أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمزة الحسن - يوميات قلعة الموتى 13















المزيد.....



يوميات قلعة الموتى 13


حمزة الحسن

الحوار المتمدن-العدد: 406 - 2003 / 2 / 23 - 04:16
المحور: الادب والفن
    


 


روائي عراقي

الإهداء:
(إلى ذكرى أولئك الجنود الشجعان الذين فضلوا الموت في قلعة سجن الحارثية، أو بيت الموتى، على الحرب، أو أولئك الذين بقوا، مصادفة، على قيد الحياة، أهدي هذه اليوميات.
كي لا ننسى.
كي لا نغفر.
كي لا تتكرر المأساة).
           ***

كان مساء بغداد ماطرا في تشرين الأول سنة 86 حين قادني الصديق الصحفي رعد اليوسف في تلك الرحلة الجهنمية إلى قلعة الموتى، سجن الحارثية، بسيارته، بعد بحث طويل عن ملابس عسكرية، لأني فقدت ملابسي خلال فترة الهروب من الحرب في فنادق وبيوت عدة وعشت بثياب مدنية وبهوية صحفية تنتهي صلاحيتها بعد أربع سنوات وهي لا تعتبر صحيحة في مثل هذه الظروف لكن جنود ورجال المفارز والأجهزة لا يعرفون التعامل مع صاحبها بعد، ولا يخطر ببالهم أن صحفيا في هذه الأيام يمكن أن يكون هاربا من الحرب.

 كان رعد يردد طوال فترة بحثنا عن ملابس عسكرية متبرما باكيا:
ـ هل نرسلك إلى لموت بلا ثياب؟
 ويضيف: هل هناك جندي في العالم يريد الذهاب إلى السجن ثم الحرب والموت وليس عنده ملابسه العسكرية؟ ماذا تملك بحق السماء؟!

حصلنا على ثياب قديمه قدمها لنا الصحفي  مؤيد الحديثي الذي كنت اسميه زهرة بغداد الأليفة، لأن مؤيد، ابن حي المنصور، كان يسمع ويبلع كل أنواع الكلام والشتائم والسباب عن الحرب ومشعلي الحرب ويتظاهر بأنه لا يسمع. كان يقول في مثل هذه المواقف:
ـ أنا لا اسمع!

 وكان بذلك يجهز دفاعه القادم فيما لو حصلت كبسة أو كارثة أو التقط حائط أصم وجهة نظر أو جملة أو ضحكة أو نكتة.
تبرع مؤيد ببذلة عسكرية قديمة عثر عليها من ثياب المخزن برائحة قبو ثقيلة لكنها كانت كافية لزفاف هذا الجنرال الذاهب إلى قلعة الموتى أو المنفى كنابيلون عراقي  هزم في معركة الفرار من الحرب وعاد نادما وخائبا لأنه لم يجد مأوى أو بيتا أو فندقا أو حفرة تضمه بعد أن أُغلقت كل الأبواب في وجوه الفارين.

وفي الطريق إلى سجن الحارثية، كان المسجل يرسل موسيقى حالمة صادرة من شريط تسجيل لأن الراديو في تلك الأيام كان مشحونا بأغاني الحرب. قلت ضاحكا لرعد:
ـ  أن هذا الوداع لا يليق برجل ذاهب إلى السجن أو الحرب أو الموت برجله، بل هذا وداع عاشق أو مسافر إلى بحيرات أو جبال ربيعية أو هو في الطريق إلى مشرب مطل على شارع أبي نؤاس أو النهر.

كان رعد غارقا في حزن ثقيل وكدر لم افهمه أول الأمر لأني لم أكن أعرف شيئا عن سجن الحارثية، وكنت أتصوره محطة سجنية عادية لترحيل الجنود إلى المحاكم أو الثكنات بعد القبض عليهم أو تسليم أنفسهم نادمين كما يقول التقليد العسكري المعروف.

لكني، في اللحظة التي دخلت فيها السجن، عرفت معنى ذلك الذهول العميق الذي يشبه النحيب الذي كان يكسو وجهه. كان رعد يقودني نحو قلعة موتى حقيقية بأمل أن أخرج منها سالما. وكان يراهن على معجزة تقع وأتحمل هذا السجن الرهيب بعد فشل كل محاولات الهرب.  

