|
المزامير قصة قصيرة
محمود يعقوب
الحوار المتمدن-العدد: 5621 - 2017 / 8 / 26 - 03:47
المحور:
الادب والفن
المزامير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خُيّل لي أنّـه حفر قبره بمبضعه وأراح نفسه فيه بفخر وجلال . في هذا القبر ستنمو عظامه الناعمة بلا شك ، ثمة روح عظيمة كامنة فيها ستدفعها لترّتقي صاعدةً إلى السماء أشجاراً جميلةً وخفّاقة كالرايات . حين جنّ الليل ، تسلّـلت إلى المقبرة ثانيةً ، وكنت مدجّـجاً بالسحر ؛ يهمي الشر من بين رموشي مثل وحش جريح ، أشقّ طريقي غير هيّـاب ، ويحدو بي هوى الانتقام . نارٌ وتراب .. نارٌ وتراب .. نارٌ وتراب .. نبشت القبر الذي لم تزل رماله نديّـة ، خضراء بعد ، ودسسّت تحت جثمان الطبيب القتيل ، حزمةً من القصب الفارسي الصلد ، ذي العقد الناتئة ، القاسية ؛ الذي انتقيته لهذا الغرض أفضل الانتقاء . ثم أعدت ردم القبر وساويت ترابه سريعاً . احتضنت القبر وجلست لصقه متأوهاً . ما لبثت أن أخرجت عدّتي الشعواء ، ورحت أشتغل في حلكة الظلام الدامس ، الذي كانت تحوم في فضائه أرواح الموتى المُحلّـقة ، وهي تغمغم بكلمات مبهمة لا تشبه إلّا حفيف الرياح . كنت وحيداً في المقبرة ، ولم تكن تلك الوحدة ترهبني . كنت ليلاً مدلهمّاً ، وشبحاً غير هيّاب ، اقتحمت عالم الموتى كالعاصفة الهوجاء ؛ ولذلك حدّجتني عيونهم الباردة ، وأحاطت بي الحدقات الحزينة مثل سور من الأصداف المُوحلة . حتى الموتى متطفلون وفضولهم بلا حدود ، أرادوا معرفة ما كنت أخبئه ، وما كنت أفعله في هذا الليل . ولكنّ نظراتهم التي تثير الجنون ، جعلتني أكثر تجلّـداً وإقداماً على لعب دور المنقذ الذي يشك في حزامه سلسلة مفاتيح الخلاص . نارٌ وتراب .. نارٌ وتراب .. نثرت بين يديّ ما كنت أحمله في مخلاتي ، والتقطّت من بينها قطعةً من الرق وأقلام السحر ومحابره العجيبة ، وشرعت أكتب طلسم ( عصا موسى ) المانع ، القاهر ، برويّـة وإتقان . حالما انتهيت دوّنت في أسفله أسماء أعدائي ، وكل من جئت أنتقم منهم . وبصوت راح يضرم الليل بنيرانه الحارقة ، أخذت أقرأ تعويذاتي وعزائمي السحرية الرهيبة حتى وهنت قواي ، وهدّني الحزن . كانت الأرواح قد استكانت جميعها من حولي ، وبان عليها الوجوم ، وهي تشعر برهبة طقوسي السحرية ورعب هذيان عزائمي . حالما فرغت ، عدت أدراجي قبيل انبلاج الصبح وإطلالة تباشيره الأولى .. عدت ولمّـا ينطفئ وجاق قلبي بعد . نارٌ وتراب ..
