|
التنشئة السياسية للشباب السوري
حازم نهار
الحوار المتمدن-العدد: 1444 - 2006 / 1 / 28 - 06:02
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
التنشئة السياسية للشباب السوري " المحدّدات و الاتجاهات " تسعى هذه الدراسة إلى مقاربة العوامل والمحددات التي تشكل وعي الشباب السوري وأحاسيسهم وتصوراتهم وهواجسهم وطموحاتهم ، ولهذا الأمر أهمية كبيرة ، إذ يسمح للشباب وللمعنيين بأوضاع الشباب ، أحزاباَ ومؤسسات وجمعيات ومراكز ثقافية ، برصد و تلمس الأسباب الكامنة وراء الواقع الحالي للشباب ، ومن البديهي القول إن معرفة الأسباب شرط لازم لتصحيح أو تعديل أو تغيير أو تثبيت اتجاهات الشباب الحياتية . وإذا كنا قد عنونا هذه الدراسة ب "التنشئة السياسية للشباب" فلقناعتنا أن السياسة ، بمفهومها العام والشامل ، هي المحور الناظم لمجمل الحياة الفردية والعامة ، حتى لو كان الأفراد ينكرونها وينفون علاقتهم بها ، ولا يتحسسون أنها حاضرة في حياتهم . تقف أمام هكذا دراسات، خاصة في سوريا، عقبات عديدة. لعل أبرزها هو عدم توافر الإحصائيات و الدراسات الميدانية الجادة ، بما يجعل السير في مثل هذه الأبحاث محفوفاَ بالمخاطر ، كالحديث في العموميات التي تصلح على أي شريحة أخرى في المجتمع السوري ، بل وفي مجتمعات أخرى شبيهة ، أو تصبح الاستنتاجات أقرب ما تكون إلى المشاهدات الشخصية والذاتية . مع ذلك تشكل الدراسة مقاربة أولية لدراسات أكثر عمقاَ تعتمد العمل الإحصائي ، أو مقدمة نظرية بحاجة للاختبار واقعياَ ، وبالتالي تكون مفيدة من حيث ضرورة تحديد اتجاهات أو أولويات ومنطلقات أي بحث ميداني حول الموضوع ذاته . 1- مفاهيم أولية: - السياسة: هي مجمل ما يتعلق تفكيراَ وممارسة بالشأن العام، وهي من هذا المنطق كالهواء الذي يحيط بنا ونتحرك داخله. إنها عامل ملتحم ووثيق الصلة بكل مظاهر وتجليات وأشكال الفعل الإنساني (السياسية المباشرة،الاقتصادية،الاجتماعية،الدينية ...) سواء أحببنا ذلك أم كرهناه . أما الإيديولوجية السياسية فهي تلك القواعد الذهنية المتبطنة في سلوك الأفراد والقيم السائدة في الحياة اليومية في المجتمع ، والتي تنتج سلوكاَ سياسياَ محدداَ عند الفرد. - مرحلة الشباب وسماتها العامة: هناك اختلاف واسع في تحديد المساحة الزمنية لمرحلة الشباب، فبعضهم يقصرها على المرحلة الممتدة ما بين نهاية المراهقة ونهاية الدراسة الجامعية، أي ما بين 17 – 24 سنة وسطياَ، وهناك من يوسع إطارها. لكن طالما لسنا بصدد دراسة ميدانية إحصائية، يمكن أن نقول بصفة إجمالية إنها الفترة الواقعة بين نهاية المراهقة وبلوغ مرحلة النضج. من السمات البارزة في هذه المرحلة الافتقار إلى التوازن والاستقرار ، إذ تنطبع بشكل من أشكال الاضطراب والتذبذب ، الأمر الذي يجعل من الشباب الفئة الأكثر عرضة للصراعات والإحباطات ، وأسباب ذلك عديدة ، لعلها من جهة كون مرحلة الشباب الميدان الحيوي الذي تتصارع فيه وعليه جميع المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع ، ومن جهة أخرى بحكم ما يعتريها من متغيرات ورغبات فيزيولوجية ، إذ تبرز خلالها رغبات الشباب الجنسية المشحونة بالتوترات الداخلية التي تختلف حدتها بحسب نظام القيم السائدة في المجتمع وطبيعة الممنوعات والمسموحات . السمة البارزة الأخرى ، والمرتبطة بالضرورة بالسمة السابقة ، هي البحث عن الطمأنينة النفسية ، فالحاجة إلى خفض التوتر النفسي ، وتحديد الهوية والانتماء ، وتأكيد الذات ، والرغبة في الاستقلال ودعم الشعور بالفاعلية والأهمية ، عوامل ضاغطة بقوة خلال هذه المرحلة ، الأمر الذي يدفع الشباب للبحث عن الموقع والدور الملائمين ، والانخراط في مشاريع متنوعة لتحقيق هذه الحاجات .
