كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 1457 - 2006 / 2 / 10 - 10:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عند قراءة دساتير الدول الأوروبية المتقدمة ذات النظم المدنية والديمقراطية سنجد فيها جملة من المواد الدستورية ذات الأهمية الفائقة في فهم العلاقة بين الفرد والمجتمع من جهة, وبين الدولة أو السلطة الحاكمة, وبين الدين والدولة, وبين الدولة والإعلام ... الخ. وهي كلها نصوص حديثة بالقياس إلى وجود الإنسان على الأرض وعمر الحضارة البشرية, إذ أنها بدأت تفرض نفسها تدريجاً مع نتائج الثورة الفرنسية وعملية التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر. ففي الوقت الذي يتمتع الفرد في هذه الدول بكامل حريته وحقوقه المدنية وحقوق الإنسان, رغم ما يحصل فيها أحياناً من تجاوزات من جانب الحكومات المختلفة أو الشركات والأفراد, لا يحق للحكومة بأي حال التدخل في شؤون وحرية الفرد وحقه في سلوك الدرب الذي يريد السير فيه, شريطة أن لا يؤثر على حرية الآخر أو يلحق ضرراً بحرية المجتمع. كما أن الفصل بين الدين والدولة هو الآخر شرط أساسي في الدول الأوروبية الغربية على نحو خاص وعموم الدول الأوروبية, إضافة إلى تمتع الإعلام والعاملين فيه بحرية التعبير عن وجهات نظرهم ونشر ما يشاءون دون أي تدخل من جانب الحكومة وأجهزتها المختلفة في ذلك ولا حتى الرقابة عليه.
ولكن الحرية في هذه البلدان مرتبطة بقوانين تحكم جميع تلك العلاقات وغيرها, بما في ذلك حماية الملكية الخاصة والأموال المنقولة وغير المنقولة للدولة ...الخ.
وإذا كان هذا الموقف صحيحاً في أوروبا, فصحيح أيضاً وجود قوانين تمنع وتحاسب على التجاوز الذي يمكن أن يحصل من الفرد أو الحكومة على فرد آخر أو على المجتمع أو على الحكومة في آن واحد. والقوانين المصاغة على أساس الدستور الديمقراطي تحمي الأفراد والأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية من أي تجاوز فظ أو إساءة من أي كان. والقول الفصل في مثل هذه الأمور لا يتم عبر الحكومة, بل عبر جهاز القضاء, أي عبر القانون, وهو سلطة مستقلة تماماً عن السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. وبالتالي فمن يتجاوز على فرد أو دين أو عائلة أو جماعة أو حكومة بما يتعارض مع الدستور والقوانين المرعية, فأن من حق هؤلاء جميعاً, أي الذين تم التجاوز عليهم, إقامة الدعوى القضائية لمحاسبة كل المتهمين بلتجاوز وإنزال العقوبة التي يستحقونها بهم وفق القانون, إن صح تجاوزهم. وفي هذا كله ليس للحكومة أي يدٍ بكل ما يجري, إلا إذا كان التجاوز قد جرى ضدها أو منها على الآخرين, عندها ستحاسب أمام القضاء.
إلا أن هذه الحقيقة الحضارية الواضحة والبسيطة جداً غير مفهومة وربما غير معروفة أيضاً إلى الغالبية العظمى من البشر في الكثير من أنحاء العالم العربي والإسلامي, لأن شعوبنا تعيش في ظل علاقات من نوع آخر تقوم على تدخل الحكومة في كل الأمور وعلى تشابك في العلاقة بين الدين والدولة وإلى عدم احترام الإنسان, وبكلمة واحدة إلى سيادة الاستبداد وغياب الحرية والديمقراطية عن حياة الإنسان. وما يحصل في الدول الأوروبية وأجهزة الإعلام تفترض حكومات الدول العربية والإسلامية وغالبية الناس فيها وكأن حكومات هذه الدول هي المسؤولة, وأنهم جميعاً غير مستعدين للقبول بفكرة الدول المحايدة في كل ذلك.