♦♦♦♦
منذ أيام طفولتي وحتى اليوم ، لا أكاد أنسى ( عباس السمّـاك ) . أنسى الدنيا برمتها ولا أنسى مزنة الصيف تلك ، التي تمطر نبيذاً معتّقاً بالمحبة والمودّة .. المزنة التي أنعشتنا بنداها ، وخيّـمت فوق الطرقات بظلالها الوارفة الحنون . كان ( عباس السمّـاك ) أروع عازف مزمار سمعت أذناي أنغامه ، من بين جميع من كانوا ينفخون في آلاتهم الموسيقية في المناسبات الشعبية السعيدة . كان أغربهم جميعاً ، وطالما كان يبهرني ، هل أقول إن شيئاً من السحر العجيب فيه ؟ .. في تلك الأيام الغابرة اعتاد الناس على ختان أولادهم الصغار في أوجّ شهور الصيف ضراوةً .. شهر تموز المستعر ، وعند ساعات الهجير ؛ حيث رياح السموم التي تلفح الأجساد بسياط نيرانها المتوهجة ، كانت كفيلة بالتئام جراحات المختونين سريعاً . عند الظهيرة كان الأطفال يتقاطرون جميعاً ، من كل مكان ، إلى الحمّام الرجالي العام ، في وسط المدينة ، حيث ينطلق من هذا الحمّـام موكب المختون .. الموكب الذي تزينه السلال المبرقعة بألوان من أقمشة الحرير الزاهية . من بين جميع الحضور يبرز ( عباس السمّـاك ) بجسده القصير ، النحيل ، وفي الحال يستلّ من طيّات ثيابه مزماراً قصبياً يلمع كالذهب الصافي ويبدأ بتجريبه قبل أن يباشر بالعزف . وفي تلك الأثناء نتسابق في مشاكسته بكل ما نمتلكه من تهوّر وطيش ، آملين إثارته ونفخ جذوة غضبه . كنا جميعاً نعرف حق المعرفة كيف يمكن أن يردّ على مشاكستنا بأروع الألحان وأكثرها حماسةً . كان الرجل يهيج في الحال ، فتملأ صفحة وجهه الأسمر الأخاديد القاتمة ، التي تأخذ حبّات العرق تتلألأ في طيّاتها تحدّياً . كانت حبّـات العرق تمنح تقاطيعه صلابةً ، وتبدو كأنها كرات من الفولاذ الصلب . يأخذ الموكب مسيرته إلى بيت الطفل المختون ، ويبدأ ( السمّـاك ) عزفه . في الحال تدور بنا دوّامة الرقص ، وسرعان ما تحتدم ، ونروح صغاراً وكبارا نقرع الأرض بأقدامنا العارية .. نقرعها حد الجنون . مثل مزنة ، تنزل قطرها أولاً ، فتشيع الفرحة بيننا ؛ ثم تنبثق الزغاريد من أعشاشها تصفق بأجنحتها تصفيقاً مترنماً . وفي حُميّا غنائنا ورقصنا ، تطير فوق رؤوسنا الحلوى من كل صوب ، مثل فراشات قزحية الألوان . إن ما عنيت بقولي عن ( عباس السمّـاك ) أن فيه شيء من السحر العجيب ، هو هذا الخرس المطبق على شفتيه ، وكيف يتفجّر ألحاناً رائقة ، تأخذ بألبابنا وترقصنا . كان يغمر الطرقات بلغة صادحة ، تجعل كل واحد منّـا منتشياً وراقصاً . لم يكن يفرش حصى صمته فوق الدروب كما يفعل الصم والبكم من أمثاله . بين يديه تنطلق أغنياتنا الموقّـّعة إيقاعاً راقصاً ، وكنت أندهش كيف يتسنّى له أن يرسل ألحانه مدوزنةً مع أغانينا وحركاتنا . حين يمضي موكبنا قُدماً من مكان إلى آخر ، كان المزيد من الأطفال يلتحقون بنا ؛ كانوا ينبعون من كل زاوية ومكان ، كما لو كانوا فئراناً فزعت متدفقة من جحورها ومخابئها السريّة ، حتى يلوح مزمار ( السمّـاك ) في نهاية المطاف أشبه بذلك المزمار السحري ، الذي ذكرته الحكايات القديمة ، والذي قاد الفئران بعيداً عن المدينة . كان يمضي متقدّماً موكبنا بعض الشيء ، وعيناه تقدحان بالنور ، بينما ألحانه تسيل .. تسيل في الشوارع .. تسيل في الأزقّـة . وكنّـا نغرق فيها هياماً . أسرتنا تلك الأيام بفتنتها ، وأخبلنا مزمار ( السمّـاك ) !.