- التنشئة الإيديولوجية – السياسية: يقصد بالتنشئة الإيديولوجية – السياسية تشكيل الوعي السياسي، أي مجمل العمليات التي يتم من خلالها إكساب الفرد سلوكاَ ومعايير وقيماَ واتجاهات سياسية متناسبة مع أدوار مجتمعية معينة ، حتى لو لم يمارس الفرد نشاطاَ سياسياَ في حزب أو جمعية أو اهتماماَ بالشأن العام ، وتكون هذه العملية مستمرة منذ الولادة وحتى الممات . وتعد مرحلة الشباب من أهم مراحل التنشئة الإيديولوجية السياسية، بحكم السمات العامة لهذه المرحلة، إذ تبدأ خلالها بالتكون مواقف الفرد السياسية، و قيمه الاجتماعية، وأنماط سلوكه الاجتماعي – السياسي (1). 2- عوامل التنشئة السياسية و تشكيل الوعي السياسي عند الشباب السوري : تلعب عوامل عديدة في تشكيل الوعي السياسي عند الشباب السوري، بعضها ذاتي خاص بالفرد كالجنس والذكاء والخبرات الذاتية والوضع النفسي، وبعضها موضوعي قائم منذ ولادة الفرد كالفئة الاقتصادية الاجتماعية التي ينتمي إليها، والانتماء الجغرافي ( ريفي، مديني )، وبعضها الآخر موضوعي بحكم طبيعة المجتمع والمناخ العام السائد فيه ، وتعتبر هذه الأخيرة الأهم بالطبع كوننا نتحدث عن الإطار العام الناظم لتشكيل الوعي السياسي، والذي يحدد بالضرورة حدود العوامل الذاتية، ويغير أو يعدل من المحددات الموضوعية القائمة لحظة الولادة . معظم الشباب السوري يكاد لا يعرف شيئا عن "قانون الطوارئ" ، و ليس عنده أدنى اطلاع عن دستور بلاده، و لا يذكر إلا أسماء عدد محدود من الوزراء و أعضاء مجلس الشعب ،و لا يعرف كثير من الشباب موقع مدينة القنيطرة السورية ، كما لا يعرف متى احتلت هضبة الجولان و هل عادت كاملة لسوريا ، و ليس لديهم اطلاع على المكونات البشرية للشعب السوري ، و يستغرب قسم كبير عندما يسمع أن الأكراد يشكلون ما نسبته 10% من هذا الشعب ، و لا يعرف الغالبية منهم حقوقهم الطبيعية ، و ينظرون لما يجري من تجاوزات لهذه الحقوق على أنه أمر طبيعي .... فما هو السر في ذلك ؟ أ- العائلة السورية: ما زالت العائلة نواة التنظيم الاجتماعي، إذ تتمحور حولها حياة الأفراد بصرف النظر عن النمط المعيشي ( مدني، ريفي، .. )، والوضع الطبقي والانتماءات الطائفية والإثنية والقبلية ، فهي الوسيط بين الفرد والمجتمع ، والمؤسسة التي يتوارث منها الأفراد انتماءاتهم المختلفة ، بما فيها في معظم الأحيان الثقافية والسياسية ، و بسبب أنها محكومة بالمناخ العام السائد في المجتمع ، فإنها تنقل لأفرادها عادة القيم الاجتماعية المقبولة فيه . تزرع العائلة السورية (كسائر العائلات العربية ) في أفرادها مجموعة من القيم السلبية التي تؤثر في سلوكهم وشخصياتهم ، إذ يتعلم الفرد منذ مرحلة الطفولة قيم الطاعة والخضوع والامتثال و الخجل و المسايرة ، لأن هذه العائلة من جهة محكومة بالسلطة الأبوية القائمة على ثنائية الاستبداد – الرضوخ ، ومن جهة ثانية قائمة على تمجيد الذكورة ، مستمدة مشروعيتها في ذلك من الدين والتقاليد الاجتماعية (2) . يضاف لذلك ، بحكم ما تعرض له المجتمع السوري خلال العقود الثلاث الأخيرة على الصعيد السياسي، أن العائلة السورية تقوم بنقل الخوف المتوارث لأبنائها ، و تلعب دوراَ داعماَ لاستمرار العلاقات الاستبدادية في المجتمع بكافة