أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - السيد عبد الله سالم - الجلباب الأزرق - قصة قصيرة















المزيد.....

الجلباب الأزرق - قصة قصيرة


السيد عبد الله سالم

الحوار المتمدن-العدد: 5603 - 2017 / 8 / 7 - 04:16
المحور: الادب والفن
    


حمل عبد المقصود الجوال على كتفهِ الأيسر، وفي يده اليمنى الفأس والجاروف والمقطف، ودخل بين أشجار البرتقال، يجرجرُ قدميهِ من ثقلِ ما يحملهُ، وصوت الأغصانِ وهي تتهشم بارتطامها بما يحملهُ على كتفهِ، وتحت قدميهِ، قد أفزع صراصير الحقلِ، فسكتت عن نباحها المتواصل، وضوء القمرِ يأتي من بعيد، يتسلق غصون الأشجارِ وأوراقها، ويُلقي على الأرض ظلالاً، مختلفة الأشكال والأحجام، ومن ضوء القمرِ القليلِ المتسرب من بين الغصون، على الأرض، بالكاد يستطيعُ عبد المقصود أن يتبين موقعَ خطوته بين سطور الأشجارِ، وارتطم أحد الفروعِ بجبهتهِ العريضةِ السمراء، وأراد أن يتحسسها؛ لكنه لم يستطيع، ففرك جبينهُ بكتفهِ الأيمن، وأحسَّ كأن قطرات من العرق قد التصقت بجلبابهِ الأزرق الباهت، واختلطت ببقايا من العرق القديم، فجعلت كتفهُ الأيمن يلمع تحت ضوء القمر النافذِ إلى كتف عبد المقصود.

كانت خطواته القوية تدهس الفروع الجافة على الأرض، كما تدهس الحشائش الطرية، فتئن تحت وقع خطواتهِ الثقيلة، وهو لا يُبالي بالأشواك التي طالتْ طرف جلبابه، وراحت تخدش ساقهُ الجافة من تحت الجلباب، وعيونهُ على طرفِ الفروع التي تقابلهُ، خشيةَ أن تخترق عينيه، ولهيب الغضبِ المشتعل في نظراتهِ، قد أطفأه لسعة الأشواك في قدميهِ، وبقيةٌ منهُ تظهرُ كلما وقع ضوء القمرِ على عينيه، فبدت كذئب مجروحٍ يبحث في الظلمة عن سبب الجرح، وموضعه علَّهُ يستطيع بالانتقام أن يزيح عن قلبهِ ألم الجرح.

تخطَّى عبد المقصود أكثر من نصف الحقل، وأصبح أمام كوخٍ صغيرٍ من البوصِ، فتنهد، وألقى بالفأس والجاروف على الأرضِ، و إلى جوارهما المقطف الجلد، وأنزل الجوال من على كتفهِ بحذرٍ وهدوء، وعدل وضعه على الأرضِ بكلتا يديه بحرصٍ شديد، ودخل إلى الكوخ وخلع جلبابه، وعلَّقها على أحد فروع البوص التي تبرز في الجدار الداخلي للكوخ، فسقطت على الأرض، فانثنى ليلتقطها، فلمح في ضوء القمر، دميةً من القشِّ جنب الجلباب، تناولها وترك الجلباب مكانه على الأرض، فانهمرت من عينيه الدموع التي حبسها طويلاً، وبلَّلت الدمية التي وضعها فوق عينيه.

كانت الدمية تَخصُّ زاهية الشقيقة الصغرى والوحيدة لعبد المقصود، فما إن رأت الدنيا حتى ماتَ والدها، وتركها طفلة رضيعة في حجر أخيها الذي لم يكن قد بلغ العاشرة من عمره، فوضعها عبد المقصود في حجر جلبابهِ يهزهزها لتكفَّ عن البكاء، وأمها ما زالت أمام الفرن البلدي، تحمل الرغيف فوق كفيَّها، وتهزهزهُ ليرق، وتُلقي بهِ على صفيحة الفرن، فيستوي وتحت نار الفرن ينضجُ، ويأخذ لونهُ الأبيض المنقوش بغمَّازاتٍ حمراء وسوداء، من أثر اللهيب المتصاعد من جوف الفرن، وكلما طالت غيبةُ الأمِّ زاد وجد عبد المقصود على أختهِ الصغيرة، فيحملها بين ذراعيهِ، ويدور بها حول البيت، ويُحادثها عن عودة الأم القريبة، أو يدخل للبيت ناحية دولاب اللبنِ، ويُخرجُ منهُ قصعةَ اللبن الحليبِ، ويحاولُ قدرَ استطاعتهِ، أن يسكب اللبن في فمها الصغير، بكوبٍ من النحاسِ أعدهُ لذلك، وبالتكرار أصبح عبد المقصود ماهرًا في سقاية زاهية بهذا الكوب النحاسي الصغير.

