|
مقدمة في فلسفة الصورة
سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي
الحوار المتمدن-العدد: 5558 - 2017 / 6 / 21 - 08:55
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في الفلسفة
عقل الإنسان ليس هو العضو المسمى.."بالمخ"..بل هو مركز طاقة التفكير في الرأس، وقد يجمع حواس البشر الخمسة المؤثرين في الوعي، فالعقل يهتم بربط وسائل الإدراك (الحسية) بطاقة الفكر، لذلك فالإبصار نفسه جزء من العقل، والسمع واللمس والشم باعتبار تلك الحواس أدوات استقبال، والإنسان حين يستقبل معلومة يستقبلها بحواسه أولا.
أما الكلام فهو تصدير ما استقبله الوعي الإنساني، ينتقل وقتها البشر من الثبات إلى الحركة.
منذ فترة أشرت إلى فلسفتي الخاصة المسماة بفلسفة الصورة، وقلت أنني في طور الإعداد لها وصياغتها علميا لكي يدرك متابعيّ وقرائي كيف أفكر ..وكيف أنقد الموروث، وكيف أرى الأشياء.
مبدئيا: لا أهتم بدراسة فلسفات أشخاص، يعني لا أشغل نفسي مثلا بفهم نيتشة أو روسو أو فولتير أو هوبز..ولكن أشغل نفسي بما توصل إليه هؤلاء من نتائج وكيف استدلوا عليها، أما موقفهم من كذا وكذا فهو لا يهم..وأرى الانشغال بها من عيوب الفكر..كمن يعقد دراسة –مثلا- عن موقف فلان من علان، وكيف صاغ فلان فلسفته عن مذهب علان..هذا عبث فكري أدى لوقوع الفيلسوف -أو باحث الفلسفة- في الشطح والعزلة عن اهتمامات الناس وتحديات العصر، وفي تقديري هذا سبب أصيل لظهور أكثر الفلاسفة –خصوصا العرب- سلبيين وانهزاميين ومبتعدين تماما عن طرق تفكير الناس التي مفترض أن تكون شاغلهم الأول..
فلسفة الصورة باختصار: " عقل الإنسان كالكاميرا يتأثر بالأشياء حسب جودته ووضعيته، فإذا كانت الكاميرا ناحية اليسار سينظر العقل للأشياء من اليسار، وإذا كانت يمين سينظر العقل من اليمين، وإذا كانت الكاميرا مشوّشة سيكون العقل مشوش ويفقد قدرته على استقبال المعلومة بشكلها الصحيح، وإذا كانت الكاميرا يحملها شخص عدواني فالإنسان سينظر بعقله كعدواني والعكس متسامح، وإذا كان حامل الكاميرا مهتز ومتوتر سينظر الإنسان بعقله للأشياء بالاهتزاز والتوتر..وعليه سيفسر كل الأشياء التي رآها حسب توتره بخلاف ما كان هادئ النفس مطمئن السكينة"..
هذا يعني أمرين اثنين:
أولا: أن الإنسان قد ينظر للأشياء بخلاف طبيعته الأصلية، شخص متسامح مثلا طوال عمره، لكن في لحظة ما كان عدواني فرأى حدث ما بعدوانيته ، ويلجأ لتفسيرها بطريقة خاطئة لخروجه عن العادة، المفترض أن طبيعته المتسامحة تحكم..وهذا غير صحيح، الطبيعة هنا كالطريق الذي تسير عليه..قد يكون سليم 100 كيلو متر لكن في مطب واحد تنقلب السيارة ويفقد الجميع حياتهم، هذا المطب هو اختصار.."فلسفة الصورة"..أن الإنسان متأثر بالأفعال والأحداث الوقتية ويتفاعل معها لحظيا كما يتفاعل (فلاش الكاميرا) مع الشئ، حتى تتشبع نفسه بكل قيم ومدركات هذا الشئ تتكون صورته الذهنية بناءً على تصوره النفسي لها..
لتبسيط ذلك: في اتجاهي بنقد الموروث مثلا لا أستعين فقط بنقد الموضوع لذاته، بل أنظر أولا للمؤثر الخارجي، حديث في الصحاح مثلا أو تفسير لآية أضعها كمعلومة تتوجب أولا معرفة نفسية القائل ووضعية وطبيعة عقله/ الكاميرا وحول ما إذا كانت هذه الكاميرا السلفية القديمة تفاعلت مع أحدث معينة حتى ترى شئ معين يدفعها لقراءة ورواية تلك المعلومات، هذا مهم جدا في التجريد كي لا يقع الناس ضحايا لصورة مشوشة في عقل الفقيه بالتقليد وتبني الأشرار والحمقى لها تصبح مقدسة..رغم أنها في الأصل صورة مشوشة لكاميرا أخذت لقطتها من وضعية خطأ، وقد لا يتبناها الفقيه أصلا بعد ذلك أو له صور أفضل منها في السابق.
ثانيا: الأمر الثاني هو أن صورة الإنسان الذهنية عن الأشياء في الغالب تكون معزولة عن المحيط فيما لو كانت مشاعره سلبية، خبر ما في صحيفة أو قناة إخبارية استقبله بوضعية خطأ سيؤدي إلى أن يتعامل مع الخبر بطريقة مختلفة عن المجموع الذي رأى نفس الخبر بطريقة اعتيادية بما أدى لرؤيته بشكل طبيعي، وهذا سر كبير في الخلاف بين الناس ونسبية تفكيرهم ..أن الأصل في الاختلاف هو في .."كيفية تلقي المعلومة"..ليست مجرد الوسيلة، فقد تكون وسيلة ضعيفة مثلا كالراديو ..مجرد صوت..لكن باستقبال المعلومة بشكل صحيح أدى لتفسير هذا السماع بطريقة منضبطة، والعكس صحيح..أي قد تكون وسيلة استقبال المعلومة قناة فضائية مزودة بتقنيات وشروحات متقدمة في فن التصوير لكن باستقبال المعلومة لها بشكل خطأ أدى لتفسير كل هذه التكنولوجيا بشكل ملتبس.