تجلياتها ، الدينية والتعليمية والسياسية ... إلخ ، و هذا يعني أن تربية الفرد داخل هذه العائلة يتشارك فيها الدين و التقاليد الاجتماعية و السلطة السياسية بشكل متناغم (3). ب- نظام التعليم المدرسي والجامعي: لا يوجد فرق بين المدرسة والجامعة من حيث نهج التعليم السائد فيهما ، الذي يقوم أساساَ على التلقين ، بما له من آثار سلبية على شخصية الأفراد ، إذ يساهم ذلك في تعميق قيم الطاعة والخوف والتفكير الغيبي والأوهام والأساطير ، بدلاَ عن قيم التمرد والتغيير والشجاعة والتفكير العلمي (4). التلقين طريقة تسلطية في التعليم تلغي النقاش والندية ، وتعطل الحس النقدي ، وتعلم عدم المشاركة والتفاعل مع المواضيع المطروحة وتقبلها كما هي ، فالكتاب المدرسي مثلاَ ما زال يحتل مكانة بارزة في التعليم ، والأداة الأساسية في تنفيذ المنهاج المقرر ، في حين أن النظم التعليمية الحديثة لا تركز على تدريب الطفل لحفظ مضمون تلك الكتب بقدر ما تتجه نحو تنمية قدراته على الإدراك والتفكير وتنمية تفاعله مع الواقع . تفتقد العملية التعليمية لتدعيم المفاهيم الحديثة عن الحياة والطبيعة والتاريخ ، مما يجعل هذه العلوم المختلفة مفصولة في ذهن الطالب ، ويمنعه من تشكيل رؤية عامة منسجمة مع العصر ، فيبقى حاملاَ في رأسه قوانين علمية مجزوءة إلى جانب غيبيات تتناقض معها . أما من حيث مضامين المواد التدريسية ، فلا زالت هي الأخرى مقطوعة الصلة عن العصر والحاجات الواقعية . اللغة العربية مثلا ما زالت محكومة بالنصوص التراثية ، و لا يظهر منها إلا وجهها الأدبي ، ففي المرحلة الابتدائية ، أي مرحلة تفتح الطفل وفضوله وحيويته، يجري إرهاقه بتعلم أساليب لغوية وثقافية لعصر آخر ، وهكذا يعاني الفرد منذ البدء تجربة الفصل بين التعلم والفهم ، ويصبح الاستظهار بدون فهم الوسيلة الأولى لتمثل الأفكار والقيم . أما دراسة وتدريس التاريخ فتفتقر إلى عوامل الموضوعية والتحليل المنهجي للأحداث والوقائع الذي لا يهتم بمعرفة أخبار الماضي بقدر ما يهتم بمنطق الأحداث والواقع ، فمثلا يجري تدريس المحطات الهامة في التاريخ بوصفها نتيجة مؤامرات محبوكة، و أحياناَ نكون أمام فترات زمنية معينة لا نعلم عنها شيئا، بحكم إنها لا زالت تتعلق بالسلطة القائمة أو بمصالح بعض المتنفذين. لا تسمح دراسة التاريخ بالطريقة الموصوفة بنمو عقلية موضوعية تتبنى التفسير العلمي للحدث أو الواقعة التاريخية ، بما يعني أيضاَ عدم القدرة على قراءة الأحداث الواقعية وتفسيرها تفسيراَ صائباَ، وعدم القدرة على النظر إلى المستقبل بشكل صحيح لمعرفة الدور المطلوب وكيفية تغيير الواقع. كذلك الأمر بالنسبة لتدريس مادة التربية الدينية التي تقوم أساساَ على تعليم الطقوس الدينية والمعارف عن العالم الآخر والمذهبية والرؤى الخرافية عن الآخرين، بدلاَ من توسيع ميدانها لتشمل الإنسان وتعزيز منطق التسامح الديني وتجديد الفكر الديني لينسجم مع مقتضيات الواقع والعصر (5 ). لا شك أن مضمون المقررات الدراسية له تأثير بالغ على التنشئة السياسية للأفراد في سوريا ، ويزيد الأمر سوءاَ مع السيطرة الكلية للسلطة على المؤسسات التعليمية ، إذ أضافت من جهة عدداَ من المقررات بدءاَ من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعة