|
البوسطجي .. ملك الشوارع
محمد أبو زيد
الحوار المتمدن-العدد: 1443 - 2006 / 1 / 27 - 10:13
المحور:
الادب والفن
علي دراجته القديمة، حاملا حقيبته الجلدية البنية، كان «عم عبد العاطي» يطوف شوارع القرية حاملا بريده اليومي.. يقف قليلا.. يحدق جيدا في العناوين، قبل أن يتجه الى المنزل المقابل، يطرق الأبواب، أو يرفع رأسه الى بلكونة الدور الثاني مناديا «يا أستاذ محمد، جواب علشانك» ثم ينصرف الى بيت آخر.. وكلما قل عدد الخطابات في حقيبته، بانقضاء ساعات النهار يزداد تفاؤلا. «عم عبد العاطي» الذي ترك مهنته منذ سنين يسير في نفس الشوارع، حاملا حقيبته، وان كانت فارغة هذه المرة، لكنه كما قال لي «تعودت عمري كله على حملها» قبل أن يجلس أمام أي مسجد يرقب وجوه المارة الذاهبين لأعمالهم والعائدين منها، يعرفهم بالاسم ويعرفونه جيدا.
ساعي البريد هو ملك الشوارع .. هو الذي يعرفه كل الناس وأحيانا ينتظرونه على ناصية الشارع في الفترات العصيبة، يكرهونه أحيانا ـ بلا ذنب ـ إذا جاء حاملا خبرا سيئا، يتهمونه بالفضول، ويعتبرونه واحدا من أسرتهم، بديلا عن ابنهم المسافر، حين يأتي حاملا خطاباته، وأخباره «المهنة راحت عليها» يقول عم عبد العاطي رغم انه لا يعرف ما هو «البريد الإلكتروني» ولم يجرب مرة أن يرسل «ايميلا» ويضيف: الناس أصبحت تفضل أن تتصل بالتليفون، وبعد أن انتشرت التليفونات الجوالة. اصبح الشخص بدلا من أن يرسل خطابا يظل في البريد لمدة أسبوع .. فانه يتصل .. التليفونات الآن في كل بيت، حتى المسافرون في الخارج للعمل يفضلون الاتصال.
هناك ايضا البريد الإلكتروني الذي لا يعرفه عبد العاطي فبضغطة واحد تستطيع أن ترسل أطول رسالة أو أي صورة لأي مكان في العالم.. يمكنك أيضا أن ترسل رسالتك بالفاكس لتصل في نفس اللحظة، يمكنك أن تجري اتصالا.. لتستغني بكل هذا عن ملك الشوارع القديم، البوسطجي..
البوسطجي أو ساعي البريد، أحدى الشخصيات التاريخية، والتي تحولت الى فولكلورية .. قديما كان يسافر على جواده حاملا الرسائل من الملوك الى الملوك، أو حاملا نذيرا بالحرب، أو حاملا الجزية، أو قادما من الباب العالي الى باقي دول الخلافة، ومع ظهور طوابع البريد والطائرات والقطارات أصبحت مهمته قاصرة على التنقل داخل البلد، يحفظ شوارعها وبيوتها يعرف أولادها وبناتها ورجالها ونساءها بالاسم، ويعرف أخبارهم أيضا.
عم عبد العاطي الذي درس حتى السنة السادسة الابتدائية لم يشاهد اياما مثل فترة السبعينات «كانت أيام عز والله معظم الاولاد سافروا في مرحلة الانفتاح للعمل، وكانوا يرسلوا أخبارهم وحوالاتهم ولان هناك قطاعا كبيرا غير متعلم كان عم عبد العاطي يقوم بقراءة الرسائل. وطمأنه الأهل. وعندما كان المسافر الغائب يرسل حوالة كان أهله لا ينسونه»، أيضا شخصية البوسطجي أيضا إحدى الشخصيات الأدبية الهامة، تناولها الكاتب الراحل يحيى حقي في «دماء وطين» والتي تحولت الي فيلم بعنوان البوسطجي عام 1968 قام بإخراجه حسين كمال وبطولة شكري سرحان وزيزي مصطفى ويحكي عن عباس أفندي البوسطجي الذي ينقل الى قرية نائية بصعيد مصر ويحاصره فيها الملل والوحدة ولا يجد ما يسليه إلا أن يقوم بفتح الخطابات الواردة والصادرة من والى أهالى القرية، ومن خلال متابعته لتلك الخطابات يكتشف وجود علاقة بين إحدى الفتيات ورجل وقد حملت منه، ويكتشف الأب جريمة ابنته فيقتلها، اما عباس أفندي فيؤنبه ضميره لأنه لم ينقذ هذه الفتاة بإظهار الخطاب الذي يعدها فيه حبيبها بالزواج فيعود الى القاهرة بعد أن يقوم بإلقاء عشرات الخطابات في الهواء مما يوحي للمشاهد بان تلك الجريمة سوف تتكرر كثيرا.