 تلك السيارة كانت تتهادى إذن نحو بيت العنكبوت بهدوء وعلى أنغام موسيقى حالمة تصلح لموعد عشق أو رحلة على شواطئ، وكنت غافلا غفلة كاملة عن كل ما سيقع بعد ذلك.

إنه نسيج عنكبوت آخر!
                                   ****

قالت لي سيدة نرويجية في اتصال هاتفي بعد أعوام من ذلك وتحديدا سنة 97، وفي بلدة أورستا الحالية أن شخصا اتصل بها من رومانيا يسأل عني وأعطاها رقم هاتف البنسيون، وحين اتصلتُ به ظهر أنه رعد اليوسف!
ـ لا أستطيع أن أنسى تلك الليلة أبدا. كنت أعرف بالضبط ما سيحصل لك ولكني كنت مضطرا لذلك بدل الموت في الشوارع أو تجد نفسك يوما أمام مفرزة رمي .

وكان قرارا قد صدر في تلك الفترة يجيز لكل شخص قتل أي جندي هارب يرفض العودة بدون محاكمة أو سؤال. صرنا كلابا مطلوب القبض علينا أحياء وموتى.

قلت:
ـ دعك من ذلك الآن. ماذا تفعل في بوخارست؟
ـ في الطريق إلى اسكندنافيا، تهريبا.
ـ هل هناك شيء يمكن أن افعله؟
ـ أبدا. غدا سنسافر وسأتصل بك من الدنمارك عند الوصول. لقد تحققت أحداث رواية" ليلة لشبونة" للروائي الألماني العظيم أريك مارياك. أين تركتها؟
 ـ ضاعت مثل كل الأشياء. مثل العمر.

  وكان رعد قد أعارني تلك الرواية وفقدتها في غرفة قذرة في الحيدر خانة كنت قد استأجرتها كصحفي لكني هربت منها بعد كثرة الأسئلة  من نزيل مصري كان يقول لي دائما أنه يعجب كيف يمكن لصحفي أن يسكن في قبو قذر مثل هذا؟.

 ولم تنجح كل أكاذيبي ولا أكاذيب الصديق الرائع الصحفي والمترجم مالك الناصري الموجود في ايطاليا حاليا في إقناعه بأني أعيش تجربة فقر وتشرد لكتابة رواية عنها فيما بعد. ومن الطريف أنه لم يصدق هذه الكذبة، لكني أنا صدقتها وذكرتها في ثلاث روايات فيما بعد!
                            ***  
عند بوابة سجن الحارثية توقفت سيارة رعد في موقف خاص ونفخ صدره على طريقة ديك مسؤول كما لو أنه سيطالب بترشيحي لمركز هام أو لعقد صفقة مقاولات أو لشراء هذا المبنى نفسه. وكان رعد يجيد هذه المناسبات بشكل دقيق ويعرف كل دهاليز هذه المؤسسات ورموزها.

 مع توقف السيارة توقفت الموسيقى.
وتوقف الزمن.
ومع الموسيقى أيضا توقف عبثي بزجاجة خمر تتحرك تحت قدمي مرمية وجاهزة كإعلان من رعد وضعه تحت قدمي عن ليلة طيبة سيعيشها هو، وليلة تشبه الكابوس سأعيشها في هذا المدفن الأرضي.


                                  ***
  قال لي في الهاتف من رومانيا:
ـ صدقني حين عدت بعد تسليمك، عدت باكيا طوال الطريق. وكان المطر على زجاج السيارة الأمامي قد جعلني أشعر بكآبة مضاعفة. لكني الآن أقول مع نفسي أن ذلك السجن هو الذي قادك إلى الهرب خارج العراق من الخطوط الأمامية. ماذا كنت ستفعل في المقاهي بدون مال ولا أمان مع المخابيل مالك الناصري أو عادل زينب، طبيبك الخاص؟.

كان عادل زينب وهو من سكنة حي الأكراد في مدينة الثورة، طالبا في كلية العلوم وكان يحمل في جيبه نماذج للوصفات الطبية، ويستطيع تقليد أسلوب كتابة الأطباء في الوصفة، لذلك كان عونا لنا نحن مرضى الخوف من الكبسة، في الحبوب المهدئة. مرة حملت الوصفة إلى صيدلية قريبة من منزل عادل زينب، فسألني الصيدلي:
 ـ من كتب لك هذه الوصفة.؟
ـ الطبيب طبعا.