كالتربية العسكرية و التربية الوطنية أو القومية والثقافة القومية الاشتراكية التي تهدف لتحقيق تعبئة واسعة بإيديولوجية الحزب الحاكم و حسب . مناهج التعليم السائدة تجد ما يعزز جهودها في إنتاج وعي مشوه بالحياة عموماَ ، فمسألة فصل المدارس في المرحلتين الإعدادية والثانوية إلى مدارس ذكور ومدارس إناث ، تضع الشباب في مرحلة المراهقة في وجه محرمات اجتماعية ورسمية ، الأمر الذي يسمح بقيام تصورات وهمية ومشوهة لكل جنس عن الآخر ، ليصل الأمر بهم في الجامعة إلى إقامة علاقات عاطفية مرضية ، مع ما تنتجه وتخلفه في نفوسهم من عصاب نفسي وفهم مرضي ، وإقامة علاقات غير سوية من الناحية الجنسية أحياناَ . من جهة أخرى تبدأ عملية تطويع الفرد على مستوى الوعي من خلال "منظمة الطلائع" التي تأسست في العام 1974، الأمر الذي يجعلهم ينتقلون بشكل غريزي نحو تقبل أشكال التطويع الأخرى (6). في المرحلة الإعدادية ينسّب الأفراد لاتحاد شبيبة الثورة ، المنظمة الرديفة لحزب البعث التي تأسست عام 1963 ، ليصبح التنسيب للحزب أمراَ روتينياَ في بداية المرحلة الثانوية، دون أي نقاش أو حوار ،و في غياب أي تقدير لطبيعة المرحلة التي يمر بها الفرد التي لا تؤهله في ذلك الوقت لاتخاذ قرار بالانضمام لحزب سياسي أو تبني رؤية فكرية سياسية محددة . عامل الخوف الذي تنقله العائلة لأبنائها ، بحكم خبرتها الماضية بالسلطة وآلياتها ، وعامل رهن التوظيف والسفر والوضع الشخصي للفرد في المجتمع بالبعثيين ، والإغراء بإضافة عدد من العلامات للمجموع العام في الثانوية للحزبيين والشبيبيين والصاعقة والمظليين ، جميعها تساهم في دفع المترددين في مرحلة لاحقة إلى الانتساب . في الجامعة ، يرصد الطالب منذ اللحظة الأولى ، فانتسابه لها يقترن بتقديمه استمارات عديدة توزع على الفروع الأمنية ، ثم يجد "الاتحاد الوطني لطلبة سوريا" في انتظاره، الذي أصبح هو الآخر إلزامياَ وتابعاَ للحزب الحاكم، بالإضافة إلى دروس التدريب العسكري والمعسكرات الصيفية ، لتتضافر بالتالي جهود اتحاد الطلبة ومقرات التدريب العسكري والفرق الحزبية المتناثرة في جميع الكليات لإكمال دائرة مغلقة نادراَ ما يفلت منها أحد . بعض عناصر الهيئات الإدارية تكلف بمهام أمنية لرصد أوضاع الجميع ، أما علاقة الطلاب بالاتحاد فيمكن القول إنها علاقة " تجنب"، إذ لا يساهم في نشاطاته وفعاليته سوى عدد محدود منهم ، ويظهر ذلك في المؤتمرات الطلابية التي تفتقر لأي مبادرة جدية تجاه مشاكل الطلاب والنظام التعليمي بشكل عام، أما النشاط السياسي فهو شبه معدوم للتيارات والأحزاب السياسية الأخرى في الجامعة بموجب ميثاق " الجبهة الوطنية التقدمية " الذي يحظر العمل في صفوف الطلبة والجيش. يمكن اعتبار فترة الحياة الجامعية، بحكم الانفلات النسبي من مؤسسة العائلة، فترة نموذجية تبلغ فيها حاجة الشاب إلى الانتماء ذروتها، إلا أنه يصطدم مجدداَ بمؤسسات أقوى وبآليات تعليمية مرهقة وبهيئة تدريس تفتقد الكفاءات المطلوبة (7). ج- المؤسسات الوسيطة ( النقابات والاتحادات ) : تخرج الجامعات السورية ألوف الشباب الذين يحملون شهادات لا علم فيها، و لا يتوافر لهم فرص العمل المناسبة. وفي حال توافر الفرصة يكتشف الشباب