بعد أن تشرق الشمس وتلفحُ بحرارتها وجه عبد المقصود، تكون والدتهُ قد عادت، وهي تحمل الخبزَ و اللبن الذي جلبتهُ من حلب الماشية الموجودة في حظيرة البيت الخلفية، فتحمل عنهُ زاهية، وتتركهُ لكي يحمل ما أعدتهُ لهُ من طعام، في صرتهِ الخضراء، ويسحب الماشية من الحظيرة، ويمضي بها إلى الأرض التي تركها لهُ والدهُ ليفلحها، وهو في هذه السن الصغيرة.

أبعد عبد المقصود الدمية من على عينيهِ، وكأنهُ عاد من رحلةٍ عبر الزمنِ، ليواجهَ الأمر الواقع بكل مرارتهِ، فترك جلبابهُ على الأرض، وخرج خارج الكوخ، واتجه إلى خلف الكوخ، واختار المنطقة الممهدة خلف الكوخِ، ونزل عليها بالفأسِ، يحفر فيها الحفرة التي يريدها، وكلما تكوَّم الترابُ حولهُ، نزل إلى الحفرة، بالجاروفِ والمقطفِ يرفعُ الترابَ ويبعدهُ عن موقعِ الحفرِ، وحين يتسلل التعبُ إلى ذراعيهِ، يقف لحظةً يلتقطُ أنفاسهُ، ويقيس بعينيهِ سعةَ الحفرةِ وعمقها، فإذا ما أدرك أن الوقت يمضي بهِ، وأنَّ ما حفرهُ لا يفي بالغرضِ، وأمامه الكثير من العمل ليتم ما يريد، نزل بالفأس على الأرضِ يُجرِّفها من بطانتها، ويكشفُ بطنها الرطبِ، الممزوج بجذور الأشجار والعشب، ويُلقي بهِ وراء ظهرهِ، بعنفٍ وبلا نظام، فيسقط التراب على الجوال النائم بجوارهِ، فيترك الفأس بلا وعيٍ، ويمضي يمسح ما قد وقع على الجوال من ترابٍ، ثم ينتصبُ واقفًا كعودٍ من الكافورِ، ينظر للجوالِ من أمامهِ، وقد تغيَّر لونهُ من أثر ما وقع عليهِ من التراب الطري، فصار الجوال بلون الجلباب الذي كانت تلبسهُ زاهية، ليلة العيد الماضي.

قبل العيد بأيَّامٍ قليلة، ركب عبد المقصود ركوبتهُ، وأردف خلفهُ زاهية، واتجها إلى البندرِ ليشتريا ما يلزمهما من ملابس وأشياء أخرى، استعدادًا للعيدِ، كانت زاهية خلفهُ، قد خرطها خرَّاطُ البناتِ؛ فصارت وهي في الرابعة عشر من عمرها، كاملة الأنوثة، بيضاء كاللبن الحليب، ضاحكة السنِّ كأنها لم تعرف طعم الحزن، ولا خبرت قسوة الأيام، فأخوها عبد المقصود كان دائمًا حولها، يدفع عنها، ولا يجعلها تشعر بفقدان الوالد ولا غيابهِ عنها، ولا يرد لها طلبًا مهما كانَ، فنضجت على يديهِ كابنتهِ، وصارت على قاب قوسين أو أدنى من الزواج، ويتمُّ عبد المقصود رسالتهُ معها، ويُسلِّمها لبيت عريسها زهرةً بدون أشواك.

وقبل أن يخرج عبد المقصود من البلدة، مرَّ على بيت عمه وزعق:
- سمير، سمير!.

فخرج ابن عمه من باب الدارِ، وسلَّمَ عليهِ، ووقف بجواره يُحاورهُ، وعينهُ على زاهية، وقد حلت في عينيهِ، وكأنه يراها للمرَّةِ الأولى، وبعد قليلٍ سأله عبد المقصود:
- هل تريد شيئًا، أحضرهُ لكم معي من البندر.

فأجابهُ، سمير وهو يضحك:
- نعم أريد فستًانًا زاهيَ الألوانِ، من أجل زاهية.