قلتها واثقا حاسما الأمر.

لكنه فاجأني وهو يقول بهدوء أعصاب كاد أن يفتك بي وهو يطلب مني أن أستدير إلى الخلف، أي إلى الشارع.
قال:
ـ أليس ذاك الشخص الواقف على الرصيف هو طبيبك؟!

 وكان يشير بالضبط نحو عادل زينب.

أعطاني ما أريد ورجاني ألا أطلب ذلك منه مرة أخرى وأن جميع هذه المهدئات نفدت منه وعلى يد الطبيب نفسه الذي لا يوصي مرضاه ولو بعلبة مقويات للتغطية. وشكرته على هذه الملاحظة الأخيرة والقيمة.

حين قلت لعادل:
ـ على الأقل ضع حبة  فيتامين أو شراب سعال.
كان رده ضاحكا:
ـ هو وجهك ينفع معه حبة فيتامين!

 لم يحن الوقت بعد للحديث عن هذه الشخصية الأسطورية المدهشة.
                               ***

 حين نزلت من السيارة شعرت أني أمشي على أرض كوكب آخر. لقد تحدث رعد مع شخص بلطف وكان يهز رأسه. وخمنت أنه يوصيه بي. قال لي وهو يودعني كما لو كانت تلك آخر مرة نلتقي فيها وقد كان هذا ما حدث فعلا:

ـ قلت لهم أنك جئت بنفسك. وأوصيته بك خيرا. لن تظل هنا طويلا. سيتم إرسالك إلى الخطوط الأمامية فورا !

قال الجملة الأخيرة كما لو كان يعلن خبرا سارا. إن رعد اليوسف يعرف أن الخطوط الأمامية أرحم من هذا الجحيم أو مأوى الموتى. ودعني عند مدفن الأموات وداع حي لميت يدخل القبر، وغادر بسيارته، في حين قادني عسكري بثياب زيتونية إلى مثوى الأموات أو العالم السفلي أو القبر، حيث لا أحد يسمع  صراخ الموتى الأحياء.
  أي قدر لعين هذا: من سجن في سنوات السلام، إلى الخطوط الأمامية في سنوات الحرب، ثم إلى منفى.
ثم إلى أين وقد وصلنا الحدود الأخيرة في المكان والذل والألم والصبر؟.

 ظلت عبارة رعد التي يقول فيها" قلت لهم أنك جئت بنفسك" تتردد في أعماقي كحجر بارد. إن هذه العبارة هي الترجمة الحرفية لعبارة: جاء إلى حتفه بظلفه !
                                        
                               ***

 إن ليلة الدخول إلى قلعة سجن الحارثية تشبه ليلة الدخول إلى القبر إلى حد ما حسب الوصف الديني. وكنت قد قرأت من قبل كتاب الشيخ علي الطهطاوي ( أهوال جهنم) وتذكرت مقدمة الشيخ حديوي حلاوة للكتاب التي يقول فيها:

   ( اشترى ميت من ميت بيتا له أربعة أركان:
  الركن الأول: الموت. الثاني: القبر. الثالث: الحساب. الرابع: إما إلى الجنة أو إلى النار.).
وعرفت أني  اشتريت النار في الحارثية. 
وهذه ساعة الحساب.

رحت اردد قول ابن عباس عن النبي:
( اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات).

ورددت الآية الكريمة:
( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين).

 لكننا" فرارية" ولسنا كافرين؟.

  عندما فُتحت البوابة الرئيسة ورأيت حشد السجناء( يدخلون في القلعة أفواجا!) ورأيت أشكالهم وعريهم وجحوظ أعينهم وصراخهم ونوم بعضهم على الأرض، وكيف أنهم يقضون الحاجة في زاوية السجن أمام أكثر من ألف سجين، عرفت أن رعد اليوسف قادني إلى جهنم حقيقية رغم كل مقاصده النبيلة.
أليس هناك مثل يقول إن طريق جهنم مفروش بالزهور؟.

أنا الآن في قلعة الموتى.
سجن الحارثية الرهيب.
وداعا عالم الأحياء.
والتاريخ هو 16/ تشرين أول/ 86.  


