|
تجارة القلوب!
محمد مسافير
الحوار المتمدن-العدد: 5562 - 2017 / 6 / 25 - 00:05
المحور:
الادب والفن
لم يستطيعا الإنجاب، كانا يجهلان السبب، ولم يهتما كثيرا بمعرفته، خاصة هو، كان مأخوذا بأمور أخرى، فقد كان مساعد تاجر يجول المدائن، لم يكن يوفر غير القليل، لكن طبيعة المهنة التي تجعل الإنسان لا يستقر على حال أو مكان، أضفت على حياته بعض الروعة... لكنهما لم يكونان مرتاحين أبدا تلك الليلة، تخاصما بعد أن زارتها أمها، كان سبب الخصام في ظاهره تافه لا يستحق الاهتمام، لكن باطنه كان يخفق بتوجس قاتل من الفراق، حيث أخبرها قبلا بعزمه على السفر مدة شهرين، لم تستسغ الفكرة، وما كانت لتستقبلها بأريحية، خاصة وأنها قد خبَّرت تجربة الفراق.. تخاصما كثيرا، ثم تعانقا آخر الليل على مضض، كان للجنس لحظتها طعم ما بين اللذة والمرارة، خلف صداعا ثقيلا لكليهما، وتفارقا فجر غذٍ والغضب يطغى على الحنين، أوصدت خلفه الباب، وانطوت وحيدة على أحزانها... كانت ليلة فريدة في حياتهما، وهذه الفرادة ليست بسبب طول فترة الغياب المتوقعة، فقد تأخذ على ذلك بعد أسبوع أو أسبوعين، بل لأن تلك الليلة بالذات، كانت سببا في خلق حياة في أحشائها، حملت أخيرا، وزفت بالخبر لزوجها، أملا في أن يحزم أغراضه ساعتها ثم يعود حالا، كانت مجنونة بظنها... استقبل الخبر بشيء كالانتصار، بإحساس بدا مبهما أول الأمر، لكن.. سرعان ما تحول إلى فيض من الإحساسات الجميلة والرائعة... كان يأمل من بقية العمر الابتسام، توسم من الضيف القادم بعض الخير أو كثيرا منه، لكنه لم يتوقع أبدا ما خبأته الأقدار... ازدادت الأمور توترا وسوء بين الزوجين، كان يبرر استمراره في الغياب بسبب العمل، وكانت تتسمر مذهولة من تبريراته، ففي نظرها، لا شيء يبرر الغياب فترة الوحم ! ساءت الأمور إلى حد لا يطاق، حتى استحالت ندما في كثير من الأحيان، لولا اللعنات التي يلاحق بها إبليس ويبهج بها أساريره، لولاها لما اصطبر... غضب وضيق فترة الجماع، وآخران فترة الحمل إلى لحظة الوضع، كذلك لم تسلم فترة الرضاعة من كثير من الخنق، فقد ساءت أحوالهما المادية إلى حد العجز عن توفير الأساسيات، أرهقته الديون حتى بدأ يتحاشاه المقربون... في هذه الظروف، نشأ بطل قصتنا سعد، أسموه سعدا وأضمروا في نفوسهم حقيقته، فقد بدا نحسا يمشي على قدمين، لكن هناك حقيقة تفرض نفسها، لقد حاولا ما في وسعهما إسعاده، فشلا قليلا وأصابا ما يكفي ليخلقا شخصا قائما بذاته... كان يتصدر الرتب الأولى وهو طفل، وكذلك ظل حتى أنهى مرحلته الجامعية، كان يلتهم الكتب التهاما، يبتلعها دون رحمة، موسوعة متنقلة، يحلق من كتاب إلى كتاب كفراشة نزقة، كانت بليته، وهذا بالضبط، ما جعله مثار إعجاب الأساتذة أنفسهم، فقد كان يبدو دائما أعلى من مستوى فصله بكثير، ما جعل أحلامه تتضخم بشدة، كان ينوي الإعجاز في العطاء الفكري وفك شفرات ما عجز عنه الأولون... غير أن أسرته لا يزال يخنقها العوز، أراد إتمام دراسته وتحصيل الماجيستر، ولم لا الدكتوراه، لكن الأمر كان شديد الاستحالة، فحتى مرض أبيه المفاجئ فاقم من إملاق الأسرة، فقرر أخيرا الالتحاق بالوظيفة العمومية، اشتغل أستاذا في السلك الثانوي، ورغم ذلك، كان