يرفض عم عبد العاطي ان يكون مثل عباس أفندي ويقول «كنت مثل وكالة الأنباء المتنقلة اى أحد يقابلني يسألني ايه الأخبار، فيه جوابات جديدة، لكني لم اكن افتح خطابات أحد، ولم اكن انقل أخبار أحد الى أحد، وكان أبناء المنطقة كلها قديما يجعلونني اقرأ لهم خطاباتهم لا طمئنهم على أولادهم.
ويحكي عن مواقف كثيرة محرجة ومحزنة، عن المرأة التي مات ابنها في الحرب ورغم ذلك تأتي إليه كل يوم في «مكتب البريد» لتسأله عن خطابات من ابنها، او الاب المريض الذي يأتيه ليسأله «ابني بعت حوالة».
في روايته الجميلة «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه «يتناول الروائي العالمي» غابرييل غارسيا ماركيز «قصة الكولونيل الذي يذهب كل يوم الى البريد منتظرا مكافأته. فطوال ست وخمسين سنة منذ انتهت الحرب الأهلية الأخيرة لم يفعل الكولونيل خلالها شيئا سوى الانتظار. كما يتناولها الأديب الأميركي جيمس جالاهانكيني في روايته الأولى عام 1931 ساعي البريد يطرق الأبواب مرتين».
«هناك فرق كبير بين البوسطة زمان والآن، زمان كانت البوسطة هي المكان الوحيد لجلب الأخبار، خاصة في فترات الحروب، اما الآن فهناك مائة طريقة، زمان كان البوسطجي ينظر اليه بعين الشك» يتابع عم عبد العاطي، كما انه لا يوجد إقبال الآن على هذه المهنة ،الشباب لا يحبونها، ولا يحبون اللف طول النهار مع انها خدمة إنسانية.
اشهر رسالة بريد هي التي جاءت الى الأديب يوسف إدريس وكتب عليها من الخارج «الى الأستاذ يوسف إدريس – جمهورية مصر العربية، وبالفعل وصلت الرسالة»، شيء من هذا يحكيه عم عبد العاطي. «في القرى لا توجد أرقام على البيوت، ولذلك يجب أن تعرف الناس جيدا وتعرف عائلاتهم».
ساعي البريد يحمل حكايات القدر وتصاريفه، فهو يحمل أخبار الفرح والحزن، الحياة والموت والوجد والفقر ويحكي عم عبد العاطي: هنا يكره الناس بوسطة الحكومة خاصة في القري ويرونها تأتي حاملة مشكلة، وهم الذين لا يتعاملون معها إلا في أضيق الحدود، ولا تتوطد علاقتي بهم إلا إذا سافر أحد أبنائهم للعمل في الخارج وقتها فقط، تبدأ العلاقة ... والتي قد تستمر حتى بعد عودة الغائب.
اشهر من عمل بوسطجيا، هو والد الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، هناك أيضا الروائي الكبير إبراهيم اصلان، والذي عمل في بدايته بوسطجيا وكتب عن تلك الفترة رواية بعنوان «وردية ليل» ويقول ان البناية التي كان يأتيها قديما حاملا لها البريد اصبح الآن يعمل فيها.
محبو «البوسطجي» كثيرون، تغريد من مدينة نصر تحب البوسطجي أيضا، لكنها منذ ان سكنت في هذا الحي لم تر ساعيا للبريد، وتقول «في بيت أبى في شبرا يوجد ساع للبريد يأتي على دراجته حاملا للرسائل وينادي على أصحابها، وعندما خرج ساعي البريد على المعاش جاء لوداعنا، وعرفنا بزميله الجديد»، مشيرة الى أن ساعي البريد ربما يبدو اكثر احتكاكا بالمناطق الأكثر شعبية من المناطق الراقية مثل مدينة نصر.
تغريد قالت لي انه لا شيء يعوض ساعي البريد، فالنقود والحوالات التي تأتي من الخارج تأتي في البريد حتى الآن، ولا يمكن أن ترسل بالايميل، كما إنها ترى أن هناك أمية ثقافية، تحول بين كثيرين وبين استخدام البريد الإلكتروني. الخطر الحقيقي الذي تراه تغريد هو رسائل الجوال، فإرسال رسالة عبر الجوال، أسرع وأسهل من إرسالها في البريد، ثقافة الكتابة في اعتقاد تغريد تراجعت، وقالت لي «قديما كنت اكتب ملاحظات أنا وزوجي في البيت على ورق إذا خرج أحدنا الآن أصبحت هناك رسائل الجوال».
