|
التغيير من وجهة نظر فلسفية ح1
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5615 - 2017 / 8 / 20 - 21:40
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
التغيير من وجهة نظر فلسفية
التغيير بأعتباره من القضايا التي رافقت الوجود البشري منذ الأزل ومازالت تلح في تسطير الأفكار والرؤى المتجددة في كل مرة يجد الإنسان نفسه في حاجة إلى أجوبة عن إشكاليات البقاء والترقي، والسؤال القديم الذي تم طرحه فلسفيا منذ عهد الفلاسفة اليونان (عن الوجود متغير أم ثابت؟ وهل أن الحركة من طبيعة الأشياء أم من الظاهر المختلقة عقليا) *1 ، لذا لا غرو أن نشير أن الفلسفة هي من بادرت إلى فهم قوانين الوجود وأرتادت أو محاولات الإنسان لأن يكتشف رؤية أو يبنيها وفقا لنتائجه هو وتأملاته للطواهر خارج الموضوع ومن ذاتيات حركة الوجود نفسه، وشكل تكرار طرح الأسئلة ذاتها ومع كل مرة بعنوان لما يتغير الوجود وبماذا يتحرك هذا التغيير ووفقا لأي قوانين محركة نجح أن يفهم نفسه أصلا ووظيفته من خلال ربط الحركة بالعقل ونظامة العملي، وبذلك شكل فهم التغيير على هذا النحو العقلاني هما معرفيا إنسانيا من جهة وحتميا من جهة الموضوعية، لذا قد يكون الجواب المرتقب في حينها أنه من ضرورات الديمومة الوجودية له، خاصة وأننا كعقل حرج وأستكشافي جدلي نؤمن أن كل شيء يتحرك تبعا للبعد الزماني للوجود. ولهذا نال هذا المنهج المعرفي الكثير من الدراسة والتحليل والتنظير وتطورت فيه المدارك البشرية من التجربة وأشتراطاتها وما يتمخض من خلاصات تتحول إلى قوانين أحيانا أو إلى مفاتيح لأسئلة جدلية أخرى وصولا إلى بلورة رؤية شبه متكاملة عنه وعن ألياته الجوهريه وقضاياه الفلسفية، إلا أن العقل البشري الذي تدفعه تلك الأفكار والفلسفات أمن منذ البدء أن التغير الذي يقود التحولات الإنسانية بشقيها المعرفي والتجريبي (كمفهوم حركي) لا يقبل ذاتيا أن يتقدم ويتطور بمفاهيم أصطلاحية ترتدي ثوب الثبات أو تجعل من نفسها قوالب جاهزة للتطبيق في كل مرة، ولأن الثبات ليس من طبيعة الشيء الذي يولد أصلا ليتغير كما يعبر عن ذلك الفلاسفة القدماء (وليس فقط الشيء الواحد يتحول إلى شيء آخر، بل أيضًا هذا الشيء الواحد لا يستقر لحظة واحدة على حال واحدة وإنما هو ينقلب دائمًا باستمرار من حال إلى حال؛ فالشيء يكون حارًا، ويكون باردًا، ويكون حارًا من جديد، وهكذا باستمرار. وهكذا في جميع الأشياء: لا تثبت لها صفة واحدة ثباتًا دائمًا أو على الأقل ثباتًا لمدة غير قصيرة. ومن هنا يقول هيراقليطس بأن كل شيء يشمل ضده ويحتويه، لأن كل شيء حين يتغير، يتغير من ضد إلى ضد، فلابد له إذا أن يكون حائزًا من قبل على الشيء الآخر لكي يمكن هذا التغير أن يتم..) *2. وتبقى الفلسفة كونها الأشتغال الفكري الأعظم الذي عرفه الإنسان الرائد العقلي والعلمي المنظم الذي تبنى فكرة التغيير ووضعها موضع التحليل والتأمل والمدارة الإدراكية، متخطيا بذلك الواقع بشقيه المعرفي والعملي بناء على قوانين الجدل أو قوانين الحركة الوجودية التي تفرع كثيرا في إثبات البعض منها ومحاولة نقض الكثير من الأخرى، ومن هنا يمكننا أن نجزم أن التغيير كرؤية خلاقية كلية بلا فلسفة وقوانين منطقها ما هي إلا مجرد محاولات أنية لم ترتق لأكثر من كونها ردات فعل عقيمة، لا تساهم في بلورة منهج قائم بذاته ولذاتية موضوع التحول والتطور في حياة وأفكار ومناهج الإنسان نحو الكمال البشري، كما أن الدين الخط الأخر من علاقة العقل بالوجود عمل من جانبه على تشجع الفلسفة بما قدم من جدليات مثالية تسير في هذا الأتجاه، وطور من أليات العمل الواعي وعكس رغبة في تقنين الضرورة التغييرية ذاتها، أولا من خلال تجديد الفكر الديني