|
اللغة بين التقديس والتحديث
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 5572 - 2017 / 7 / 5 - 09:46
المحور:
الادب والفن
عام 1940 انتخب عباس العقاد عضوا في مجمع اللغة العربية. وكان الموسيقار محمد عبد الوهاب مشغولا بالعثور على كلمة بدلا من كلمة "المذهبجي"، أي الفرد من الكورس الذي يردد "المذهب" الغنائي المتكرر. لم يكن عبد الوهاب مستريحا إلي كلمة " مذهبجي" لكنه لم يهتد إلي كلمة بديلة ملائمة، فاتصل بعباس العقاد وشرح له الموضوع فطلب العقاد منه أن يمهله يومين للتفكير. بعد يومين اتصل به عبد الوهاب فسأله العقاد:" ماذا يفعل المذهبجي هذا؟" قال عبد الوهاب:" يكرر اللحن". أجابه العقاد:"إذن فهو يكرر ما يقال وحسب؟ لا رأي له؟ إنه إذن إمعة. قل إمعة ولاتقل مذهبجي". لطم عبد الوهاب في السر فقد أراد كلمة سهلة عصرية فإذا بالعقاد ينبش كلمة مهجورة ربما تصلح عند الكتابة لكنها لا تناسب الحديث اليومي! قال عبد الوهاب:" أنا قلت خلينا بقى على مذهبجي وخلاص". والحق أننا هنا لسنا إزاء مجرد حكاية طريفة، بل إزاء موقفين من اللغة: تقديسها كما فعل العقاد أو تحديثها بما يلائم احتياجات الحياة. تذكرت تلك القصة بمناسبة المؤتمر الذي عقده هذا العام مجمع اللغة العربية في القاهرة من 24 أبريل حتى منتصف يوليو تحت عنوان" اللغة العربية في التعليم ومسئولية الأمة". فقد جاءت معظم توصيات وكلمات أعضاء المجمع مشبعة بروح تقديس اللغة التي هي:" لغة الوحي المنزل وشعار الهوية وعنوان الوحدة" حسب ماجاء في كلمة د. حسن الشافعي رئيس المجمع. وليست مشكلة اللغة أنها " لغة الوحي وشعار الهوية" فهذا كلام متفق عليه ، لكن للغة مشكلات أخرى جديرة بالنظر العميق إذا أردنا ألا يمنعنا التقديس من التحديث. وللبدء أقول إن مهمة المجمع الرئيسية في تصوري ليست حماية اللغة بمفهوم الحماية الشائع، بل مجاراة تطورها، فالحماية هي عدم المساس بالشيء، واستبقائه على حاله، بينما كل ما يبقى على حاله من دون تطور يفنى ويذبل. وتطوير الفصحى يأتي أولا من تجديد مناهجها في التعليم، وهو تجديد مستحيل من دون تشكيل لجنة – بعيدا عن موظفي الوزرات- من أدباء وشعراء يتخيرون النصوص الأدبية والقصائد التي يتم تدريسها للتلاميذ. إلي اليوم مازال تلميذ الاعدادية مرغم على أن يحفظ " أتاني أبيت اللعن أنك لمتني"! وأن يحفظ قصائد مطولة لا معنى لها ولا تمت للشعر بصلة لأن الذين يتخيرون المادة الأدبية موظفون. ثانيا ينبغي أن يتم تدريس المادة الأدبية ليس وفقا للتاريخ، بل بدءا من الأسهل وصولا إلي الأصعب. فلنبدأ مع التلاميذ ليس بأبي العتاهية والبحتري، بل فلنبدأ معهم بإبراهيم ناجي، ومحمود حسن اسماعيل، ونزار القباني، وحينما يكتشفون في كل ذلك متعة الشعر والفن يمكن المضي معهم إلي أبي فراس الحمداني، وأبي العلاء. نحن إذن بحاجة إلي منهج يبدأ من العصر الحديث ثم إلي العصور السابقة. تطوير اللغة يجب أيضا أن يمس منظومة القواعد التي جعلت اللغة العربية إحدى أصعب اللغات. على