لقد حصل تجاوز فظ مرفوض من أحد الرسامين الكاريكاتيريين وإحدى الصحف في الدانمرك حين تم نشر مجموعة من الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة إلى نبي المسلمين محمد بن عبد الله في إحدى الصحف الدانمركية الأكثر انتشاراً في أيلول/سبتمبر 2005, وهي بالتالي إساءة لمشاعر المسلمات والمسلمين في أنحاء العالم. ومثل هذا العمل المسيء يخضع لقاعدتين قانونيتين, وهما:
القاعدة القانونية الأولى: إن الرسام والصحيفة لهما الحق في رسم ونشر ما يريدان, التزاماً بحرية الفرد وحرية النشر.
القاعدة القانونية الثانية: من نشر عملاً مسيئاً لشخص أو جماعة أو دين أو أثار النعرات القومية والدينية والطائفية يحاسب وفق الدستور والقوانين المرعية.
وإزاء الحالة التي وقعت في الدانمرك فنحن أمام الأمور الواضحة والسليمة التالية:
1. ليس من حق وواجب الحكومة الدانمركية الرقابة على الصحف أو منعها من نشر أي شيء تريد نشره, والحكومة بالتالي لم تكن تعرف ما حصل قبل وقوع النشر.
2. لا يحق للحكومة الدانمركية الاعتذار عن فعل لم تمارسه هي ولا رقابة لها عليه.
3. وليس من حقها إقامة الدعوى على الصحيفة والرسام, فهما قد مارسا حرية النشر.
ولكن:
4. من حق المواطنة المسلمة أو المسلم أو الهيئة الدينية المسلمة في الدانمرك أو في أي مكان في العالم أو هيئات إسلامية أو حكومات إقامة الدعوى القضائية على الرسام وعلى الصحيفة لنشرهما الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمد والمسيئة في الوقت نفسه لمشاعر المسلمين والمحرضة ضد الإسلام.
5. وليست هناك من جهة قادرة على منع الدعوى, بل كان القضاء الدانمركي سيقبل هذه الدعوى ويقاضي المتهمين بالإساءة إلى الإسلام والمسلمين وفق القوانين المرعية.
هذا هو الطريق العملي والشرعي والوحيد المناسب لمواجهة مثل هذه الحالة التي ربما لم تكن الأولى ولا الأخيرة من جهة, كما أن هناك نشر مضاد للأديان الأخرى في العالم الإسلامي والعربي الذي يستوجب المعالجة القانونية أيضاً وليس غير ذلك.
وما حصل في العالم العربي والإسلامي غير طبيعي وغير مناسب وخارج عن كل الأطر الطبيعية والدستورية, فهو تجاوز فظ وعدواني على الكنائس والسفارات والقنصليات والأفراد ودور الأحياء السكنية المسيحية وإساءة مباشرة وغير مباشرة للدين الإسلامي وللمسلمات والمسلمين في سائر أرجاء العالم ويعبر عن الفوضى والعنف الذي ما يزال سائداً في عالمنا المتخلف.
إن ما حصل ليس سليماً وغير طبيعي أيضاً وفي وقت تزداد حمى إشاعة أجواء صراع الحضارات بين أتباع الأديان المختلفة. وعلينا أن نشير بصراحة ووضوح إلى المستفيدين من هذه المظاهرات غير السلمية وحرق القنصليات وقتل الناس واختطافهم وقتياً, والخاسرين من كل ذلك على المدى القريب والبعيد:
إن المستفيدين من ذلك هم:
• أتباع القاعدة من أنصار بن لادن والظواهري والزرقاوي وأنصار الإسلام الكرد والعرب ومن لف لفهم من السلفيين المتعطشين لدماء غير المسلمين والمسلمين أيضاً, لأن هذه التنظيمات ستجد الأجواء مناسبة لعملها ولتجنيد قوى جاهلة ومتعصبة جديدة لتزجها في عملياتها الانتحارية الجبانة ضد شعب بلدانها والشعوب الأخرى, تماماً كما يجري في العراق وأفغانستان وغيرها من بلدان العالمم.
