|
مابين المواجهة والنضال السري
سعد محمد موسى
الحوار المتمدن-العدد: 5521 - 2017 / 5 / 15 - 18:17
المحور:
الادب والفن
مابين المواجهة والنضال السري ان أغلب أبناء مدينة الناصرية يعرفون ويتذكرون الدكتور "لمام عبد جبر" أخصائي الامراض الباطنية والقلبية بعيادته التي كان يعمل ويسكن بها أيضاً والواقعة في احدى أزقة شارع الحبوبي .. وكان الدكتور ذو الملامح الحادة والصارمة وبقامته الفارعة وضخامة جسده وجديته في المواقف التي لايجامل بها حتى مع مسؤولي النظام واستبداد المؤوسسة العسكرية أثناء الحرب العراقية الايرانية آنذاك. وقد طرد من خدمته العسكرية كطبيب برتبة عقيد عسكري بسبب مواقفه ضد السلطة وفتح بعدها عيادة مدنية في الناصرية. وكان الدكتور لمام يعالج الفقراء والفلاحين مجاناً لاسيما الذين لا يمتلكون أجرة المراجعة للعيادة وكان ثوري ويساري العقيدة. وبسبب مواقفه وتهكمه ضد السلطة تعرض على أثر ذلك الى مضايقات كثيرة ومن ضمنها حين قذف شاشة التلفزيون بحذائه في احدى النوادي الليلة في المدينة أثناء خطب الرئيس صدام اليومية المملة والمفروضة على الناس كي يتفرجوا عليها كل مساء .. اضافة لعراك لمام المستمر الذي يصل حد استخدام قبضات اليد وأطلاق الشتائم ضد الشرطة والتي كانت تنتهي غالباً باحتجازه في مخافر الشرطة ثم اطلاق سراحه بعد ليلة او ليلتين وبعدها يرجع لتمرده مرة أخرى.. من ضمن سخريات الدكتور لمام التي كان ينتقد بها الطاغية والحرب العبثية ذات الثمان سنوات والتي أحرقت الاخضر واليابس ونحن نشاهده ثملاً ويترنح في مساءات المدينة وهو يغني بصوته الجهوري بأغنية عبد الحليم "الي شبكنا يخلصنا" فكانت تلك الاغنية التي كان ينتقد بها الديكتاتور وهي واحدة من الاسباب التي أدت لاغتياله برصاصات الغدر من مسدسات المخابرات كاتمة الصوت ذات ليلة في عيادته أثناء نومه في منتصف الثمانينات.. ورغم هذا الاغتيال الخسيس والاجرامي لكن الدكتور الشجاع انتفض بجسده النازف وبقى يلاحق القتلة حتى سقط مضرجاً بدمائه في صالة العيادة .. أما الجبناء فقد نسوا الكاميرا الفوتغرافية الفورية من شدة ارتباكهم ورعبهم وفروا هاربين .. ثم سجلت قضية القتل فيما بعد وكالعادة ضد جناة مجهولين . أما الحكاية الاخرى فهي استذكار أخر لصديق شيوعيّ أعتقد ان الاناقة والنظافة وترتيب المكان لدى البعض تبقى صفات لاتتأثر باستثنائية الظروف أو قساوة الامكنة . بينما يوجد هنالك البعض ممن يعيش في رخاء واستقرار او يسكن في بيوت فاخرة سواء في الغرب او الشرق لكن يبقى ينقصهم الذوق في الاناقة والنظافة دائما . وانا أتذكر وسط المنفى الصحراوي في الربع الخالي وأثناء مرحلة اللجوء بعد حرب الخليج حين نُفيت فيه أربعة سنوات ونصف .. فقد التقيت وعشت بحدود السنة كنت أشارك فيها خيمة وسط عواصف الرمال والقيظ والمعاناة مع أحد رفاق اللجوء والذي كان شيوعياً مطارداً ويحمل عدة اسماء وهويات كان يتخفى بها عن انظار السلطة.. وفي كل صباح كان يستيقظ رفيق المنفى مبتسما ومتفائلا وسط كل هذة المآسي والمستقبل المبهم لاسيما