♦♦♦♦
نبضت ذكريات ( عباس السمّـاك ) في مخيلتي في الوقت الذي كنت فيه أزور عيادة الطبيب الجرّاح ( سعد الواسطي ) ، المعروف بخبرته ، والذي طارت شهرته في كل الأرجاء . كنت في عيادة الطبيب في وقت ما قبل الغروب ، وكانت عيادته مكتظّـة كالعادة بعشرات المرضى .. مرضى جاؤوا من كل ناحية ومكان من أرض الوطن ناشدين هذا الجرّاح النطاسي اللبيب .. جلست طويلاً حتى خيّم الظلام ، ولم يحن دوري بعد . وإذ مرّ الوقت بخطاه المتثاقلة ، التي ترهق الحواس ، أحسست معه بضيق غامض ، وقلق مبهم ، ينفد إلى صدري ، لا أكاد أعرف سرّه . كنت مستغرقاً في أخيلتي وأوهامي ، في الوقت نفسه الذي كنت أطلّ فيه بوجهي على الشارع ، من خلل نافذة ضيقة في صالة الانتظار ، في الطابق الثاني لبناية قديمة . وفي غفلة استغراقي هذا دوّت أصوات توقّف فجائي لعدد من المركبات التي أتت مسرعة ، لفتت انتباهي وانتباه كثير من الحضور . أطاح صوت توقّـفها العنيف بضجيج المكان ، وأخرسه في الحال . رميت برأسي صوبها لأرى مجموعة رجال يتقافزون منها بمرونة وعجلة ، ولاحوا لي كالفئران التي تثب في غاية الخفة . وأعقب ذلك تصاعد وقع أقدامهم المسرعة في وتيرة واحدة ، متجهاً إلى الدور الثاني من المبنى . وما لبثوا أن تزاحموا عند باب العيادة بأسلحتهم المخيفة ، ووجوههم المدخّنة ، ونظراتهم الشوساء . لم تكن سحناتهم متشابهة ، ولكنها جميعاً اكفهرّت وحالت بلون الضباب القاتم . انطلقوا بجسارة ، عبر صفيّ الكراسي التي رُصِفَـت على امتداد صالة الانتظار ، مخلّـفين فينا الرعدة والذهول . بلا تردّد اقتحموا غرفة الطبيب بجعجعتهم ، ثم ماتت كل الأصوات في إثرهم ، وحبست كل الأنفاس . وفي غضون دقائق معدودات أخذ اللغط يعلو وسط ضجيج سحب الأثاث وجرّها جانباً . ثم شقّت تلك الأصوات سيول الشتائم واللعنات . لم يدم ذلك سوى برهة ليخرج أحدهم وهو يمسك بالطبيب من ياقة قميصه ، يدفع به خارجاً ، ويتبعه الآخرون . في وسط الصالة ، وأمام أعيننا المرعوبة ، ركله من كان يمسك به ، وكاد يسقطه أرضاً . هبطوا في سرعة خاطفة ، وقبل أن نصحو من ذهولنا كانت العربات قد أدارت محرّكاتها وانطلقت مولّـية كالسهام ، مزوبعة الغبار الذي غمرت سحبه الطريق . انتزعوا الطبيب من بين مرضاه ورحلوا به ، مخلّـفين للتو أوار الرعب يلتهب عبر سحاب التراب .. نارٌ وتراب .. نارٌ وتراب .. ما الذي يمكن أن يفعله رجلٌ وديع ، فاضل الخصال ، كبير السن مثله ؟ . ساعتها تأكّـد لي أن سبب ذلك الضيق الغامض والقلق المبهم اللذين ما كانا يلمّـان بي إلّا لأن نجمة انطفأت .. نجمة هوت تاركة هالتها الحيرى تتخبّط في متاهة من العدم . سرعان ما تناثر المرضى يميناً وشمالا ، واختفوا حاملين معهم أمراضهم ومرارة الخيبات . وحالما تركت المكان برقت بين عيوني صورة ( عباس السمّاك ) .