المتخرج حديثاَ المفارقات العديدة بين ما تعلمه والعمل الذي يمارسه ، و يقترن التخرج بالانضمام إلى المؤسسات الوسيطة ( النقابات ، الاتحادات ) التي تعبر هي الأخرى عن القيم الرسمية السائدة . النقابة، بحكم الآليات السائدة فيها وفساد عناصرها القيادية، جعلت أعضاءها ( الشباب على الأخص ) ينفضون عنها ولا يستذكرونها إلا في الأوقات التي يحتاجون فيها لبعض الأوراق التي تعينهم على مزاولة المهنة أو لحاجتهم للسفر. يتعامل الشباب مع النقابة بوصفها إحدى مؤسسات الدولة ، بل ومؤسسة ملحقة بحزب البعث ، وينظرون لذلك على أنه أمر طبيعي ، أما فكرة استقلالية النقابة عن السلطة وأجهزة الدولة ، فهي لا تخطر في البال وخارجة عن تصوراتهم بحكم سنوات الإعداد الطويلة التي تعرضوا لها قبل الانتساب إلى النقابة ، وبحكم أن معظم الشباب السوري خلال الربع قرن الأخير لا يعرف شيئاَ عن آليات العمل النقابي السوية ، أو عن تاريخ النقابات في سورية التي حلت من قبل السلطة في نيسان عام 1980 ، كما لا يعرف معظم الشباب أن النقابات أعيدت إلى العمل في منتصف عام 1981، ولكن بعد إلغاء قوانينها التنظيمية ونظمها السابقة التي صدرت عام 1973، واستحداث قوانين جديدة متخلفة عن سابقتها تكبل النقابات. لا يقف الأمر عند هذا الحد ، بل إن التدخل المباشر للسلطة في العمل النقابي ، وتكليف النقابة بمهمات أمنية بهدف ضبط إيقاع أعضائها وتهديدهم بوسائل عيشهم ومحاصرتهم مهنياَ إن لزم الأمر ، أفسح في المجال لظهور قيادات نقابية فاسدة زادت الأمر سوءاَ ، وفاقمت من ابتعاد الشباب عن نقاباتهم التي كان يمكن لها أن تقوم بدور فاعل في حل مشكلات الشباب الخاصة بالعمل المهني والبطالة وتوفير الأجواء الاجتماعية المتناسبة معهم .
د- وسائل الإعلام المحلية والعالمية: جرى تكريس الإعلام السوري على مدى عقود من أجل الدعاية للسلطة والحزب الحاكم ، ليتخذ بجميع أشكاله طابع التحشيد الذي يفتقد لأي شكل من أشكال النهوض بوعي الفرد والارتقاء بوجدانه الإنساني وحسه الوطني ، وتقديم المعرفة والتنوع الخلاق والمتعة في آن واحد ، الأمر الذي ساهم في تعميق حالة اللامبالاة وبناء حالة تخارج وقطيعة ما بين المجتمع والدولة . احتكار وسائل الإعلام ، و تأميم الأفكار والآراء ، وممارسة سياسة التعتيم الإعلامي و حجب الحقائق السياسية والأحداث الواقعية ، جعل المجتمع هزيلاَ ، و ترك أثرا واسعا في أرواح الناس وضمائرهم ، وفي طرق تعبيرهم التي استندت إلى الاصطناع والمجاراة ، و افتقاد العفوية في تقديم البرامج وصياغة الإعلام وإجراء الندوات والمقابلات التلفزيونية ، فكل شيء معد سلفاَ ، السؤال والجواب ، وكل شيء تحت الرصد والسيطرة ، و يكفي متابعة برامج الأطفال ( برنامج طلائع البعث ) وبرامج الشبيبة و الطلبة ، لنعرف إلى أي مدى جرى نزع الحالة العفوية في التعبير . لم يتغير الإعلام خلال السنوات الخمس الأخيرة ، ومازال قائماَ على مجموعة المرتكزات التي تنتمي إلى الماضي ، فالجرائد هي الجرائد ، والتلفزيون ما زال على حاله البائسة بآلياته وبرامجه ووجباته الإعلامية الفقيرة ، على الرغم من التطور الهائل في الإعلام ، و بعد أن أصبحت الآراء والأفكار والنظريات والمنتجات الإعلامية تنتقل بسرعة عالية