على الجانب الآخر من تغريد يقف هاني إبراهيم الذي يدرس الكومبيوتر، وقال لي إن ورق تنسيقه قدمه عبر موقع وزارة التعليم على الإنترنت ولا يذكر هاني يوما جاءت رسالة إليه، لكنه حكى لي عن أحد أصدقائه والذي يمارس هواية المراسلة والذي بالرغم من وجود بريد إلكتروني إلا انه يفضل البريد العادي.. على الأقل يجمع طوابع البريد..
هواية جمع الطوابع إحدى الهوايات التي تتهدد بالانقراض مع انقراض فكرة ساعي البريد، هناك أيضا وظيفة العرضحالى هذا الرجل الذي يجلس أمام أي مكتب بريد ليقوم بكتابة الرسائل وملء الاوراق الحكومية.
من يعرفون البريد المصري .. يعرفون تماما الصندوقين، أحدهما ازرق والآخر احمر أمام أي مكتب بريد بهما فتحتان صغيرتان من اعلى لإسقاط الخطابات فيهما، أحدهما للبريد الداخلي والآخر للخارجي.
ساعي البريد أحيانا كثيرة يساهم في صناعة تاريخ أشخاص ودول، فمن الممكن أيضا أن تصل رسالة الى شخص عادي لتقلب حياته وتغير تاريخه الشخصي، والتاريخ يقول أيضا عن ساعي البريد في أول وثيقة جاء بها ذكر البريد في حوالي عام 2000 ق.م وهي وصية كاتب لولده يحدثه فيها عن أهمية صناعة الكتابة والمستقبل الزاهر للعمل في وظائف الحكومة، ومن بين ما قاله «اما ساعي البريد فانه يحمل أثقالا فادحة، ويكتب وصيته قبل أن ينطلق في مهمته توقعا لما يصيبه، من الوحوش، والآسيويين». وفي مجموعة «رسائل تل العمارنة» الشهيرة هناك رسائل يعود تاريخها الي عام 1364 ق.م بين ملوك مصر القديمة وملوك الحيثيين وآشور وبابل وقبرص.
لا ريب أن «عم عبد العاطي» لا يمل من سماع أغنية «البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي»، فهو يرى أن كثرة الرسائل خير، لكن الزمان تغير، وأصبح ساعي البريد مثل الكائنات البدائية، اصبح يقاوم الانقراض ويصارع التكنولوجيا الحديثة.
اما الجيل الجديد، فمن حقه أن يرسل آلاف الرسائل عبر البريد الإلكتروني هذا الذي لا يحمل قلبا يخفق، أو يخاف على المرسل إليه، البريد الإلكتروني لا يأتي على دراجة، ولا يحمل بسمة صافية على شفتيه، البريد الإلكتروني ابن لهذا العصر، لكنه يسحق تحت قدميه مهنة قديمة قدم التاريخ.. البريد الإلكتروني قد يقتل يوما البوسطجي أو ساعي البريد وقد يجعلنا نكف عن الغناء، فالبوسطجية لن يشكوا بعد اليوم «من كتر مراسيلي!».
#محمد_أبو_زيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأخطاء المطبعية في الصحف.. يوم لك ويوم عليك
-
مملكة السماء لا تزال صالحة لإثارة الدهشة
-
حنا السكران
-
الشبابيك: عيون البيوت التي تكشف الشوارع
-
قبلات السياسيين.. بين العادات والفضائح والمصالح
-
لماذا كلما رأى مريد البرغوثي قتيلا مسجى ظنه شخصا يفكر؟
-
كل شيء جائز إلا الرصاص الحي
-
الهتيف : الحياة فوق الأعناق
-
ارتد جميع ملابسك فالسماء تمطر بالخارج
-
الحياة في مصر ثلاث درجات.. أشهرها الدرجة الثالثة
-
هل يضحك العالم العربي علي خيبته؟
-
الانقلاب : الطريقة المثلى للحكم في العالم العربي
-
الحرب العالمية الثالثة
-
أرصفة القاهرة : هامش الحياة حين يصبح متنا
-
هكذا يلعب الفن بالأشياء
-
ناجي العلي: ليه يا بنفسج تبتهج وانت زهر حزين
-
بطرس غالي ينتظر بدر البدور
-
في فلسطين يحتفلون بالأعراس حول فناجين القهوة
-
الحياة بالأبيض والأسود
المزيد.....
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
-
3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV
...
-
-مين يصدق-.. أشرف عبدالباقي أمام عدسة ابنته زينة السينمائية
...
-
NOOR PLAY .. المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقه 171 مترجمة HD
...
-
بجودة HD مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بالعربي علي قص
...
-
بجودة HD مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بالعربي علي قص
...
-
حالا استقبل تردد قناة روتانا سينما Rotana Cinema الجديد 2024
...
-
ممثل أميركي يرفض كوب -ستاربكس- على المسرح ويدعو إلى المقاطعة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|