                               ***

                      (مفهوم أني اكره حكم البرجوازية
                      حكم الشرطة ورجال الدين
                     على أني أحتقر جدا، الإنسان الذي لا يكرهه
                     مثلي،
                     بملء قواه).
                                                          بول ايلوار.

ولا يدري بول ايلوار أن في عالمنا العراقي ليس من لا يكره رجال الشرطة فحسب، بل من صار يستنجد بشرطة كان يعدهم حتى البارحة حراس الرأسمالية وحماة دولة اللصوص الطبقيين. بل من صار يحلم أن يكون شرطيا يأمر ويسجن ويعتقل بدون قضاء أو قانون كما لو كنا نعيش تحت رحمته !
أسوأ من ذلك أن بعض رجال شرطة أوروبا أكثر فهما للحرية منه !

صرخ شخص ما كما يحدث في العالم الآخر عند دخولي:
ـ صادوه!
 صادوه!
 صادوه!

  فتكونت أغنية سريعة ضجت بها القاعة المغطاة بالصفيح كعلبة معدة للموت، كلها من البداية إلى النهاية. وعلمت من بعد إن هذا هو النشيد الوطني لهذا المدفن عند دخول زبون جديد يكون قد قبض عليه في الغالب، فهم لا يتصورون أن مغفلا جاء على أنغام الموسيقى وتحت قدمه زجاجة خمر وفي سيارة خاصة إلى هذا المكان بقدميه.
كنت أعيد خلق حكاية طرفة بن العبد الذي حمل رسالة موته إلى أمير البحرين بنفسه.
كانت النظرة الأولى تكفي لتكوين الانطباع أن هذه الأشباح أو الهياكل البشرية أو بقايا البشر هم على وشك الموت التدريجي أو البطيء وهو موت معد ومبرمج ومجهز بطريقة ماكرة بحيث لا تترك أثرا.

 من اللحظة الأولى أيضا عندما حاولت الجلوس على عدة أشبار من الأرض الإسمنتية، زمجر في وجهي شبح أو هيكل أو وحش بشري ممسوخ وحشا، بأني يجب أن أنتظر عدة ليال أو أيام لكي أجلس في مكان مجرد جلوس. أما النوم بغطاء أو سرير فهو وهم لا وجود له هنا على الإطلاق، فلا وجود لأسرة أو أغطية أبدا، وعلى السجين أن يكافح بكل طاقته أو ما تبقى منها أو يحشد كامل إرادته وقواه الخفية من أجل البقاء حيا أو في الأقل لكي لا يجن. 

وتذكرت قول للفيلسوف الحسي برغسون حين طُلب منه أن يلخص كل فلسفته في جملة فأجاب"حشد الطاقة" وربما يكون هذا هو ما فعله ماركس في آخر لحظاته حي طلب من صديقه أنجلز الخروج من الغرفة. كان يريد حشد طاقته في مواجهة الموت معركته الأخيرة، لكنه حين عاد وجده ميتا على الكرسي.

 النوم على الأرض، بلا أسرة، أو أغطية.

 لكن هذا النوم لا يتحقق للسجين منذ الليلة الأولى إلا نادرا. إن عليه الانتظار عدة أيام أو ساعات كي يجد مترا يتمدد عليه بين الأقدام والأجساد الخاوية المنهكة. ورأيت الكثيرين يتساقطون بعد منتصف الليل من الإعياء واقفين.

 نصف سجناء هذه القلعة ينامون واقفين، والنصف الآخر ينامون على الأرض، وأحيانا يتم التناوب. وفي منتصف كل ليلة، وهذه واحدة من طقوس القلعة الرهيبة هذه، يدخل عدة أفراد مدججين بالعصي والكابلات وتبدأ حفلة الجلد والتعذيب العلنية والمفتوحة لمدة أكثر من ساعة بعد أن يتم إصدار الأوامر إلى السجناء بالتراجع إلى الزاوية والانحشار فيها بحيث يستطيع هؤلاء القتلة المشي على رؤوسنا دون أن يسقطوا على الأرض التي لا ترى من تراص الأجساد.

 يحشر أكثر من ألف سجين في مساحة  غرفة عادية.