عبر أركان الكرة الأرضية بواسطة الإذاعات والفضائيات و الإنترنت . هذا التطور الكبير سمح للشباب السوري بتوسيع دائرة معارفهم واطلاعاتهم وإيجاد طرائق تعبير خاصة بهم من خلال مواقع الإنترنت العديدة على الأخص ، لكنه لم يسمح لهم للآن بتكوين اتجاهات عامة ورؤى محددة ، في الوقت الذي تزداد فيه حاجتهم للانتماء وتشكيل الاتجاهات في هذا العالم المعقد والمتشابك والمليء بالأفكار والآراء والاتجاهات المختلفة ، بل إنه يزيد من اغترابهم وشعورهم بعدم الجدوى . ه- المناخ السياسي العام : خلال العقود الأربعة الأخيرة جرى تقزيم الحياة السياسية ، لتقوم تدريجياَ على حزب واحد ولاعب واحد وسيطرة أحادية وشاملة على كل مقومات ونشاطات الحياة المجتمعية والمدنية والإعلامية وغيرها ، دون منافسة ، أو رقابة على ما يجري، خاصة مع وجود المادة الثامنة من دستور عام 1973 التي أكدت على أن " حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد للدولة والمجتمع ، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب في خدمة الأمة العربية ". يضاف لذلك أن ميثاق الجبهة الذي وقعته الأحزاب آنذاك ، وتعهدت فيه باستبعاد الطلاب / الشباب من دائرة نشاطها وعملها ، كان بداية نهاية تلك الأحزاب ، خاصة مع حرمانها من فتح مقار رسمية لها والإعلان عن برامجها ونشاطاتها ، ومنعها من إصدار صحافة حزبية حقيقية ، ليصبح معظمها تدريجياَ مؤسسات متخشبة لا تملك إلا عدداَ محدوداَ من الكوادر الهرمة. هذه الآليات حولت مؤسسات الدولة والمجتمع إلى " مساكن " لا تحتوي على أي شكل من أشكال الحياة المنتجة والمثمرة ، و أعادت صياغة البشر ليكونوا ، في معظمهم ، دون طموح وملامح وتمايز ، و لتصبح البلاد أمام مشكلة سياسية – أخلاقية / إنسانية تؤكد وتعيد إنتاج نفسها في كل اللحظات والمجالات. هذا المناخ السياسي أثر، ولا يزال، في الاتجاهات السياسية و الحياتية للشباب السوري، وفي نموهم الروحي والقيمي . الاتجاهات المتولدة عديدة، ويعتبر إحساس اللامبالاة وعدم الاكتراث الاتجاه السائد ، و هو يتلازم مع حالة من التشظي على مستوى القناعات الفكرية والسياسية ، أي حالة من الآراء والتصورات الشبابية التي لا يجمعها جامع . هذا الاتجاه موجود داخل صفوف حزب البعث وخارجه ، فالمنتمون للحزب ، غالباَ ما ينقطعون عن حضور اجتماعاته ، ويحضرون عندما يتحول الأمر إلى مشكلة حقيقية في حياتهم ، أو من أجل دفع الاشتراكات المالية المتراكمة . هذا السلوك إزاء الحزب لم يكن كذلك في فترات سابقة ، أي خلال الثمانينات ، فقد كان يترتب على عدم الحضور إجراءات شديدة ، كالاستدعاءات المتوالية من قبل الأجهزة الأمنية . و يعبر اتجاه اللامبالاة عن نفسه بأشكال عديدة ، كالرغبة في الهجرة ، أو الرغبة في تحقيق المصالح الفردية بأي طريقة كانت ، و بسيادة قيم استهلاكية ، وحالة من التشظي الروحي والنفسي عند الشباب . أما الموجودون داخل أحزاب الجبهة، فعددهم محدود، وهم موجودون بحكم وجود آبائهم أو أقاربهم، وغالباَ ما يكون نشاطهم مقتصراَ على النشاطات الأدبية والفنية والاجتماعية وأعمال الكشافة. وبحكم سيطرة ما هو سياسي على كل مجالات الحياة ، خاصة الوضع الثقافي ، تكون مثل هذه النشاطات غير منتجة ، ولا