|
رحلَ صادق الصَدوق - صادق البلادي
يحيى علوان
الحوار المتمدن-العدد: 5584 - 2017 / 7 / 18 - 04:19
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
بَعثرَني الخبَرُ – الفاجعُ .. فما زالَ يتداعى فِيَّ كالعجزِ .. بطعمِ الدهشةِ ، التي تَرفِضُ التصديق .. أقِفُ أمامَ مرآةِ الحَيْرَةِ، أَضعَفَ من كُرسيٍّ همزةٍ مُتأرجحةٍ ، لاتدري أَتجلِسُ أمْ تبقى واقفةً ..! برحيلك المفاجيء ، أفجعتنا يا صادق !
... أفتحوا الأبوابَ والشبابيكَ ليمرَّ طيفُ "حمدانَ" الحالِمَ باسماً...
... أذكر جيداً ، كأنه الأمس ، يوم إلتقيتُكَ ذات يومٍ بَعيـــدٍ ، بعيد.. في مهرجان روستوك عام 1970، كنتَ تُتَرجم كلمة هارتمان ـ تحية للمهرجان بأسم وزارة التعليم العالي في ألمانيا الديمقراطية ـ كنتَ ذاك الفتى ، الذي لم تُفارق البسمة محيّاه ، حتى عندما يتطلّب الظرفُ ، أحياناً ، أنْ تَحتجِبَ الإبتسامة !
مَكلومٌ أنا ، يا صادق ، تخونني المفردة.. لا أقوى على الوفاء بوصيَّتك لي قبلَ عام ، يومَ سَمِعتَ رثائي لرفيقنا وصديقنا صبري هاشم ، فقُلتَ لي ضاحِكاً : " حياوي وصيتي إلَك أنْ تكتُبَ عني فد شي مثل هذا ، إذا مِتِتْ "!
ليس بمقدوري، الآنَ وأنتَ ترحلُ إلى حُضن أمِّنا الطبيعة ، لتبدأَ مسيرةً وكينونةً نجهلها، أقولُ ليسَ بمقدوري إلاّ أنْ أطُشَّ/أنثرَ عليكَ حروفَ الوفاء لعِشرةٍ ورفقةٍ مديدة إمتدّت لِما يقربُ من نصف قرنٍ .. فَنمْ خفيفاً مثلَ ريشةٍ ، هادئا كما كنتَ تحيا دونَ ضجيجٍ ، ستحمِلُكَ الفَراشاتُ إلى مَدارِجِ النورِ .. خفيفاً مثلَها ، حينَ يَنبَلِجُ الصُبحُ من بينِ الستائرِ، وإنْ شئتَ ، قُمْ ! .. قُمْ الآنَ نتمشّى وأتركْ بقيةَ منامِك نائماً ليلحقَ بكَ حينَ يصحو عند الفجر.. فالحُلُم هوالذي يَزورُ الحالمينَ ، وما عليكَ إلاّ أنْ تَتَذكّرْ ..!! سيتبعكَ ظِلُّكَ صامتاً ... يَحرُسكَ كي لاتقولَ ما يتعارضُ مع إسمِكَ ! لا ريحَ تهِبُّ اليوم ، وأنتَ من فَرطِ ما أنتَ وحيد - وإنْ كُنّا نحنُ صّحبُكَ من حولِك - لا تُفكِّرُ بالوحدة .. ولأنّكَ لمْ تودّعْ أحداً ، مذْ نزلتَ إلى السرداب / الكَلَرْ، قبلَ إسبوعين ، لَمْ تكترِثَ لظلِّكَ إنْ كانَ يمشي أمامكَ أمْ خَلفَكَ .
قُلْ لي باللهِ عليكَ، أيةُ رائحةٍ شَمَمتَ لحظتَها ؟ هلْ شَمَمتَ البصرةَ ، وَخمَتَها ، روائحَ سوق الهنود ورائحةَ المصموط والصْبُورْ المجفَّف ؟!