• القوى الظلامية الحاكمة في إيران وخاصة أتباع رئيس الجمهورية الراهن والحرس الثوري الذي يمرغ جباه الناس الطيبين والديمقراطيين في إيران بالتراب. وعلينا أن لا ننسى دور السفارات والقنصليات الإيرانية وأتباع حكام إيران في تأجيج مشاعر المسلمات والمسلمين في ذلك لتستفيد منه في صراعها الراهن حول تخصيب اليورانيوم للأغراض العسكرية. كما علينا أن نتذكر بأن هذه مشكلة الرسوم قد وقعت في أيلول/ سبتمبر 2005, ولكنها لم تؤجج إلا بعد أن بدأ الرئيس الإيراني حملته ضد إسرائيل ومحاولة إنكار وجود الهولوكوست أثناء الدولة النازية في ألمانيا.
• إنها بعض الحكومات في الدول العربي والإسلامية التي تريد أن تستفيد من ذلك لمواجهة أزماتها الداخلية بتعبئة الناس حولها والإساءة لمن يطالبها بممارسة مبادئ الحرية والديمقراطية في بلدانها, ومنها سوريا وليبيا وغيرهما.
• إنها بعض القوى الإسلامية السياسية المتطرفة التي تمارس العنف للوصول إلى السلطة, إذ وجدت الحملة تقدم لها فرصة سانحة لإشاعة الفوضى والتخريب والقتل لإظهار الحالة وكأن حكومات بلدانها عاجزة عن حفظ النظام.
وأن الخاسر من هذه العمليات :
• شعوب الدول العربية والإسلامي والأجواء المدنية والديمقراطية والحياة الدستورية المنشودة فيها.
• العلاقات الطبيعية بين شعوب العالم والحوار السلمي والموضوعي والهادئ بين أتباع الحضارات والأديان والمذاهب والأفكار المختلفة.
• العلاقات الاقتصادية والتجارية في ما بين البلدان المختلفة.
• العلاقات الإنسانية الضرورية للمسلمات والمسلمين القاطنين في الدول الأوروبية الذين يسعون إلى إقامة علاقات مواطنة واندماج سليم مع الحفاظ على الهوية القومية والدينية والمذهبية للناس جميعاً.
تقع على عاتق جميع الناس الساعين إلى إقامة مجتمع مدني ديمقراطي حر في بلداننا النضال بعناد وحيوية عالية من أجل:
1. الفصل بين الدين والدولة لحماية الدين من الدولة ومن الإساءة من أي طرف جاءت.
2. رفض التجاوز على الأديان والمذاهب إذ أنها تلحق الضرر بالعلاقات بين البشر, والطلب بإقامة دعوى قضائية لمن يساهم بالإساءة للأنبياء, شريطة أن لا يعتبر أي نقد للأديان والمذاهب إساءة لهذه الأديان والمذاهب, إذ أن هناك حدوداً واضحة ومعقولة بين الإساءة والنقد. ويبقى الحكم في كل ذلك القانون الديمقراطي.
3. رفض وإدانة الأعمال العدوانية التي وقعت في بعض الدول العربية والإسلامية ضد كنائس المسيحيين وضد القنصليات الأجنبية أو ضد الأوروبيين والمطالبة بمحاسبة المشاركين فيها.
4. مطالبة الجماعات والأفراد من المسلمات والمسلمين في أوروبا الابتعاد عن كل ما يمكن أن يسيء للعلاقات بين البشر من مختلف الأديان والمذاهب في الدول الأوروبية حيث تعيش جالية مسلمة كبيرة فيها. فالعداء بين الناس لا يخدم أحداً بل هو إساءة للجميع وللمجتمع الحضاري المدني المتقدم.
أملي أن يساهم كل منا من موقعه من أجل إرساء الأسس الحضارية في العلاقة في ما بين البشر وفي ما بين أتباع مختلف الأديان والمذاهب والعقائد والأفكار والاتجاهات السياسية. وأملي أن يسود التصرف العقلاني والإنساني والسلمي في مواجهة الأحداث في العالم العربي والإسلامي وفي سائر أرجاء العالم.
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