أصلا أو من خلال خلق وصنع تجربة مختلفة مع كل تطور ديني ساهمت في ترسيخ فكرة اللا توقف في علاقة الإنسان بوجوده العام والخاص. هناك حقيقتين عن دور الفلسفة والدين في تطور عمليات التغيير وأتجهاتها في الواقع أو على خط التنظير، وعلى مستوى الفروض البرهانية العقلية وعلى مناطات النتائج كخلاصات لتلك الفروض والمتطلبات البرهانية، وكلا حسب دوره كرافعة معرفية تمس فكرة التغيير طولا وعرضا أو كمحرك تطويري له ساهم في جزء من التجربة البشرية تأريخيا في هذا الأتجاه، أولا نجح الدين أن يترجم عمليا واقع التغيير الوجودي الكلي من خلال تعدد الأديان وتنوعها وأختلاف المضمر والمعلن من جوهر فكرتها، وما يجر ذلك من مقارنات ومقاربات وأحيانا تضاد وتنازع بيني بينها بحاجة لكم من مفاتيح الفهم ضرورية لتفسير الأختلاف والتنوع، وثانيا من خلال الحراك الفعلي من هذا الحال التنافسي وقانون التضاد والبقاء للأصلح فكريا ليس فقط من خلال التجربة ولكن أيضا من خلال عامل الزمن المتحرك فيها وعليها. ولأن الدين مثلا له طبيعة مثالية مفرطة في جانبه الغيبي والروحي فيتفاعل سريعا مع طبيعة الإنسان المفتون بالإسرار والأحاجي والميل الفضولي له على معرفة ما وراء المغيب خاصة إذا كان يتعلق في إجابات لإشكالية السعادة والإطمئنان من الخوف والقلق الدائم في لزوميته مع وجوده وحدسه أن الكون لغز كبير لكنه قابل للإكتشاف متى ما فهمنا أساسيات الفك والتفكيك، ولأنه أيضا يملك السلطة الوجدانية الغالبة على حدس الإنسان كعامل قهري فوقي لا يطاق أو لا يترك، فقد أمن بالمجمل أنه لا سبيل لإدراكه أيضا بالمجمل الضبابي أو المشوش فسعى لمعرفة المزيد منه، هذا العامل النفسي لعب دورا تحفيزيا مهما لإكتشاف ما بعد العلم بالأشياء وقوانين حركتها أو حتى قوانين وجودها، أكثر مما يحمله أس المضمر المعرفي المجرد (الفلسفة)، فهو الأكثر قدرة واقعيا على تجسيد التغيير بأدواته الخاصة، فهو أما يستجيب أو يشجع للتغير والتغيير لأرتباطه بقوة خارجية فوقية تفرض ومن خلال المقدس واقعا تغييريا ممنهجا، يراد منه تحريك العقل المعرفي في أتجاه قبول الحركة والتغيير مهما كانت الأدوات لأن النتيجة مرسومة أيضا بذات القدرية التي فهمنا به الدين. في حين أن الفلسفة وخاصة المثالية بشقيها الطبيعية والواقعية التي عبر البعض كقانون تتبنى مشروع الإنسان المتغير الخالق أيضا لوجوده الخاص من ضمن وجود أكبر لا سبيل للتخلص من حوليته وإحاطته الكاملة بقانوني القدرة والقوة، وهناك أمثلة كثيرة في هذا المنهج وخاصة في تناوله لواقع القوة المطلقة وصاحب القدرة في تحريكها فمثلا نرى مذهب بروتاجوراس (لا أستطيع أن أعلم إذا كانت الآلهة موجودة أو غير موجودة ولا هيئتها ما هي، لأن أمورًا كثيرة تحول بيني وبين هذه المعرفة: غموض الموضوع وقصر العمر) ، هذه المقولة لا تكشف فقط عن عجز الإنسان عن إدراك الماهيات الفوقية أو حتى عن وجودها أو عدميتها، لكنها تفصح عن حقيقة أن قانون المطلق والثابت لا يمكن التسليم به أو الإقرا له بالوجود الاتم وأن كل شيء قابل للتغيير حسب جوهرية الموضوع ودور العامل الزمني الذي يتراكم دوما فيغير بالمفاهيم والصور والنتائج تبعا لكل التجربة البشرية ككل وليس كفعل فردي منفصل. هنا ندرك أهمية الخيارات العقلية المجردة التي تستقي من قراءاتها للواقع وأستنباطها القوانين الفاعلة فيه (التغيير ومن ثم الواقع) أكتشافها لحاجتنا للتغيير، ولحاجتنا أن نستعمل هذا التغيير كطريق أخر متسع لمزيدا من التجارب المؤسسة أو التي أسسنا عليها فهمنا وإدراكنا أن كل تجديد فيها بمثابة تغيير قادم، قد لا أكون مجانبا للحقيقة إذا قلت أن الدين في كل الوجوه والنتائج إذا ما أخذ على أنه فكر مجرد من