تتضمن جوانب إبداعية حقيقية على صعيد الفرد أو المجتمع ، فانعدام المناخ الديمقراطي وثيق الصلة بعدم وجود سينما حقيقية أو مسرح جاد أو نشاط فني أدبي ذي قيمة من أي نوع ، وبالتالي تكون مثل هذه النشاطات مجرد أشكال لتفريغ الحيوية المكبوتة عند الشباب . هناك اتجاه آخر عند الشباب يبرز في تصعيد انتمائهم للعائلة أو العشيرة أو الطائفة ، أو تصعيد انتمائهم للأقليات القومية المتناثرة في سوريا ، على حساب الهوية الوطنية السورية ، فهناك بعض الجمعيات ذات النشاط الخيري والاجتماعي توفر مثل هذه الفرصة للشباب ، كالجمعية الشركسية والجمعيات المسيحية والإسلامية والجمعيات الخاصة بالأقليات الدينية الأخرى ، مثل " المجلس الأعلى الإسماعيلي " ، وغيره ، فضلاَ عن الجمعيات التي تقوم على مستوى العائلات بهدف المشاركة في حل بعض الأزمات المادية الخاصة بالشباب (8). أما الاتجاه الديني فهو عظيم الحضور ، وقد لعبت كل العوامل التي ذكرناها سابقاَ في توسيع انتشاره ، وهو متفاوت في حدته ، بدءاَ من القناعات الدينية البسيطة ، مروراَ بالاتجاهات الدينية الإصلاحية ، والاتجاهات الدينية التقليدية غير السياسية ، وصولاَ حتى التيارات الإسلامية المتطرفة ( وهو الاتجاه الأكثر اتساعاَ خاصة بعد كل التطورات الحاصلة في المنطقة ). أما الشباب الموجودون في أحزاب المعارضة، فعددهم ضئيل جدا، وهم أبناء أو أقارب لأفراد معارضين أصلاَ، ونادراَ ما يحدث أن ينتمي الشاب لحزب آخر غير الذي ينتمي إليه والده. الحياة الحزبية في سوريا مشوهة ، فقد لعبت الأحزاب السياسية على اختلاف مواقعها وانتماءاتها دوراَ سلبياَ في حياة أفرادها ، إذ إن الشعارات الكبيرة ، وتقديس الجماعة لدرجة إلغاء أي قيمة للفرد تجاهها ، حول الأفراد إلى دمى ، وأنتج في المآل تشوهات على صعيد الفرد والجماعة في آن معاَ . عموماَ يجد الشباب السوري نفسه اليوم في حالة تخارج مع ما يحيط به أو رفض لكل ما يعرض عليه ، ولا يكاد يقيم وزناَ لما هو موجود من أحزاب سياسية ، خاصة في ظل قصور خطابها السياسي لغة ومحتوى ، وعدم وجود أشكال إبداعية جديدة من الممارسة السياسية ، ومع استمرار التيارات السياسية التقليدية التي تتنافس على استقطابهم . 3- الشباب السوري و الدور المطلوب: تقف اليوم جميع القوى السياسية ( البعثية والناصرية والماركسية والإسلامية ) ، وجميع التيارات الفكرية ( الحداثية والتراثية والتوفيقية ) عاجزة أمام الفئة الأوسع من الشباب السوري ، أي الشباب الذين لم يحددوا خياراتهم وانتماءاتهم بعد ، فما عاد أحد قادراَ على استقطابهم وإغرائهم ،خاصة مع هذا التطور الهائل في العلوم والتكنولوجيا والتغيرات العالمية المتسارعة . في الجانب المقابل يقف الشباب السوري حائراَ أمام أحواله ، متردداَ في خياراته ، ومشوشاَ في انتماءاته ، وعاجزاَ عن التقدم باتجاه تحسين أوضاعه الاقتصادية ، ومليئاَ بالهواجس وعدم الاطمئنان تجاه المستقبل . هذه الأحوال تتطلب مبادرة الشباب وسعيهم لبلورة خياراتهم ورؤاهم ، ومحاولة تجديد ما هو موجود و بث الروح فيه ، أو إبداع أشكال جديدة للتعبير عن أنفسهم ، والمشاركة في تحسين أوضاعهم ، وليكون لهم دور في بناء وطنهم ، فقد يكون هذا الدور هو الأكثر أهمية والأشد حسماَ في