أتدري ، يا صادق ، أنَّ للمدائنِ روائحُها ؟ لبغدادَ رائحةُ المسگوف وروائح سوق الشورجة .. لبعقوبة وبُهرُزْ: رائحة البرتقال وزهر الليمون .. لسامراء : رائحة البطّيخ .. وللحِلَّة : رائحةُ التمر والدبسِ الساخن .. وللجبايش زَفرةُ الهُور ورائحةُ الخِرّيط ... وهكذا يا صاحبي، المُدنُ التي لاتُعرَفُ من رائحتها ، لايُعوَّلُ على ذكراها ، فلكلِّ رائحةٍ ذاكرةٌ وذِكرى... حتى المنافي لها رائحةٌ مشتركة ، هي رائحة الحنينِ إلى ما عداها .. رائحةُ المكانِ الأول .. مكانِ الصرخة الأولى !! ذلكَ أنَّ الحنينَ يتولّى تنقيَة "المكان الأول" من كل سوء ، لأنَّ كل ما هو مفقودٌ ، عزيزٌ ، مطلوب ! لذلكَ ترانا نُجرجِرُ المكانَ برِسَنِ العبارة ، نحمله معنا في الذاكرةِ والخيالِ ، لا في الحقيبة... فالكلمات وحدُها مؤهّلةٌ لترميمِ ما إنكسَرَ من زمانٍ ومكان .. فتغدو وطناً !! يُقالُ أنَّ الحياةَ تبدأ بصرخةٍ وتنتهي بصرخة .. لكنكَ لمْ تصرخ في السرداب / الكَلَرْ قبلَ إسبوعين ، أتُراكَ كنتَ تريد إثباتَ خَطَلِ المقولة ؟! لأنَّ الموتَ لايوجعُ الميِّتَ ، بل يوجعُ الأحياء !! ................
كنتَ مُغرَماً بأحلامٍ تَحوكها بتوأدةِ ناسِكٍ ، حتى في عِزِّ تَضبُّبِ الرؤيا .. لم تكنْ أحلاماً مُكتملةً مما يجعلها "عسيرة الهضم !"أحياناً ، كحلمك ــ قبل أكثر من عشرينَ عاماً بعراقٍ حرٍ، بعدَ نهايةِ الديكتاتورية .. بدون طغيانٍ وبدونِ عَسكر ، مثل كوستا - ريكا ، وما أثاره يومذاك من جدلٍ وسجال .. لاتَقلَقْ ! إضحكْ كما تفعلُ دوماً ! لنْ أخوِّضَ في الماضي كي أجترَّ الحنين ، بل لأتعلَّمَ من هدوئك وصبركَ الملائكي ! حينها كنتُ أقولُ لكَ هي مُجرد أحلام ! كنتَ تَهُزُّ يُمناكَ فتُجيب باسماً: "ما قيمةُ الحياةِ ، من دونِ أحلامٍ ، نشتغلُ على نقشها في أديم الوعي البشري، كيما تتحوّل إلى واقع ؟! أليس هذا هو واجبُنا ؟!" ــ "حَمدانُ" ، يا "حَمدان" ، ما هكذا إتفقنا !! قُمْ ! فالدربُ ما زالَ طويــلاً ، طويــــلاً ، طويــــلا ..! ونحن بحاجة لك .. أستميحُ الفراهيدي والأصمعي عذراً ، فأني لا أُحبُّ فِعلَ الماضي الناقصِ ، لأنه مُخيفٌ .. فقد سَلبَ مني الكثير، وما فَتيء يُضيِّقُ الدائرةَ من حولي .. لذلك تَروْني مُجبَراً على إستخدامه... بلا حيلة !
ــ كان صادق صدوقاً غير مُخاتلٍ ، إسماً على مُسمّى ، وكما تعلمونَ فأنَّ الصدقَ ــ وإنْ كانَ صِفةً حميدة، إلاّ أنه قد يكونُ جَلاّباً للنَكَدِ والمشاكل !!ــ يُخجِلُكَ في تواضعه وهدوئه وعِفَّته ، يَرفِدُ مَنْ حوله بالعزيمة إنْ إرتخَتْ الإنشوطة.. شجاعاً غيرَ هيّابٍ بالمخاطر والشدائدِ .. كانَ واحداً ممّنْ عادوا إلى الوطن في ظرفٍ عصيبٍ ، ما دفعَ بعضهم إلى رفض الإلتحاق بالعمل الحزبي ... لكن صادقاً واصلَ ما آمنَ به ، واصلَ العملَ والعطاء بصمتٍ ، دونَ تَنَطُّعٍ ، بعيداً عن الأضواء !! آهٍ من الفعل الماضي الناقص ، مرةً أُخرى!! كانَ صادق مُحاوراً هادئاً ،عفيفَ اللسانِ والقلبِ واليد ، ناصعَ الجبينِ ... زاهداً.. أتذكّرُ يوم تَقرَّرَ تفريغه للعمل في صحافة الحزب ، أواسطَ السبعينات ، تخلّى عن عمله مديراً لمذخر الأدوية التابع لألمانيا الديمقراطية في بغداد ، ليتقاضى من جريدة الحزبِ ثلثَ مرتّبِ المذخر وساعاتِ عملٍ أكثر... لمْ يتأفَّفْ من القرار .. بل وجدَ فيه ضالّته ، ليبدأَ رحلةَ الكتابة والبحث !