وهذا سر كبير في الأزمات الاجتماعية والسياسية أن رؤية الناس للأحداث تخضع لوضعهم النفسي والعصبي والعضوي بحيث يؤثر كل ذلك على الإدراك، بل ربما يكون مجتمع سعيد وصحي يرى المسئولين الفاشلين ناجحين ، والعكس صحيح ..أي ربما يكون مجتمع حزين ومريض يرى مسئوليه الناجحين فاشلين.
يظهر هذا في السياسة بشكل واضح، حاكم ضعيف لكن متسلط مغرور يريد إيهام الناس بزعامته وقوته..فيسلك بعض السلوكيات في سبيل ذلك..وحين يشرع في عمله تنظر إليه عقول الناس / الكاميرا المشبعة أصلا بغروره وتسلطه وضعفه (وضعية الكاميرا) فينقلب سلوكه في اتجاه عكسي تماما ويزيد من نقمة الناس عليه، فأشد ما على الإنسان أن تجبره على حب من يكره..هنا يزداد كراهية بقدر ما تمارس عليه من ضغوط أو ظهور متكرر في المشهد..والعكس أيضا صحيح: أي لو فكر الحاكم القوي العادل المتواضع في تجربة ما بإظهار ضعفه أو وجهه الآخر..لن يقتنع به الناس وسيظلوا مؤمنين بصورته القديمة في الذهن ، وهذا يدعونا للحديث عن ما يسمى.."اللقطة الأولى للكاميرا"..وتأثيرها في غرس الأفكار والقناعات واليقينيات.
على الهامش: هذه مجرد مقدمة عن فلسفة الصورة سيكون في الأيام والشهور والسنوات المقبلة شروح لها من أبعاد وزوايا أخرى تشرح طرق تفكير الإنسان وحدود معلوماته وكيف يصل إلى الحكمة وكيف يفقدها..
يوجد شرح مطوّل للسبيل الأمثل في طرق عرض المعلومات أوجزها في ضرورة اختيار الزمان والمكان المناسب والشخص المناسب، هذا مهم لأن كاميرا العقل متأثرة –بدهيا- بالمحيط والموضوع، شخص ما هذا أصلا موضوع بحياله لا يصح مثلا تقديم معلومة دينية من منافق سئ السمعة..أو معلومة تاريخية من كذاب..أو كلام في المصلحة من أناني..أو حكم ومواعظ من أحمق، هذه تؤثر بالسلب في ذهن المتلقي وقد تنشأ لديه ردود أفعال إما ارتدادية عكسية أو ثورة على جزئيات محددة في الصورة، وهذا سر اتهامي لبعض ملحدي هذا الزمان أنهم مجرد.."ردود أفعال"..تنقصهم الثقافة اللازمة لتصور الكون والأشياء والإنسان.
وكذلك سر لاتهامي شيوخ السلفية بتشويه الدين..هذا لأن مقدار الحكمة لديهم ضئيل يستبدلونه بخطب منبرية قوية وأساليب بليغة للتشويش على كاميرا العوام..وقد ينجحون في ذلك غالبا بفضل أن الكاميرا التي استقبلتهم مستعدة نفسيا وذهنيا لتقبلهم (التلاميذ) ولعوامل أخرى تنقل وتشيع هذه الكاميرا رغم أنها في الأصل صورة تم التقاطها من شخص واحد أو مجموعة عدت على الأصابع..
بالمناسبة: أكثرية الشيوخ بالفعل ليسوا حكماء والسبب أنهم أهملوا المعرفة وجمع المعلومات، ولو جمعوها فبصورة وكاميرا مشوشة اهتمت بالنقض والثورة أكثر من اهتمامهم بالعلم والاستيعاب، فإذا قرأوا عن المسيحية والتشيع والإلحاد فمن باب الدحض واللجم والإفحام، ولشهرة ونفوذ بعضهم تنتشر نفس الصورة التي رأوا بها تلك الأديان والمذاهب، أي أن الكاميرا في الأصل لم تكن في وضعية صحيحة فالتقطت صورة عرجاء باهتة، إلا من رحم ربي..أقلية قليلة جدا ما زالت تهتم بالأفكار عن طريق العرض والمناقشة الموضوعية..
#سامح_عسكر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تيران وصنافير..السؤال الصعب
-
الكارما الهندية والتقوى الإسلامية
-
عدوانية آل سعود والخطر العربي
-
الإعلام وخداع الألفاظ
-
نظرات في الطائفية الإسلامية
-
هذا ما فعله المتطرفون بالمصريين
-
أكذوبة عدم تحلل أجساد الأنبياء
-
لماذا تحتضن الدولة الفكر السلفي؟
-
لا جهاد للطلب في الإسلام
-
رؤية أخرى لتنوير محمد علي
-
تضامنا مع د. عبدالعزيز القناعي
-
حد الردة عقوبة سياسية وليست دينية
-
هل الأزهر مرجعية للإرهاب؟
-
جذور الإرهاب من التراث
-
الإمارات تحتل جزيرة سوقطرى اليمنية
-
الاستحسان في القرآن
-
تحديات الإرهاب في الشرق الأوسط
-
الغباء ودوره في أزمات العرب والمسلمين
-
قراءة في الخلاف بين مصر والسعودية
-
معضلة الجهاد في الفكر الإسلامي
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|