في اليوم الثاني ، وفي اليوم الثالث ، سمعت بقية الحكاية .. سمعتها إلى حدّ الدفن وإهالة التراب على جسد الطبيب . من أين أتت هذه الفئران ، وإلى أي جحور أوت ؟ .. ليس هنالك من يعلم بالضبط . كانت تبرز من الظلام ، وتختفي في تلافيفه سريعاً ، ولا تترك من ورائها أثراً غير الصرير . هل تعقّـبهم أحد ، وهل شغل باله بأمرهم ؟.. كلا ، كانوا مطمئنين على مصيرهم ، طلقاء وبعيدين عن المطاردة ، ولهذا السبب تمادوا واستطالت أذرعهم . وكان تشييع الطبيب ظريفاً حقّـاً ، جثمان ضئيل الحجم ، يمشي خلف نعشه رهط من الرجال المرضى ، وهم يئنون من فرط اعتلالهم .
♦♦♦♦
داومت ثلاث ليالٍ متوالية ، أجثو فيها عند القبر هامساً ، متضرّعاً ، ومردّداً أشد العزائم فتكاً وضراوة ، حارقاً بخوري ؛ ومرشرشاً حول القبر السوائل الممزوجة بكل ما يفقأ العيون ، ويثبط الهمم ، ويوهن القوى . حتى انتهيت من هذا الطقس السحري . رجعت إلى المكان بعد مدّة من الوقت ، وفق ما اقتضته هذه الطقوس ، ورحت أنبش القبر مرّةً أخرى ، واستخرجت السحر الدفين من تحت جثّة الطبيب . وردمت القبر بسرعة ، وأنا أكرّر التماسي منه الصفح والغفران . انتحيت جانباً بين القبور ، وأخرجت قصبةً من حزمة القصب الفارسي الذي كان مدفوناً في القبر ؛ وصرت أبريها ، وأشذّبها . ثم أخذت أثقبها ثقوباً من الأعلى والأسفل بدراية واحتراف ، لتمسي في النهاية ، بين يديّ مزماراً متقن الصنع . طرحته أمامي على الأرض ، وباشرت أتلو عليه ما حفظت من التعويذات السحرية . وحين نصبته بين شفتي ، داسّاً فتحته قليلاً في فمي ، وشرعت أنفخ فيه بشيء من التجريب . كاد يجن جنوني لهول السحر المنسكب من عمود الهواء الخارج منه . لففته بقماشة بيضاء ، كما يلف الحرز المصون ، وعدت أدراجي إلى مدينتي . وها أنذا أحمل هذه اللفافة السحرية العظيمة التي هي كل عتادي ودوائي . أدور من شارع إلى شارع ، ومن زقاق إلى زقاق أبحث ، كالسائر في منامه ، عن شبح ( عباس السمّـاك ) .. أبحث عنه جزعاً ؛ ألقاه أو لا ألقاه ، سأظل أبحث عنه ، كي أمنحه المزمار السحري ليقود الفئران بعيداً .
#محمود_يعقوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحذاء
-
كفى نواحاً يا هوراكي موراكامي
-
الخروج من سجلماسة
-
بشر الحافي في ثورته الروحية
-
اليقظات قصة طويلة
-
روعة اللمسة الأخيرة / قصة طويلة
-
تحت جسر الهولندي قصة طويلة
-
التاريخ السري للعقرب / قصة طويلة
-
يوميات معتقل سياسي
-
فورة الشكوك
-
الشجرة الرابعة
-
أكاليل حب إلى نقاهة الشاعر خلدون جاويد
-
عصفور الشطرة الكحلي
-
حامل شمعة الحب .. ( سمنون المحب )
-
بائع الصُوَر المقدسة : قصة
-
النوم مُبتَلاّ ً : قصة قصيرة
-
أسرار النجم الغجري
-
نزلاء الفنادق : قصة قصيرة
-
المنفاخ : قصة قصيرة
-
نساء الأنقاض
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|