسيا تؤكد استعدادها لنقل 80 ألف طن من وقود الديزل إلى كوبا
...
-
رئيس الوزراء اليوناني يقدم مقترحات للاتحاد الأوروبي من أجل ا
...
-
رويترز: البنتاغون يسمح بتواجد متعاقدين عسكريين في أوكرانيا ل
...
-
الناتو يزعم أن التعاون بين روسيا وكوريا الشمالية يمس الأمن ا
...
-
إيران: مقتل 4 -إرهابيين- وجندي في عملية في سيستان وبلوشستان
...
-
قضيّة الوثائق السرية المسربة: مستشارة الحكومة الإسرائيلية تو
...
-
تواصل التنديدات الدولية بالهجمات على مشجعين إسرائيليين في أم
...
-
القضاء الأمريكي يوجه الاتهام لإيراني بالتخطيط لاغتيال ترامب
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|