|
طه باقر ...
سعيد عدنان
كاتب
(Saeed Adnan)
الحوار المتمدن-العدد: 5604 - 2017 / 8 / 8 - 18:13
المحور:
الادب والفن
1912 - 1984 لاشكّ في أنّ طه باقر مَعْلَم من معالم الثقافة في العراق الحديث ؛ نشأ ودرج على مقربة من آثار بابل ، فرأى فيها تاريخ البلاد وعمقها ، ورجع معه يقرأ الطين ، ويستعيد حضارة قديمة . أخذ العلم على أصوله إذ درس التاريخ القديم والآثار ، وتخرّج بهما في جامعة شيكاغو ، وعاد إلى البلد في سنة 1938 ، فعمل ، أوّل ما عمل ، خبيراً في مديرية الآثار ، ثمّ كُلّف بتدريس التاريخ القديم في دار المعلّمين العالية منذ سنة 1940 ، غير أنّه لم ينقطع عن مزاولة التنقيب ، ولم يبرح مديرية الآثار . وإذا كان التنقيب عن الآثار ودراستها مقصوراً على البعثات الأجنبيّة ، أو يكاد يكون ؛ فلقد صار للعراق ، بطه باقر وبزميله فؤاد سفر ، عمل مرموق في ميدان التنقيب ، ودراسة المواقع الأثريّة . وقد سار التدريس لديه مقروناً بالتنقيب ؛ لا ينفصل أحدهما عن الآخر ؛ إذ كلاهما يفضي إلى صاحبه ويمدّه بما يحييه ، ويقيمه على الوجه الصحيح . وتهيّأت الأسباب ، به وبصحبه ، لتأسيس قسم الآثار فأسسه في سنة 1951 ، وأقامه على ركن متين ؛ يجمع بين المعرفة النظريّة ومزاولة التنقيب . وكان لا بدّ من مجلّة رصينة تتولّى نشر نتائج التنقيب ، والأبحاثَ الأثريّة ؛ فأنشأ ، مع آخرين ، مجلّة " سومر " وهيّأ لها الأسباب ، وجعل منها ، مع صحبه ، على الغاية من الجودة والإتقان حتّى صارت تُطلب في جامعات أوربا وأمريكا ، ويرجع إليها الباحثون ، وهم على ثقة ممّا يُنشر فيها . وعلت منزلته ، وشهدت منه ميادين المعرفة رجلاً رصين العلم ، متين الخلق ؛ مهارةُ فأسه في التنقيب لا تقلّ عن مهارة قلمه في الكتابة ! وحين تكاملت عنده مادّة وافية عن حضارتي وادي الرافدين ، ووادي النيل ؛ وضع كتابه : " مقدّمة في تاريخ الحضارات القديمة "؛ على نهج من التمحيص ، وحسن الاستيعاب ، وسلاسة البيان ؛ حتّى عاد مرجعاً لا يستغني عنه باحث . ثمّ رأى أنّه لم يستوفِ الحديث عن الأدب العراقيّ القديم حين وضع مقدّمة في تاريخ الحضارات القديمة ، وأنّ الأمر يقتضي كتاباً برأسه ؛ فألّف : " مقدّمة في أدب العراق القديم " ؛وأداره على الشعر والنثر مبيّناً ما تضمّنا من أفكار ، وما جريا عليه من صياغة . ثمّ وضع كتاباً ردّ فيه جملة من الألفاظ التي عُدت أعجميّة إلى أصولها في لغات العراق القديمة ؛ فهيّأ بذلك ما يصحّح ما وقع فيه أصحاب المعجمات العربيّة من وهم ؛ ذلك أنّهم لم يكن لهم علم باللغات القديمة . ولم يُغفل العلوم والمعارف القديمة ؛ فوضع : " موجز في تاريخ العلوم والمعارف " ؛ مستوعباً فيه تاريخها في العالم القديم كلّه حتّى بلغ الحضارة العربيّة الإسلاميّة فوقف عند الأعلام فيها . وسمة هذه الكتب كلّها ؛ إحكام التأليف ، ووثاقته ، وسلاسة الكتابة ؛ إذ لا غموض ، ولا التواء ، ولا حشو . ومع التأليف زاول الترجمة ؛ فترجم ملحمة كلكامش وجعلها ميسّرة بالعربيّة ، قريبة من قرّائها ؛ يقرؤها القارئ فلا يشكو عسراً ، ولا يجد ثقلا . وترجم : " بحث في التاريخ " لتوينبي ، وساهم في ترجمة : " تاريخ العلم " لجورج سارتون . وكلّ ترجمته بريئة من عيوب الترجمة ؛ تؤدّي النصّ المترجَم على أحسن ما يكون الأداء . ووراء ذلك كلّه منهج محكم سديد البناء ؛ قال عنه أستاذنا علي جواد الطاهر في مقدّمة كتابه : " منهج البحث الأدبي " وهو يتحدّث عن نشوء الوعي بالمنهج : " وإذ حان العصر وحلّ درس التاريخ القديم ؛ طلع علينا الأستاذ طه باقر فأكبرناه منذ الدرس الأوّل ؛ وبدأ الأستاذ يمهّد لدرس التاريخ محاولاً أن ينقل إلينا أطرافاً من مادة شغلت الغرب فوعاها : هل التاريخ علم ؟ وتحدّث لنا في ذلك غير قليل عارضاً طبيعة المسألة ، مبيّناً آراء المعارضين والمؤيدين حتّى انتهى إلى أنّ التاريخ علم بالطريقة التي يتّبعها في بحثه وتحرّيه الحقائق ." على أنّه ، مع كلّ عنايته بالتاريخ القديم والقيام على المواقع الأثريّة ، لم يُغفل الزمن الحاضر ، ولم ينصرف عن مشكلاته ، وقد كان انشغاله بقضية العدالة الاجتماعيّة لا يقلّ عن انشغاله بالتاريخ القديم . وإذ قامت الجمهوريّة ، وزال النظام الملكي كان في صميم العاملين في العهد الجديد إيماناً منه بما يحمل من أمل ، وما يمدّ من أفق . غير أنّ الجمهوريّة التي كانت معقد أمله سرعان ما سقطت ، وتسلّط الأذى على كلّ من ناصرها ، فلحقه ما لحق غيره من سجن وفصل وتشريد . وعمل في ليبيا من سنة 1965 إلى سنة 1970 ، وهو على نهجه في الصدق والإخلاص وتحرّي الحقائق . ثمّ رجع ليستأنف عمله في جامعة بغداد ، في قسم الآثار بكلّية الآداب ويخرّج أجيالاً جديدة أخرى ليستمرّ بهم البحث الآثاري . لكنّ جسده يضعف قبل الأوان ، وتدركه علل لا يدفعها طبّ ، ولا ينفع فيها علاج ؛ حتّى بدا شاحباً واهن الخطو وهو في أبواب الستين ! لكنّه لا يني يكتب ، وينشر ، ويوجّه طلبته ! وكنتُ ذات يوم من سنة 1984 عند أستاذنا الطاهر في بيته ، وكان مجرى الحديث في الأدب ، والثقافة ، وما يتّصل بهما ؛ وإذا بالهاتف يرنّ ، وإذا بالمتحدّث يُلقي إلى الطاهر خبراً يفزع منه ، ويشحب وجهه ، وتعلوه سحابة حزن ، وتفتر الكلمات على لسانه ؛ قال بعد أن أعاد سمّاعة الهاتف إلى موضعها : لقد مات طه باقر ، أوا أسفا ...!
#سعيد_عدنان (هاشتاغ)
Saeed_Adnan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محمد يونس والنهج الواقعي ...
-
علي جواد الطاهر .. في ذكراه العشرين
-
عبد الواحد لؤلؤة ...
-
أمين نخلة في أمر عجب ...
-
علي عباس علوان في ذكراه
-
زكي نجيب محمود في أفق الترجمة
-
الشعر الجديد
-
الكرد في شعر الجواهري
-
عدنان العوادي
-
حياة شرارة
-
لويس عوض .. أيضا
-
علي جواد الطاهر
-
إبراهيم الوائلي
-
الجرجاني .. الشاعر أو ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
-
لويس عوض الناقد
-
أحمد أمين
-
محمد حسين الأعرجي
-
عبد العزيز المقالح
-
عبد الرزاق محيي الدين
-
زكي نجيب محمود... الناقد
المزيد.....
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
-
نقل الموناليزا لمكان آخر.. متحف اللوفر في حالة حرجة
-
الموسم السادس: قيامة عثمان الحلقة 178 باللغة العربية على ترد
...
-
حبس فنانة مصرية 3 سنوات
-
راسل كرو.. لماذا انطفأ نجم صاحب الأوسكار وأصبح يعيش في الماض
...
-
أحداث مليئة بالإثارة والتشويق في الحلقة 178 من مسلسل المؤسس
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|