ــ قِلَّةٌ من الصحبِ كانت تَرعَى الصُحبَةَ ، تُديمُ أديمَها ... "حَمدان" كانَ سَبّاقاً إلى ذلك دوماً.. ــ ماذا فعلتَ بنا يا أبا ياسر! مَنْ لنا بعدَ رحيلك يُطفيءُ سَوْراتِ غضبٍ تنفَلِتُ مِنّا عندما نَجزَعْ ؟!
ــ "حمدانُ" ، يا "حمدانُ" ، يا"حمدان" ! لِمَ أَخلَفتَ الوعدَ ؟! لِمَ غادرتَ "سفينتَنا" وسطَ خَبَلِ الإعصار، ولمّا نقترب من "الجوديِّ" بعدُ ؟! تعالَ لترَ ما خَلَّفْتَه فينا من وَجَعٍ ، يُجالسِنا شامتاً ، يَعوي كأناثِ الضِباع ، فيما نُحاولُ مُداواةَ جُرحِنا بحليب التينِ اللَزِجِ ..! ونحفظُ الألمَ عن ظهرِ قلب..!
وداعاً ، أبا ياسر..! سنبقى على العهد! نحفَظُ الوفاءَ لكَ وللقِيَمِ التي حمَلتَها .. نعِدُكَ أنّا سنُديمُ ذكراكَ بما يليقُ بكَ !
يحيى علوان 16.07.2017
#يحيى_علوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسئلة حيرى
-
.. تلك المنازل و-الشِريعه-
-
هو الذي تَبِعَ سربَ القَطَا
-
رواية داريغو : ترنيمة للبحر... ملحمة عائد من الحرب ... غنائي
...
-
مقاصير نصوص (4)
-
ومضات
-
هو الذيبُ .. صاحبي !
-
غِرّيدٌ أَنبَتَ صداهُ .. ومضى
-
الوداع الأخير للمبدع صبري هاشم
-
شَذَراتْ
-
مقاصير نصوص (3)
-
فائز الصغير
-
هيَ أشياءٌ عاديّة ، ليس إلاّ !
-
ضِدَّ التيّار (8)
-
مقاصيرُ نصوص (2)
-
ضِدّ التيّار (7)
-
لِنَكُن أكثر جرأةً على التنوير !
-
ضِدَّ التيّار (6)
-
ضِدَّ التيّار (5)
-
في برلين ...
المزيد.....
-
العدد 590 من جريدة النهج الديمقراطي
-
اليمين المتطرف يحتفل برحيل أونروا من إسرائيل
-
الفصائل الفلسطينية تفرج عن دفعة جديدة من الأسرى بينهم أربيل
...
-
تسع خطوات عاجلة لـ 10 نقابات مهنية مصرية ضد تهجير ترامب للفل
...
-
انتهاء إضراب “النساجون الشرقيون”.. وهيكلة المرتبات خلال 15 ي
...
-
وقف إطلاق النار في غزة.. نصر فلسطيني جزئي بعد خسائر لا يمكن
...
-
خواطر واعتراض واحدة من “أطفال يناير” على ميراث الهزيمة
-
الانتخابات الألمانية القادمة والنضال ضد الفاشية
-
م.م.ن.ص// رقم إضافي لقائمة حرب الاستغلال البشع للطبقة العامل
...
-
الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي تدعو إلى التعبئة قصد التنزيل
...
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|