حريصا على إتمام دراسته وقتما أمكن.. كان يزاول عمله بتفان، رغم زحمة الفصل، وشغب المراهقين، وبالموازاة، فقد كان يحضر للماجستر، يطالع بنوع من العطش الذي لا يرتوي، حتى غدا أشبه بالزاهد عن الدنيا ومتاعها.... لكن الأمور تغيرت شيئا ما منذ أن رمق إحداهن تمشي الخيلاء في حارته، فتن بمحاسنها حتى كاد قلبه ينفطر، ولأنه كان يأخذ الحياة على بساطتها، فقد قرر أن يأتيها من الباب... فتِح الباب، استقبلوه بشيء من الاستغراب، طلب يدها، سألوه عن الراتب والشقة، لم يكن يمتلك شقة، ولم يكن راتبه في المستوى الذي قد يجعلهم يوافقوا دون تردد، عاد خائبا، وأدرك حينها كيف يساوم الإنسان بالمال، كيف تباع النساء كالأبقار ! لا يزال يحبها، أو ربما يرغب فيها، يريد ارتشاف أنوثتها، لعقها، فعل أي شيء قد يطفئ اللهيب الذي يحرق باطنه، لكنه مجرد أستاذ... كان له أحد الأصدقاء الميسورين من التايوان، سأله المساعدة، فاقترح عليه بيع الملابس الداخلية آخر موديل، على أن يرسل له كمية محددة حتى تنفذ، ثم يعاود الإرسال.. اتفقا وأحسنا تدبير الاتفاق، كان يوزعها على المحلات، واجه صعوبات في البداية، لكنها تبددت سريعا، فبدأ يعرف بالتايواني، اعتزل التدريس وفتح محلا خاصا بالملابس الداخلية، ثم بدأ يستورد من الصين والهند، حتى غدا ذا همة وشان، فحج واعتمر أربعا، ثم تزوج الفتاة التي أحبها، وألحق بها ثلاثة، وعاش سعيدا بقية حياته بعد أن ضحى بطموحاته العلمية، وبعد أن أدرك: أن المستوى الثقافي والشواهد العلمية لا قيمة لها في مجتمعات الرعاع. أن قليلا من الدهاء في مجتمعات محدودة الذكاء يكفي لإخضاع القطيع. أن النساء في بلادنا ممتلكات نضمها إلى تجهيزات البيت. أن القلوب أيضا تباع وتشترى، والحب مجهض لا محالة.
#محمد_مسافير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف صعدت النجوم إلى السماء؟
-
البادية بين الماضي والحاضر!
-
دعارة مشروعة!
-
لف ودوران!
-
شذرات نورانية!
-
حبيبي دائما!
-
الثأر المسلوب!
-
سيرتي!
-
صناعة الجريمة... الضحية محسن!
-
هكذا يريدونك... جارية خنوعة!
-
مذكرات حمار!
-
إلى المقبلات على الزواج!
-
لمحة من تاريخ الحركة الطلابية التونسية!
-
آفاق حراك الريف...
-
الإسلام... لله أو للإنسان!
-
حداثية من نوع فريد!
-
تنويعات سياسية!
-
تنويعات في نقد السماء!
-
ومن منافع الجهل...
-
حيواناتهم وإنساننا!
المزيد.....
-
الثقافة السورية توافق على تعيين لجنة تسيير أعمال نقابة الفنا
...
-
طيران الاحتلال الاسرائيلي يقصف دوار السينما في مدينة جنين با
...
-
الاحتلال يقصف محيط دوار السينما في جنين
-
فيلم وثائقي جديد يثير هوية المُلتقط الفعلي لصورة -فتاة الناب
...
-
افتتاح فعاليات مهرجان السنة الصينية الجديدة في موسكو ـ فيديو
...
-
ماكرون يعلن عن عملية تجديد تستغرق عدة سنوات لتحديث متحف اللو
...
-
محمد الأثري.. فارس اللغة
-
الممثلان التركيان خالد أرغنتش ورضا كوجا أوغلو يواجهان تهمة -
...
-
فنانو وكتاب سوريا يتوافدون على وطنهم.. الناطور ورضوان معا في
...
-
” إنقاذ غازي ” عرض مسلسل عثمان الحلقة 178 كاملة ومترجمة بالع
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|