وخلال المشي فوق الرؤوس تبدأ أقذر حملة تعذيب حتى ينز الدم أو بعبارة أدق يتطاير الدم من كل مكان  وبدون تعيين الشخص أو جسده.

 يطلقون على هذه الحملة الوحشية: الإزعاج الليلي.

يختارون ساعة  منتصف الليل كوقت مناسب لأن السجناء في هذه اللحظة بالذات في غاية الإنهاك والذبول والأرق والإرهاق. وبعدها ينسحبون تاركين خلفهم أنينا بشريا ينبع، في صمت الجريمة، ونوم السجناء، من أعماق الأرض.
هل هو أنين رصيف الأزهار يا مالك حداد؟
 لم اسمع أنينا بشريا مثل هذا أبدا.
كانت الأرض تئن.
وكانت النجوم التي تمر عبر كوة صغيرة في الجدار تئن.  والحيطان تئن. وكانت اللغة تئن. وكان مرور القمر عبر الكوة يشكل فرحا طفوليا لبعض السجناء الذين قضى بعضهم هنا عدة أشهر ولذلك ينتظرون وصول القمر إلى فتحة الكوة بشعور من الغبطة لأنه آخر ما تبقى من رموز عالم منقرض أو يوشك.

إنه التشبث من الغرق.
إنه الخوف من الاقتلاع يدفعهم للإمساك بآخر بقايا عالمهم المتلاشي.


إنه العلامة الوحيدة على وجود عالم آخر للأحياء خلف هذا المدفن الأرضي أو بيت الموتى أو جحيم الأحياء أو مثوى الأموات/ الأحياء أو مستعمرة جهنم.

 في بعض الليالي يكون انتظار هؤلاء الوحوش لبدأ حفلة التعذيب أقسى وأمر من ساعة الجلد نفسها، لأن أي تأخير في الموعد يعني أن أحدا لن يستطيع أن ينام خوفا من مداهمة سريعة وهو أمر حدث مرات.

 حتى أن السجناء نظموا أوقاتهم أو علاقاتهم حسب قاعدة قبل وبعد نوبات الجلد. فمثلا حين يسأل أحدهم الآخر:
 ـ متى تنام؟.
ـ بعد الجلد!

 وكان القتلة يختارون أحيانا وقتا غير متوقع لزيادة العذاب. وأسوا وقت هو الفجر حين يسقط السجناء صرعى من الإعياء والجوع والعطش والنعاس والإرهاق.  

أقول بكل  طمأنينة دون الخشية في الوقوع في المبالغة وهي قضية ستكشفها يوما سجلات رسمية وأسماء وشهود، إنه من النادر أن نخرج صباحا لشرب الماء والمراحيض دون أن نعثر على جثة هامدة على الأرض.
ليست هناك أية بطولة في الأمر، بل هو بكل بساطة صراع من أجل البقاء.

أما طريقة الخروج لشرب الماء وقضاء الحاجة فهي الأخرى ضربا من العذاب. وهذا الوصف قد يكون دقيقا على الورق، لكن المعاناة والآلام على الأرض أكبر بذلك بكثير. لا تصفه أشد أنواع المبالغات.

يقف في القاعة عدد من الجلاوزة اشهرهم شخص اسمه" صباح" حاملين عصيهم أو كابلاتهم على شكل حلزون دائري بحيث يمر السجين من خلال ممر من الجلادين يقف على كل طرف اثنان بصورة متقاطعة، وعند مرور السجين يضرب من الأول، وحين يصل إلى الثاني يضرب أيضا، حتى يصل الثالث والرابع وهو في آخر رمق.  وقد يختلط دمه مع الماء الذي يشربه.

هذا قبل الوصول إلى المرحاض.
 أما عند بابه، فيتم إصدار هذه التعليمات:
ـ نحسب لكل واحد منكم لرقم عشرة، تغسل، وتبول، وتشرب ماء، وتقضي حاجتك، وتخرج قبل إكمال العد. مفهوم؟

ـ مفهوم!

 لم يحدث لي يوما أبدا طوال الـ 68  التي قضيتها في هذا المدفن أن قمت بكل هذه الأشياء وقبل العد العاشر. كنت أركز، مثل غيري، على الماء، والباقي نكمله في القاعة علنا.