مستقبل وطنهم . هوامش و مراجع: - (1) محمد قاسم عبد الله: التنشئة الاجتماعية للتفكير السياسي، مجلة الفكر العربي-عدد 97 صيف 1999، ص 181. - (2) هشام سرابي: مقدمات لدراسة المجتمع العربي، الأهلية للنشر و التوزيع-بيروت 1985، من ص 27- ص64. - (3) طلال عبد المعطي مصطفى و عدنان أحمد مسلم: ثقافة الشباب السوري، مجلة الفكر العربي شتاء 2000 عدد 99 ، ص 5 . - (4) مصطفى حجازي: سيكولوجية الإنسان المقهور-معهد الإنماء العربي، بيروت 1980 الطبعة الثانية، ص 145. - (5) حازم نهار: التأخر في المجتمع العربي/دراسة تحليلية نفسية: بحث علمي لنيل شهادة MD في الطب البشري، فصل طرائق تدريس المواد التعليمية-دار الينابيع 1994. - (6) تميم و ماجد: أوضاع الشباب السوري-فصل من كتاب: حقوق الإنسان و الديمقراطية في سورية-منشورات أوراب و اللجنة العربية لحقوق الإنسان: فيوليت داغر و آخرون 2001 ، ص 391 . - (7) محمد سبيلا: الشباب و الأيديولوجيات، مجلة الوحدة عدد 39 كنون الأول 1987 ، ص 17-22 . - (8) تميم و ماجد: أوضاع الشباب السوري، مرجع سابق.
#حازم_نهار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خطاب -وطني- زائف في مواجهة حقوق الإنسان
-
الخارج و السلطة يحدّدان معنى -الوطنية-
-
قصة إعلان دمشق
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج 8 من 8
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج 7 من 8
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج 6 من 8
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج-5 من 8
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج 4 من 8
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج-3 من 8
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج 2 من 8
-
تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج 1 من 8
-
مؤتمر البعث: محاولات بائسة لضمان -الاستمرارية-
-
منتدى الأتاسي طليقاَ
-
سعد الله ونوس: من مسرح التسييس إلى مسرح المجتمع المدني
-
على أبواب مؤتمر البعث: لا قدرة للمعارضة على تفكيك النظام
-
هل يبقي البعث على صيغة - الجبهة الوطنية التقدمية - ؟
-
مستقبل لبنان والعلاقات السورية - اللبنانية
-
سعد الله ونوس : ملحمة صراع بين الحياة و الموت
-
إشكالات حركة حقوق الإنسان في سورية و المنطقة العربية
-
ملاحظات أولية للخروج من أزمة الأحزاب السياسية
المزيد.....
-
-أخبرتني والدتي أنها عاشت ما يكفي، والآن جاء دوري لأعيش-
-
لماذا اعتقلت السلطات الجزائرية بوعلام صنصال، وتلاحق كمال داو
...
-
كيم جونغ أون يعرض أقوى أسلحته ويهاجم واشنطن: -لا تزال مصرة ع
...
-
-دي جي سنيك- يرفض طلب ماكرون بحذف تغريدته عن غزة ويرد: -قضية
...
-
قضية توريد الأسلحة لإسرائيل أمام القضاء الهولندي: تطور قانون
...
-
حادث مروع في بولندا: تصادم 7 مركبات مع أول تساقط للثلوج
-
بعد ضربة -أوريشنيك-.. ردع صاروخي روسي يثير ذعر الغرب
-
ولي العهد المغربي يستقبل الرئيس الصيني لدى وصوله إلى الدار ا
...
-
مدفيديف: ترامب قادر على إنهاء الصراع الأوكراني
-
أوكرانيا: أي رد فعل غربي على رسائل بوتين؟
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|