|
فلسطين وإسرائيل: اختيار شراكة مفروضة!
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1457 - 2006 / 2 / 10 - 10:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ليس لدى إسرائيل سياسة متسقة وواقعية. لديها قوة مادية وعقلانية أداتية. وجمع هاتين لا ينجب سياسة منسجمة. ليس لدى إسرائيل سياسة تجمع بين الاتساق الذاتي والملاءمة لأنها غارقة في إنكار الواقع: وجود شعب آخر، مكون من أربعة ملايين نسمة، يعيش مع اليهود في "قلب الأجزاء المقدسة الصغيرة" الخاصة بنا، على قول يهود آرغال في "معاريف" في 30/1/2005، معلقا على فوز "حماس" الانتخابي. وهذا واقع لا يقبل التقليص أو الحذف أو الالتفاف عليه، حتى لو لم نتذكر ما يقارب العدد ذاته من الفلسطينيين في الشتات. وهو واقع مؤرق للإسرائيليين، يستحيل عليهم تجاهله، ولا يستطيعون التصرف بمقتضاه في الوقت نفسه. "من منا لا يرغب في أن يستيقظ في الصباح ليجد أن الفلسطينيين قد اختفوا، ولم يعد هناك وجود لهم من النهر إلى البحر؟"، يقول الصحفي الإسرائيلي ذاته متحسرا. لكنه يجد نفسه مضطر إلى التسليم بأن "الأحلام شيء والواقع شيء آخر"! هذا الواقع هو الموضوع الأول لكل سياسة إسرائيلية ممكنة. وليس الموضوع الأول هذا ممتنعا على السياسة من الجهة الإسرائيلية، إلا لأن "الأسطورة المؤسسة" لقيام دولة اليهود في فلسطين تقوم على فكرة "أرض إسرائيل"، التي تعني أن فلسطين كانت دوما وطنا لليهود، حين كان اليهود لا يتعدون 3% من سكانها، وحين أضحوا 60% من سكان فلسطين الانتدابية اليوم. ينسجم مع هذه الرؤية إبادة الفلسطينيين أو تهجيرهم جميعا، وليس التفاوض أو الوصول إلى حلول وسط معهم. ورغم أن الإسرائيليين اضطروا إلى التفاوض مع الفلسطينيين منذ 13 عاما، فإن "الأسطورة المؤسسة" لم تخضع لمراجعة، ولا يبدو أنها يمكن أن تخضع لمراجعة. قد تنقضي عقود أليمة وباهظة الكلفة قبل أن تغدو مراجعة كهذه ممكنة. ومحاولة الجمع بين الأمرين، بين تفاوض يقوم على النسبية بالضرورة وبين أسطورة مطلقة جرت دوما على حساب التفاوض. لقد كان المفاوضات شكلية على الدوام، فيما كانت السياسة الفعلية تمزج بين فرط العنف والشكوى من العدوانية العربية. إسرائيل، مثل حليفها الأميركي، لا تقبل تفاوضا إلا كمناسبة للإملاء وفرض الأمر الواقع. (هذا خلافا لانطباع ليس قليل الشيوع في أوساط محدثة "التحرر من الأوهام" في البلاد العربية، الفضل فيه للخطب الرعناء، القومية والوطنية والإسلامية، التي تعطي انطباعا دائما بأننا في حالة حرب. لقد وقعنا في شر دعايتنا). تنعكس استحالة "اختفاء" الفلسطينيين وتعذر القبول بهم في صيغة إسرائيلية طريفة لشقاء الوعي، الذي لطالما ظنناه خاصية عربية لا شريك لنا فيها. يقول الصحفي الإسرائيلي نفسه بنبرة أسية: "سوف نتحاور معهم، فلقد سمحنا للبرغوثي [مروان] الظهور في التلفزيون من السجن، وسوف نطلقه، وما نرفضه اليوم نقبل به في الغد. هل تعرفون السبب؟ لان هذه هي الطريقة التي نتصرف بها. ليست لدينا خطوط حمر ولا كرامة وطنية ولا صبر". نبرة نعرفها جيدا! كان ولا يزال يمكن لمثل هذا السطر الأخير أن يجري على لسان أو قلم كتاب وصحفيين ونشطاء فلسطينيين وعربا لا حصر لعددهم. بالجملة، ثمة تناقض مستعص على الحل في مشروع الدولة اليهودية بين شرعيتها التأسيسية الذاتية وبين قيم الشرعية الدولية الحديثة. استعصاء هذا التناقض ينذر بمستقبل من العنف والدم وعدم الاستقرار. هل لدى الفلسطينيين سياسة تجمع بين الاتساق والواقعية، أعني يمكن المثابرة عليها وتستجيب للواقع وللأهداف الوطنية الفلسطينية معا؟ هذا السؤال سيزداد إلحاحا بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية الأخيرة. يجمع ميثاق حماس بين ثلاثة مبادئ: "دولة واحدة من النهر إلى البحر، تطبيق الشريعة، والمقاومة الجهادية المسلحة". يتضح للوهلة الأولى أننا في عالم دلالي غريب على عالم السياسة الحديثة، وعلى قيم الشرعية الدولية المبنية على المساواة بين الشعوب والأمم وعلى حق تقرير المصير (أقول قيم الشرعية وليس واقعها الفعلي). وهو بعد عالم الدلالات المطلقة البريئة من النسبية، إن في تصورها لأهدافها أو لوسائل تحقيقها أو لمرجعيتها العقيدية. قد يمكن لثالوث ميثاق "حماس" أن يفيد في خوض انتخابات وفي كسبها، لكن ملاءمته لقيادة دولة أو إدارة سلطة أمر مجادل فيه إلى أبعد حد. وما أبداه قادة "حماس" بعد فوزهم من اعتدال في تصريحاتهم لا يمس في شيء عقيدة الميثاق المؤسسة للحركة والبانية لشرعيتها. والراجح أن "حماس" لا تستطيع، حتى لو أرادت، أن تراجع عقيدتها أو تطابق بين تكوينها الفكري وبين النظام القانوني الحديث. ثمة تناقضات ومشكلات في الفكر الإسلامي وفي علاقته مع الحداثة لا يستطيع قادة الحركات الإسلامية ولا المفكرون الإسلاميون الحاليون تسويتها أو العثور على حلول لها. ولعل عقودا ستنقضي قبل أن يمكن لتلك المشكلات والتناقضات أن تجد طريقها إلى الحل. هذا، بالمناسبة، ما يحتاج إلى تبينه مثقفون وسياسيون حداثيون. وقد يكونون مدعوين إلى المساهمة الفكرية والسياسية في طرح هذه المصاعب وتقليب الفكر في سبل معالجتها. يزيد من صعوبة المراجعة هذه أن الشعب الفلسطيني حيال إسرائيل وحلفائها من جهة، والإسلام فكرا وسياسة في عالم اليوم من جهة أخرى، في وضع غير مؤات لتدشين مبادرات تأسيسية كبرى. "حركة المقاومة الإسلامية" الفلسطينية تعاني وطأة تلاقي الوضعين. تستفيد إسرائيل من قوتها العسكرية الهائلة (تستطيع تدمير المدن العربية جميعا بقنابلها النووية)، ومن انفتاح ممتاز على الحداثة ومشاركة فيها، ومن محاباة دولية فاضحة، تستفيد منها جميعا لتغطي استحالة ممارسة سياسة واقعية من قبلها. لكنها تعوض عن ذلك بدرجة عالية من الاتساق الذاتي، أي موافقة سياستها لأهدافها. بالمقابل تفتقر فلسطين إلى القوة والحظوة الدولية، وعلاقتها مع الحداثة، الفكرية والسياسية والحقوقية، مرتبكة ومتعثرة. هي ايضا تعوض عن ذلك بمطابقة السياسة والعقيدة، وبالجهاد الاستشهادي. هذه المطابقة هي التي صعدت بـ"حماس" إلى سدة السلطة في فلسطين. حين يكون الشرط التاريخي حربيا، يصعد المحاربون الأكثر انسجاما. سياسة "حماس" الجهادية متسقة ذاتيا، لكنها غير واقعية، إذ لا أمل في "أن نستيقظ ذات صباح لنجد أن الإسرائيليين قد اختفوا، ولم يعد لهم وجود من النهر إلى البحر"، حتى لو كنا لا نحلم بغير ذلك. كانت "فتح" جربت سياسة واقعية، فافتقرت سياستها إلى الاتساق، وتعذر على الفلسطينيين، قبل غيرهم، تبين المبادئ الموجهة لها، ما أنعش الفوضى ونشر الفساد وزاد السلطة ضعفا على ضعف.. وقاد، في النهاية، إلى الخسارة أمام المتسقين غير الواقعيين. المعضلة الفلسطينية الإسرائيلية أن السياسة الواقعية غير مرغوبة والسياسة المرغوبة غير واقعية. ولا مخرج لأحد الطرفين من المعضلة دون أن يخرج معه الآخر، دون الخروج ايضا من العقائد إلى الوقائع، ومن الحق الواحد المطلق إلى مبدأ الحقين. هل من سياسة للشراكة في غير الموت؟ من أخص خصائص السياسة أنه لا يمكن استنتاج أنها غير ممكنة من أي تحليل للأوضاع الواقعية. هذا، ربما، لأنها غير ممكنة على الدوام!
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صورتان لمفهوم الأمن الوطني السوري: مقاربة نقدية
-
سوريا ولبنان: تاريخ هويتين أم هوية تاريخين؟
-
تخطيط لمراحل العلاقة العربية الغربية بعد الحرب العالمية الثا
...
-
الامبريالية، الشمولية، السلفية؛ وماذا بعد؟
-
غياث حبّاب
-
عام سوري قصير ومليء!
-
ريجيم، نظام، سلطة: تعليق لغوي سياسي
-
عودة الولايات المتحدة عن «الثورية الطفولية» إلى سياسة أكثر و
...
-
في أزمة الدكتاتوريات ومستقبل العمل الديمقراطي
-
مغزى سياسة -شارع ضد شارع-
-
الوطنية السورية: طرح المشكلة
-
من أجل جبهة ثقافية ضد الموت
-
من الداخل غير ممكن، ومن الخارج غير ديمقراطي؛ كيف التغيير إذن
...
-
السياسة الأميركية في -الشرق الأوسط-: من الاستقرار إلى الفوضى
...
-
في ذكرى خالد العظم: رائد القومية الاقتصادية في سوريا
-
الثالث المأوساوي أو فرص التركيب الوطني الديمقراطي
-
تمرين في التربية الشمولية
-
نزع مدنية المجتمعات يقوي التطرف والطائفية
-
بيان في نزع القداسة عن السياسة
-
-قيام، جلوس، سكوت-: مسرح الهوية وتجديد القبلية الثقافية
المزيد.....
-
حلبجة: ماذا نعرف عن المحافظة العراقية رقم 19؟
-
كلمة الرفيق حسن أومريبط، في مناقشة تقرير المهمة الاستطلاعية
...
-
ترامب لإيران.. صفقة سياسية أو ضربة عسكرية
-
كيف نفهم ماكرون الحائر؟
-
إسرائيل تعلن إحباط محاولة -تهريب- أسلحة من مصر
-
مبعوث ترامب يضع -خيارا واحدا- أمام إيران.. ما هو؟
-
أول رد فعل -ميداني- على احتجاجات جنود إسرائيليين لوقف الحرب
...
-
مقاتلة إسرائيلية تسقط قنبلة قرب -كيبوتس- على حدود غزة.. والج
...
-
باريس تُعلن طرد 12 موظفًا من الطاقم الدبلوماسي والقنصلي الجز
...
-
عامان من الحرب في السودان... تقلبات كثيرة والثابت الوحيد هو
...
المزيد.....
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
/ محمد علي مقلد
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
/ محمد علي مقلد
-
النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان
/ زياد الزبيدي
المزيد.....
|