ننام، ونأكل طعاما بوجبة واحدة، ورديء ولا يصل غالبا، ونحلم، ونبول  في مكان واحد.
لكن الماء هو المشكلة في قاعة غاصة وحارة ومغطاة بالصفيح.
يصبح التقاط النفس أمنية.
يصبح رؤية الشمس أو القمر أمنية.
يصبح النوم، جالسا، أمنية.
يصبح رغيف خبز حار وهما أو سرابا.
ومرة دخل حارس يحمل رغيفا يأكله،فاندفع نحوه أكثر من مئة سجين!. 

تصبح مساحة الحرية والحلم والأمل بحجم مساحة البول.
نحلم بالبول.
بقضاء الحاجة.
بأن نجلد في الموعد المقرر.
بأن تنتهي ساعة المرحاض.
بأن يخرج الوحوش من القاعة بعد التعذيب.
بأن نتخلص من القمل.
بأن ننام مرة واحدة دون أن تسحقك الأقدام.
 
( كل هذا مفهوم، أيها الزمن،
لكن أن يأتي جلادك خلفك في المنفى،
ويطالب بحصته منك،
مرة أخرى،
ويصبح هو ضحية وأنت جلادا،
فتلك هي مهزلة الوضع البشري!).
    

في زنزانة سجن" كويتة" الباكستاني سنة89، لم أجد مثل هذا الجحيم أبدا. صحيح إننا بعد غلق الزنازين نقضي الحاجة داخل علب من الصفيح، لكن الأمر يتم في جو آخر يبدو فيه سجن الحارثية كذكرى من جحيم بشري تكون أمامه ذكريات ديستوفيسكي ( ذكريات من بيت الموتى)  عبارة عن نزهة طيبة. أما السجون الإيرانية" أهواز، كهريزك، كرج" فهي، عدا عمليات غسل الدماغ وهو في الغالب لا يحتاج إلى غسل لأنه مدمّر، فهي تعد ترفا.

كثيرا ما تساءلت:
كيف يمكن لإنسان أعزل أن ينجو من كل هذه العذاب والبرامج والخطط التي تضعها دول غنية وقادرة؟.
 كيف تمكن الشاعر ناظم حكمت أن يتعايش مع القذارة في سجن " بورصة" التركي؟.
 كيف ننجو؟.
ما معنى كلمة" ينجو" إذا كانت الذاكرة تختزن كل صور تلك السجون التي دخلناها وما خرجنا منها إلى اليوم؟!
( وهذا الذي ينتهي،
 ما انتهى؟).

قد تكون الكتابة شكلا من أشكال النجاة من تلك المحرقة التي ما انتهت والتي نحلم مرة أخرى ألا تتكرر.

                                  ***

                             (من كثرة ما جانبت الوحش
                              رائحته الآن
                                   تلتصق بجلدك)
                                 عبد اللطيف اللعبي.
                                                ( شجون الدار البيضاء).                                    
                                      ***

   داخل عالم الصفيح والجنون والقتل والموت، ينمو عالم سري، وتتأسس علاقات بشرية سوية وشاذة وللجنس حصته حتى في هذه المقبرة، ومهما كلف الأمر فإن القمر يشرق من خلف النافذة الصغيرة كل يوم أحيانا، ونحن نتساقط في قلعة الموتى هذه.

 ألم تقل روزا لكمسمبوغ لكارل لبخنت في رسالة خاصة مبتهجة:
 ( رأيت عبر الزنزانة اليوم العشب ينمو،
فعرفت أن الزمن يمضي!).

 هنا أيضا وجدت مرة أخرى "قاسم" الذي سيحمل نفس الاسم في كل رواياتي وسيكون رمزا لكل العذابات والأشواق وسفر البحث عن الحرية ووجهي الآخر، بعد أن تعرفت عليه في سجن مديرية الأمن العامة في 23/ 5/79 خلال الحملة على الحركة الوطنية، مع السيد سمير الحلواني شقيق جاسم الحلواني عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، والسيد كفاح الجواهري ابن الشاعر الكبير، ومعنا كان الشاعر المعروف عريان السيد خلف الذي ألقوا به في زنزانة ضيقة بكامل ملابسه الرمادية الموحدة ( موضة الأورزديباك! )، والدكتور صلاح الحافظ، والمهندس علي شمة النعماني الموجود اليوم في الأهواز.  