وغمز بعينيهِ لهما، فضحكوا جميعًا، وتركوهُ واقفًا على الباب، وقد تحرَّكت مشاعره ناحية، ابنة عمه زاهية، فظلَّ واقفًا مكانهُ، حتى خرجت إليهِ أمه وسألته عن الأمر، فأخبرها خبرَ عبد المقصود، فنظرت ناحية عبد المقصود، وقالت لولدها:
- ربنا يجعل زاهية من نصيبك يا سمير.

عاد عبد المقصود من البندر، وقد أحضر لنفسهِ جلبابًا أزرق اللون، من الجوخ الناعم، وأحضر جلباب زاهية أبيضَ اللونِ، وقد طبع عليهِ أزهارًا زاهيةَ اللونِ، وبعض الأشياء الأخرى من لوازم العيدِ.

بدأت الحفرة التي يحفرها عبد المقصود، تكبر وتتسعُ، فنزل إليها عبد المقصود، يرفعُ التراب عنها، حتى صارت بطول كتفيهِ، فخرج منها، وأبعد التراب من حولها، واتجه ناحية الجوال يرفعهُ، بحرصٍ ويحاولُ أن ينزل بهِ إلى بطن الحفرة، فانزلقت قدمه، من أثر التراب الناعم على حواف الحفرة، فسقط على ظهره، وانزلق الجوال من بين يديهِ إلى الحفرة، وارتطم ارتطامًا شديدًا بجدار الحفرةِ، فارتعد عبد المقصود، وراح يبكي بكاءً حارًا، وخرج صوتهُ المكتوم من بين أنيابهِ، كصوت النار حين تسرحُ في الحطب الجاف، فغطّى صوتهُ على أصوات صرصور الحقلِ الذي ظنَّ أنه الوحيد في المكان، فأطلق صريره، وكأنه صفارة إنذارٍ في وقت الخطر، وانزلق عبد المقصود خلف الجوالِ، يحضنهُ ويقبلهُ، وكأنما يعتذر للجوال عن ارتطامهِ، بجدار الحفرة، وقد تسارع نبضهُ، ونفرت العروق في بدنهِ كلهِ، وانساب العرق من تحت إبطيهِ، فلوَّن الجلباب الأزرق الباهت، بعروقٍ من العرق المالحِ، شديدة الزرقة.

لمح تحت ضوء القمر عبد المقصود قطراتٍ من الدماء، فوق الجوال وعلى جدار الحفرة، وأحسَّ بألمٍ شديدٍ في ساقهِ اليمنى، فتحسَّسها بيدهِ الجافةِ وأثر الرماد عليها، فوجد جرحًا في ساقهِ، والدم منه ينزفُ بغزارة، فحاول الخروج من الحفرة، فعثرت يدهُ في جذر شجرةٍ قد نتأ من جدار الحفرة، حاول أب يبعدهُ، بلا فائدة، فتركهُ وتسلَّق جدار الحفرة، ونام على ظهره، مكدودًا يواجهُ بعينيه وجه القمر، وقد حمل في عينيه صورة زاهية، ليلة العيد وقد ارتدت جلبابها الجديد، وجلست في وسط الدار، أمام أمها يتحدثان في شئون البيت.

دخل عليهما عبد المقصود، وهو في نشوة الشبابِ، وقالَ لأمهِ:
- أنا ذاهب للغيط، أُحضرُ الماشية قبل المغرب.

نظرت نحوه، زاهية؛ وقالت:
- لا تتأخر.

مضى عبد المقصود خارجًا من الدارِ، وقبل أن يصلَ إلى نهاية البيت، عاد مُسرعًا ناحية أمه، ومال برقبتهِ إلى داخل الدار، وقال:
- لا تنسوا خبزَ بيت عمي قبل المغرب.

قامت زاهية وحملت الخبزَ فوق رأسها، واتجهت ناحية بيت عمها، وطرقت البابَ فخرج إليها سمير، فبادر قائلاً:
- تعالي يا زاهية، ادخلي.

دخلت زاهية على استحياء إلى بيت عمها، وأنزلت الخبزَ من فوق رأسها، ووقف سميرُ أمامها، يساعدها على نزول الخبز عن رأسها، فمال بجسدهِ على جسدها، كي تصل يداهُ إلى ما فوق رأس زاهية، فسرت رعشة في جسدهِ، ولمحت زاهية في عينيهِ، نظرة الرغبة، وحنين العشق، فارتجف صدرها وانتفخ، فطال نهدها صدر سمير، فثنت ركبتيها، حتى أصبح الخبز في متناول يد سمير، فأنزلهُ من على رأسها، وقال لها:
- أنت جميلة جدًا يا زاهية!.