سبيل المثال، لقد عرفت لغات كثيرة صيغة المثنى، ثم تخلت عنها مع مضى الوقت، ولدينا شواهد في اللغة العربية على استخدام الجمع حيثما كان ينبغي استخدام المثنى، بل وسنجد في القرآن الكريم بسورة الحجرات مثال على ذلك: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا". والطائفتان مثنى بينما الفعل اقتتلوا في الجمع. لابد لنا من تشكيل لجنة من الأدباء لاختيار النصوص ، ولابد لنا من تغيير منهج تعليم اللغة لتبدأ المواد فيها من العصر الحالي، ولابد من النظر في تسهيل منظومة القواعد. لهذا يظل تيسيير اللغة على التلاميذ في المدارس نحوا وصرفا ومادة أدبية هو أول ما ينبغي الاسترشاد به لتجدد اللغة حيويتها. أخيرا لابد من حث اللغة الفصحى على الاستجابة لما تطرحه عليها العامية من تجديد وتطوير، لأن العامية أو الحديث اليومي هو المصنع الذي يتم فيه تعديل الفصحى وتوجيهها للأسهل والأصلح، وفي العامية يختبر الناس الكلمات فينبذون بعضها ويقبلون بالبعض الآخر. على سبيل المثال ستجد في المعاجم فعل" شبث " و" تشبث"، لكن نطق ذلك الفعل ثقيل في الحياة اليومية لذلك حوله الناس إلي"شبط " وصاروا يقولون " شبط في الشيء" ، أي شبث به. هكذا يتضح أن العامية هي المصنع الذي تختبر فيه صلاحية الكلمات وفيه يتم تحويرها وتعديلها للأسهل والأصلح. ولهذا لابد للمجمع أن ينظر في كيفية اقرار الكثير من الكلمات الجديدة خاصة تلك التي من أصول فصيحة. في النهاية يتبقى دورنا في نشر الوعي بالعلاقة الوثيقة بين العامية والفصحى. على سبيل المثال نحن نقول" حتة جبن". وكلمة حتة فصحى سليمة. نحن نقول فلان عمل زنبة في فلان، ولانتصور أن كلمة " زنبة" فصحي وترد في لسان العرب بمعنى قرصة أو لدغة. ونقول يوميا " فلان زحلق فلان" ولا ندري أن زحلق فصحى بمعنى انزلق. وهناك كلمات بلا نهاية من هذا النوع الفصيح العامي، مثل كلمة " مزة " الشائعة بين الشباب، وكلمة " دردحة " وغيرها. ولابد لهذه العلاقة بين العامية والفصحى أن تتضح أيضا في الأدب، وقد دعا إلي ذلك توفيق الحكيم من زمن بعيد. تحتاج لغتنا إلي مجهود لكي تبدي لنا وللآخرين كل جمالها. د. أحمد الخميسي. كاتب وقاص مصري
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تسالي أدب على العيد
-
مذكرات القديس مكتشف سعاد حسني
-
رمضان على الطريقة الروسية
-
خمسون عاما على جرح النكسة
-
قطر صغيرة قد تشعل حربا كبيرة
-
طلعت حرب .. نحن والماضي
-
في المرأة يكتمل ظهور الحقيقة
-
عبقرية عبد الوهاب وتهمة السطو الفني
-
مازن معروف .. نكات للمسلحين
-
أبناء الورق والانترنت
-
تحرش - قصة قصيرة
-
الصحافة .. بداية ولا نهاية
-
بيسا - قصة قصيرة
-
الغنيمة - قصة قصيرة
-
عرفانا ومحبة في عيد المرأة
-
طاهر البرنبالي .. انتصار المستحيل
-
هل نطالب الأزهر بتكفير داعش؟
-
على ربوة - قصة قصيرة
-
أماني الخياط دعوة إلي إبادة الشعب !
-
أبو المعاطي أبو النجا .. كل كلمات الوداع مرة
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|