 كنا محشورين في غرفة واحدة في مديرية الأمن وفي ظروف مشابهة لسجن الحارثية، لكن الأخير هو جحيم حقيقي بكل المقاييس.

نحن لا نلتقي، يا قاسم، إلا عند سجن أو مقبرة أو حرب أو منفى، حاملين صرة تحمل وجع العمر، وحفنة كسرات من الحلم، بتعبير الطاهر بن جلون، وصورة قديمة لوطن صار وليمة  اليوم، ولا وجود لنا فيه، إلا ربما عند قلعة موتى أخرى، وتحت عنوان آخر؟!
( نفس الحاكم/ نفس المعركة)!

تعانقنا قاسم وأنا في سجن الحارثية، وسألتقيه ثالثة في طهران، في مقهى نادري  مقهى النخبة الثقافية الملكية في شارع جمهوري إسلامي، ونهرب معا إلى الباكستان، كما لو أننا تعرفنا على بعضنا سابقا على متن باخرة سياحية أو في رحلة صيد  وانهالت الأسئلة متقاطعة:
ـ كيف حالك؟ أين صار سمير الحلواني؟ والدكتور صلاح حافظ :هل صحيح أعدم؟ ماذا حل بعلي شمة؟ متى خرجت؟.

بعد مرور شهر في سجن الحارثية قال لي قاسم بعد نوبة خروج صباحية للمراحيض أن قضيبه تقلص  ما يقارب سنتمترين في هذا السجن. فكرت بصمت على أن هذه هي نوبة هذيان تسبق الجنون المطبق القادم بلا شك، لأن القاعة امتلأت بأغرب مجانين الأرض.
 وأضاف جادا:
ـ في كل مرة أدخل فيها إلى السجن يتقلص قضيبي قليلا، وأعتقد أني لو بقيت في هذا البلد فسيختفي!

 قلت ضاحكا:
ـ إن عمر هذه الدولة من عمر قضيبك. إنه سيرتها الذاتية!

ضحكنا، لكن صرخة حادة أيقظتنا فجأة:
ـ جاء! جاء! جاء!

احد السجناء يصرخ عاريا. قال لنا سجين:
ـ هو يقصد موكب الرئيس!

 هذا النوع من الهلاوس والهذيان صار تقليدا يوميا مألوفا. مرة جلس أمامي شاب عاريا، وقد صار عدد كبير من السجناء بلا ملابس وعراة تماما، أو بملابس مبقعة بالقذارة المكشوفة، والقمل الذي تكاثر وصار جيوشا تزحف على راحتها، وقال لي : ـ أن الرئيس يحدق بنا الآن!

سألته:
 ـ كيف؟
أجاب بكل هدوء وثقة:
ـ عندما أذهب منك انظر إلى السقف ستجد كاميرا!

 لم أجد كاميرا، لكني في إسلام آباد قرأت سنة 89 مقالة عن وجود كاميرات سرية في سجون خاصة في بغداد تنقل مباشرة ماذا يدور فيها. فهل كان الدكتاتور يتشفى ويتلذذ؟.

 بعد لحظات انتحر جندي قوات خاصة حين تسلق جدار القاعة التي يقوم على جانبها عمود يمتد حتى السقف وخلع المصباح ووضع يده في مكانه لكي يكون موته مؤكدا من الصعقة والسقوط على أرضية السجن الاسمنتية. مات حالا رغم محاولاتنا إبعاد المصباح عنه بالأحذية.

 حوادث الانتحار تتكرر. عادة ما يبقى الميت أو المصاب حتى صباح اليوم التالي ويخرجه سجناء تحت جلد العصي. مرة شرب سجين علبة بول من العطش ومات بعد لحظات وظل في مكانه حتى الصباح. ممنوع إدخال شفرات الحلاقة كي لا يتقاتل فيها السجناء مع الحراس. قيل لي أن وجبة سجناء قبلنا أعلنوا التمرد وكسروا بوابة السجن وقتلوا عددا من الحراس وهربوا لكنهم إما قتلوا على خط الطريق العام المسمى" الخط السريع" أو ألقي القبض عليهم وأعدموا.

 أخرجونا يوما إلى ساحة عامة وجلسنا لأول مرة بعد  فراق طويل تحت الشمس من أجل فحص طبي من قبل لجنة خاصة. أكثر الحالات شيوعا هو الجنون والجرب والهزال.