ابتعدت زاهية عنهُ، وهمست وعيناها ناحية الأرض:
- زوجة عمِّي فين؟.
- حالاً، ستأتي، أرجوكِ، اجلسي معي قليلاً.

جلست زاهية بعيدًا عن سمير، ورغبتها في أن تجلس معهُ وتحادثهُ تناديها وتزعقُ في فؤادها، وخوفها من نظرات سمير قد ملك كيانها، وأخذ يدعوها أن تخرج من هنا، وأن تعود إلى دارها على الفور.

لم يترك سمير أي فرصة لزاهية، كي تتخذ قرارًا صائبًا، فقد انحدر إلى جوارها، وضمَّها إلى صدرهِ، وراح يقبلها بشغفٍ وجنون، فلم تستطع مقاومتهُ، وسلَّمت نفسها لهُ، وكأنها مسلوبة الإرادة والوعي.

دخل عبد المقصود إلى داخل الكوخ، وجذب من ركن الكوخ قطعةً من القماشِ، ولفها حول ساقهِ المجروح، وعاد إلى الحفرة، وحمل الجاروف وراح يهدل التراب فوق الجوال، وهو يشعر بالألم يتسرب داخل أعضاءه، وهو يلفُّ حول الحفرة، يردمها بانتظامٍ من كل جوانبها، حتى استوت بالأرض، فراح يدمدمُ التراب من فوقها، بكفَّيهِ، ودموعه الغزيرة لا يستطيع أن يحبسها، فنزلت على التراب ترويه، والرجفةُ بدأت تتسرب من أطرافهِ إلى جسدهِ كلهِ، وسمع صوت أمه من خلفهِ تُناديهِ:
- عبد المقصود، عبد المقصود، أنت نمت؟.

خرج لها عبد المقصود من فوق فراشه، وهو مازال غارقًا في نومهِ:
- خير يا أم عبد المقصود، فيه إيه؟.

جلست أمه على الأرض ووضعت رأسها بين كفيها، وراحت تنهنه بصوتٍ مرتفعٍ، وتلطم على رأسها، فانخطف قلب عبد المقصود، ونظر ناحية زاهية، فوجدها مكوَّمةً على الأرض بلا حراكٍ وأثر معركة شديدة على ملابسها الممزقة، فترنح عبد المقصود لمنظرها وجلس على الأرض أمام أمه، ونظر في عينيها متسائلاً، فقالت في حشرجة وحسرة:
- زاهية حامل يا عبد المقصود!.

لم يصدق عبد المقصود ما قالته أمه، وظل على حالهِ أمامها، لا يتحرك، وهو لا يدري ماذا يقولُ أو ماذا يفعل؟.

وظل طول الليل على جلستهِ تلك، لا يتحرك، وعيناهُ تتنقلان بين أمه، وأختهِ زاهية، حتى طلع النهار، وسمع طرقً شديدًا على الباب، فقام متثاقلاً، وفتح البابَ، فوجد زوجة عمه على الباب، وقبل أن يفيق من همومه، قالت له:
- ألحقني يا عبد المقصود، سمير بن عمك لمَّ هدومه من امبارح وساب البلد ومشي.

ودعها عبد المقصود من على الباب، وهو يقول:
- حاضر يا خالة، الصبح أشوفه راح فين!.

وعاد إلى وسط الدار فوجد زاهية قد اعتدلت في جلستها، وشقَّت جلبابها، وراحت تلطم خديها، وتقول لأخيها:
- اقتلني يا عبد المقصود، اقتلني يا عبد المقصود!.

لم يفهم عبد المقصود ما حدث، ولكن أمه، أشارت له، وقالت:
- اللي نال عرضك، ابن عمك سمير، وهرب النذل!.

لم يعد عبد المقصود قادرًا على التفكير، فقد انهارت الدنيا كلها على رأسه دفعة واحدة، فترك أمه وزاهية في وسط الدار، وصعد إلى السطوح وحده، وهو يكاد أن يجن، لا يصدق ما حدث، وللمرة الأولى يشعر بحاجته إلى والده، ومن حين لآخر يرتفع صوته دون وعيٍ منه، ويسمع نفسهُ تقول:
- زاهية حامل؟.
- سمير ابن عمي هرب!.
- ليتك لم تمت يا أبي!.

في أول الليل وعندما، غرقت البلدة كلها في بحر الظلام، سمع عبد المقصود والدته من خلفه، تُناديه:
- تعالى يا عبد المقصود، خلاص، يا لا انزل خلاص!.