اليقينيات العبادية أو ما تسمى واجبات الإيمان به، هو فلسفة أخرى أو تطبيق لفلسفة العمل التغييري في الواقع، بينما الفكر الفسلفي بكل أتجاهته وتوجهاته هو تأسيس للمشروع التغييري بأدوات عملية مرسومة بعقلانية المنطق، ومستوحيا الصورة التي يجب أن يكون عليها الواقع لا الصورة التي هو عليها الإنسان في الواقع. قد يعترض البعض عن الربط بين الفلسفة والدين في موضوعية التغيير وقد يكون محقا في ذلك بأعتبار أن ما يفرق بينهما أكبر من الذي يجمع، ولكن من خلال تصنيفنا للفلسفة بأعتبارها أرقى طرق المعرفة ومساراتها نجد أن الدين أيضا بعيدا عن القداسة التي تصورها خلقا لها من قبل الإنسان، هو أيضا معرفة متعالية ومنهج تعقلي له أهدافه وتجاربه العقلية، فالدين من هذا الجانب يشارك الفلسفة هدفها العام المتضمن تغيير شروط الوجود نحو الأفضل، والسير نحو الكمال البشري الذي وضعته الفلسفة في مقدم الغايات الجعلية لها ولوجودها الذاتي، وأيضا أن كلا المعرفتين الفلسفية والدينية تنتهجان العقل كأداة للتغيير بما يطرحانه من مقولات كلية، إلا أن الدين ومن واقع التجربة سريع الفساد في منظومة العمل البشري لما يحمله من مطاطية الفكرة وقابليتها للإشباع الفكري والعملي عكس الفلسفة التي تتزمت دوما بمقولاتها الصارمة، وإن كان ذلك لم يمنع جوانب منها أن تفسد هي الأخرى بتدخل الذائقة المعرفية للبشر وهيمنته على الفهمية والإدراكية الموضوعية والذاتيه لها، لكنها أيضا أحتمت ببعض جوانبها من العبث البشري بأن الفلسفة لها قابلية التنقيح والتصحيح الجدلي عكس الدين الذي يبنى مقولاته على الثوابت في غالب الأحيان.
الهوامش *1(فلسفة التغير والثبات في الفلسفات الطبيعية قبل سقراط هي محور التفكير الفلسفي منذ بدء التفلسف: ولا تزال لها أهمية عند الفلاسفة والعلماء حتى اليوم. فقد بدأ الفلاسفة قبل سقراط بالرد على التساؤلات التي طرحها عن أصل الكون وتغير ظواهر الطبيعة من حولهم ذلك بالملاحظة والتأمل العقلي المجرد غير التجريبي فقد اتجه هذا الاهتمام ليعالج المشكلات التي تتعلق بطبيعة العالم وتغير ظواهر وثباته) أحمد أمين، زكي نجيب محمود، قصة الفلسفة اليونانية، ط 7، 1970 م، السلسلة الفلسفية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة. *2 ثيوكاريس كيسيدس، سقراط، نقله إلى العربية طلال السهيل، 1987 م، مكتبة الفارابي.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تعريف المقدس أستدلالا بالقصد المعنوي النصي
-
أنا رجل بلا .......
-
النداء الأخير لسباق الأحلام
-
في وحدة عالم المقدس الغيبي
-
رأي في وحدة الأسماء و(الصفات) ومكانتها في الفكرة الدينية
-
الشخصية العراقية بين التمرد والثورة مشروع بأنتظار القدر
-
إلى صديقي ذياب أل غلام وكل رفاقه وأصدقائه ومحبيه ومن شاركه ا
...
-
دور التنمية الأقتصادية و المال في بناء مجتمع إنساني
-
تحالفات جديدة أم إعادة انتاج التحالف القديم
-
الدين بين طبيعة العقل ووظيفة النقل طريقان للإدراك أم نتيجة و
...
-
في فهم الغيبي والحضوري
-
وحدة الجماهير المدنية والديمقراطية هي الطريق الأوحد لبناء دو
...
-
حقية المحمدية كما نقرأها في سلسلة دين الإسلام
-
الموقف المعرفي من حقيقة وجود الفروع في الدين
-
الأختلاف الفكري والفلسفي في مفهوم الوعي الفردي وعلاقته بالوع
...
-
هل لعب الفكر الديني دورا في التحولات الوجودية في عالم الإنسا
...
-
مفهوم أولي الأمر وجدل الأشتقاق اللغوي
-
المعيارية القياسية للتفريق بين منطق المحكم وشبهة المتشابه
-
تفريع اصول الدين أم تأصيل المتفرعات الجزئية ج2
-
تفريع اصول الدين أم تأصيل المتفرعات الجزئية ج1
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|