 في نهاية الفحص، طلبوا منا أن ننهض. نهضنا إلا واحدا: مات تحت الشمس!

 علمت أن اسمه عبد اللطيف، لذلك رحت أردد في كل مرة أسمع فيها هذا الاسم قصيدة عبد الوهاب البياتي عن الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي الذي كان في السجن لسنوات:
 ( نحن نشقى،
 ونحن نلقى، وعبد اللطيف
في ساحة السجن ملقى).

حين أخذونا مرة إلى الحمام في سجن رقم واحد في معسكر الرشيد بعد وصية من ذلك الطبيب الذي بدا مـتأثرا ومنزعجا، لم ينهض سجين آخر من مكانه أيضا. مات تحت الماء.

أعجبته بهجة الماء ودفء المكان فقرر إلا يعود إلى السجن.
هرب إلى العتمة الدافئة.

 بعد أكثر من شهرين أو قرنين على هذا الجحيم، وفي أواخر كانون الاول، أخذونا إلى معسكر تدريب مشاة الكوت، وهناك في الفجر وجدناهم يربطون عشرين سجينا على خشبات الإعدام، وكان رجال مفزرة الإعدام وهي مفرزة خاصة، يدخنون ويتمشون بمحاذاة خشبات الموت بلامبالاة مقززة في ذاك المكان ويبدو أنهم يتحدثون في مشاكلهم الخاصة أو عن مشاريع اليوم.

 هذا واضح من المشية المتمهلة والهادئة.
ثم جاءت سيارة طويلة من مستشفى الكوت  وهي تحمل توابيتا وأغطية مشمعة وقد تم إنزال التوابيت أمام أعين الضحايا قبل إعدامهم.

كل واحد منهم رآى تابوته حيا!

كان يقف إلى جانبي ثلاثة من أصدقاء الطفولة الأحياء حتى اليوم وهم: فهد إسماعيل، وماهر حميد، وسعيد درويش الموجود في السويد الآن، عندما انهالت ذخيرة الموت على العشرين بنفسجة وفراشة وزهرة.
 ليس سوى صراخ  يرج أفقا أصما بلون الحديد.

في أول يوم خرجت فيه من مثوى الأموات أو الجحيم الأرضي، وضعت أغنية للشيخ أمام تقول:

(  عيني عليه ساعة القضا
              من غير رفاق تودعه
              عيني عليه
              يطلع أنينه للسما
              يزعق ولا من يسمعه.
              عيني عليه.
  يمكن ضحك،
              يمكن بكي،
              من لسعة النار في الحشا.
              عيني عليه.
              عيني عليه.

 لذكرى هؤلاء غنوا معي الليلة في منافيكم الباردة:

 عيني عليه ساعة القضا
من غير رفاقه تودعه،
عيني عليه...
.......
.....
   ـــــــــــ
من سلسلة مقالات" محنة البطريق". 

 

  



#حمزة_الحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السجن والطبقة والجنس 12
- الشاعر حسين حبش ـ غرق في الورد
- ذهنية المخبأ السري .11
- الشاعرة جنيفر ميدن ـ تأملات في الوحش
- لن نركع . 10
- انطلاق وحش وقبيلة مركبة 9
- الشاعر علي رشيد ـ الحرب والطفولة
- محنة البطريق ـ نقد العقل الاختزالي 8
- محنة البطريق ـ تفكيك صورة الجلاد 7
- محنة البطريق ـ نقد العقل الجنسي 6
- محنة البطريق ـ مقتل محارب نظيف5
- محنة البطريق ـ الحريق، الحريق 4
- محنة البطريق ـ الرؤية المشوهة
- محنة البطريق ـ فوضى الادوار2
- محنة البطريق وعلامات التحول 1
- الكتابة والاحتيال
- بغداد لن تتزوج الجنرال
- الروائي محسن الرملي ـ الحرب والفتيت المبعثر
- الروائي صدام حسين ـ مسخ الكائنات
- الروائي حيدر حيدر ـ وليمة لأعشاب الظلام!


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” .. ...
- مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا ...
- وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص ...
- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...
- تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
- حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي ...
- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمزة الحسن - يوميات قلعة الموتى 13