التفت عبد المقصود إلى والدته، وهو لا يفهم معنى ما قالته، فقال لها:
- خلاص إيه؟.

نزل عبد المقصود من السطوح إلى وسط الدار، فوجد زاهية على الأرض جثة هامدة، وقد كسا وجهها لون أزرق شديد الزرقة، ومن فمها خرجت كمية كبيرة من اللعاب واندلقت إلى جوارها على الأرض، وبقايا هذه الرغوة ما زالت حول فمها وعينيها، وأنفها، فاقترب منها يتحسس ذراعها، فوجده قد تصلَّب تصلبًا شديدًا، كأنه قطعة من الخشب الجاف، هزها فلم تتحرك، ولمح إلى جوارها زجاجة بيضاء، قد رسم عليها جمجمة إنسان، قد أحضرها منذ عدة أيام من الجمعية الزراعية، ليستخدمها في رش القطن، فنظر في عيني أمه، وسألها:
- ماذا حدث يا أمي، مالها زاهية؟.
- زاهية ماتت، قوم ادفنها الليلة دي قبل ما حد يدرى.

نظر عبد المقصود حوله، وهو في حالة ذهول، لا يعرف عما يبحث، وعيناهُ، تلف المكان كله، وتستقر على وجه زاهية الأزرق، كلون جلبابه الذي يلبسهُ، فقامت والدتهُ، ودخلت إلى بطن الدار وعادت ومعها جوال علف كبير، وضعته على الأرض بجوار جثة زاهية، وقالت:
- ساعدني يا عبد المقصود.

اقترب عبد المقصود من جثة أخته، وهو يرتجف، وقدماه لا تحملانه، وأصبح وجهه في وجه أمه، فلمح في عينيها، بقايا دموع قد جفَّت وتحجرت في زوايا عينيها، وتحت أنفها، وصورة زاهية قد تصلَّبت في بؤبؤ عينيها، وهي ترفع زجاجة الرش على فمها، وتشرب منها.

رفع عبد المقصود جسد أختهِ المتصلب، وفتحت والدته الجوال، واستقر جسدها فيه، وأغلقتهُ الأم بإحكامٍ وقالت لعبد المقصود:
- ادفنها زي ما هي كده في الجوال.

حمل عبد المقصود الجوال على كتفهِ الأيسر، وفي يده اليمنى الفأس والجاروف والمقطف، وخرج متسللاً من باب الدار، حتى دخل إلى طريق المشروع خارج البلدة، وهو غائب عن وعيهِ، ودموع عينيه جرت كشلالٍ من الماء الساخنِ، وجسده قد انتابته رعشة لا يدري مصدرها، ولا كنهها.

لازمت الرعشة جسد عبد المقصود حتى انتهى من مراسم الدفن، وترك الفأس والجاروف والمقطف، في داخل الكوخ، وألقى نظرة أخيرة على التراب الرطبِ، ورفع رأسه جهة القمر، وعاد أدراجهُ إلى البلدة، في خطواتٍ منتظمة، وكأنه في طابورٍ عسكري، حتى دخل البلدة، مع أول ضوءٍ للنهار، وعرج مباشرة على بيت عمه، وطرق على بابه طرقاتٍ خفيفة، فخرجت له زوجة عمه وكأنها كانت تنتظره خلف الباب، وقد احتقن وجهها وتورَّمت عيناها من البكاء وقلة النوم، وبدا أمامها عبد المقصود في حالة مزرية، وقد تلطَّخ جلبابه الأزرق الباهت، بالتراب والعرق والطين، فظهر وكأنه أوردة زرقاء منتفخة في جسد مريض، ولم ينتظر عبد المقصود من زوجة عمه أي كلامٍ، بل قال هو:
- أنا ماشي يا خالة، ومش راجع إلا وسمير على كتفي.



#السيد_عبد_الله_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحلة تغريد على أطراف أصابعها - قصيدة نثر
- بلل الرمش بالدمع
- جادك الغيث
- فقد حدث
- دائرة الدوائر
- اللغة الحية أنت
- يوم الوصل
- ليلة أن جاءني القمر
- غابة ينسون
- التكعيبة
- فقه اللحظة
- فجر الحقيقة
- رجال على الممر - قصة قصيرة
- المهجور
- دقت الأوتار
- يا أم - شعر
- الوردة والسلطان
- أشياء على الهامش - قصة قصيرة
- اليوم عشب
- سقتني الوصل - شعر


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - السيد عبد الله سالم - الجلباب الأزرق - قصة قصيرة