قبل وصول مكتب الامم المتحدة للمخيم. وهو يحاول التحايل لاخفاء علب المياه المعدنية او الجليكانات العسكرية التي نستخدمها للشرب وللطبخ .. لكن اللاجيء المتفائل لايفوت أي يوم دون ان يستحم مرة او مرتين رغم شحة المياه في حمام شيدناه من رواق قماش الخيام المتهرئة وأرصفنا أرضيته بالحصى والصخور بعد أن جمعناها من رمال المعسكر وعادة ماكنا نسمع الرفيق الذي كان يكبرنا سناً وهو يغني جذلاً ويمازحنا بالنكات. وبعد ان يغادر الحمام يعود للخيمة ليحلق ذقنه كل صباح وكالعادة يتعطر بكولونيا فرنسية عدة مرات بنشوة الارتياح ويفرش اسنانه خارج الخيمة .. ثم يرتدي قميصه الابيض الانيق والذي يكويه تحت وسادة النوم ثم يستمع للاخبار من مذياعه الصغير الذي يقربه الى اذنه لاسيما الى اذاعة موسكو ولندن ومونتكارلو واذاعة واشنطن !! كان بعض رفاق الخيمة يوصفوه بانه مصاب بمرض التطرف بالنظافة . كنت معجبأ بتفائله بالحياة وبالمستقبل رغم كل المآسي والشعور بالخوف .. وقد ذكر لي ايضا هذا الصديق بانه حين أعتقل بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي بعد مؤامرة الغدر الجبانة ضد الجبهة الوطنية في العراق في السبعينات.. ثم زج المتهم في سجون المخابرات .. كان يخبرني بانه لايعرف في اي يوم سوف ينادي الحرس باسمه لاعدامه كما حدث لرفاقه قبله .. لكنه لم يفقد الامل والتفاؤل وحبه لترتيب مكانه ووضع قميصه الوحيد تحت الوسادة كي يستقبل الصباح بقميص مكوي وانيق حتى وهو يتحايل على حالات الرعب والانتظار لمستقبل مجهول.
#سعد_محمد_موسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القنفذ وحجر عرق السواحل
-
مساءات السيدة بولين
-
يوميات مقهى ورصيف في ملبورن
-
حارس معبد عشتار
-
ليس للرب وطن
-
مابين تعبان وترامب كانت هنالك عذابات بائع رصيف
-
مشاهد من ذاكرة الانتفاضة
-
اجنحة اليمام وغصن الزيتون
-
حكايات أخرى من حانة هايد بارك
-
الحذاء
-
اصدقاء الليل والحانة
-
تداعيات الذاكرة في صالة المستشفى
-
حديث في مرسم
-
رحلة في سوق الطفولة
-
ذاكرة القلب
-
حديث عابر في قطار
-
تمرد ضد الاقفاص
-
غزلان البراري واحلام الطفولة
-
مابين غيبوبة العاشق ومطارد الشمس
-
ابوذية الغناء وصوفية العشق
المزيد.....
-
الممثل السعودي إبراهيم الحجاج بمسلسل -يوميات رجل عانس- في رم
...
-
التشدد في ليبيا.. قمع موسيقى الراب والمهرجانات والرقص!
-
التلاعب بالرأي العام - مسرحية ترامبية كلاسيكية
-
بيت المدى يؤبن شيخ المخرجين السينمائيين العراقيين محمد شكري
...
-
مصر.. الحكم بحبس مخرج شهير شهرين
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي بتهم -الاعتداء والسب-
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي شهرين لهذا السبب
-
الكويت توزع جوائز الدولة وتحتفي باختيارها عاصمة للثقافة العر
...
-
حتى المواطنون يفشلون فيها.. اختبارات اللغة الفرنسية تهدد 60
...
-
محاضرة في جامعة القدس للبروفيسور رياض إغبارية حول الموسيقى و
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|