عبد الرزاق السويراوي
الحوار المتمدن-العدد: 1442 - 2006 / 1 / 26 - 07:25
المحور:
الادب والفن
( قصّة قصيرة )
كان الزقاق خاليا إلاّ منهما , هو وأخوه , وكان وقع أقدامهما وسط هدوء الليل, يُسمع بوضوح. وحينما وصلا الى بيتهما , دخلا دون أن يكلم أحدهما الآخر .
دخل غرفته وأغلق بابها بهدوء..كان يتحاشى صرير الباب, خشية أن يوقظ زوحته واطفاله النائمين..الليل تجاوز منتصفه. رمى بجسده المتعب , فوق كرسي قديم , وحينما أسند ظهره على الكرسي , أشعل سيكارة وراح يدخن بهدوء, فكّر في هذه اللحظة .. لو ان كوبا من الشاي مع هذه السيكارة , لكان أفضل ولكنه إستبعد هذه الفكرة ,فالوقت متأخر , وهو لا يريد أن يوقظ زوجته التي ستواجهه بسيل من الأسئلة.. إكتفى بالسيكارة التي توهجت بين اصابعه وسط ظلام الغرفة الخفيف , فبانت كإطلاقة نارية حمراء ..جذب نفسا عميقا من السيكارة , ثم فكّ حزامه الجلدي , واستل من تحته مسدسا بقبضة بيضاء صقيلة. ظلّ ممسكا بالمسدس لوهلة بينما كانت نظراته مصوبة نحو يده وهي تمسك بالمسدس . رمى السيكارة ونهض متوجها نحو دولاب حديدي ففتحه , وضع المسدس في احدى خاناته ثم أغلقه وأستدارنحو فراشه وتمدد الى جانب زوجته ولكن محاذرا أن تشعر به..أغمض عينيه وحاول أن يستسلم للنوم , شعر بدفء الفراش يتسلل الى جسده المتعب, لكن عينيه أبتا إلاّ أنْ تبقيان يقظتين وها هو يفتحهما , فوقع بصره على صورة معلقة على الجدارالمواجه له تماما ثم سرعان ما أشاح بوجهه عنها ..كانت الصورة لفتى يبدوعليه أنه تجاوز العشرين , وكان بشاربين خفيفين وشعر اسود إسترسل فوق حافتي أذنيه,من الأعلى , غير أن الشبه بينهما يبدو واضحا جدا...أراد أن يبتعد بنظراته عن الصورة فلم يستطع , إذ وجد نفسه مشدودا لهاجس قوي يجبره على معاودة النظر الى تلك الصورة, لاحظ ثمة إبتسامة مرتسمة على الشفتين ....( .. ليس من المعقول أبدا أنني طيلة هذه السنين الطويلة لم أتنبه لهذه الإبتسامة, ربما يسخر مني لا بل هو يسخر مني فعلا ,وقد أكون مخطئا في ذلك ولكن العكس صحيح ايضا, ربما هو راض عني ...لك الحق في ذلك يا أخي , لكنني متأكد تماما أنك كنت مكاني لما فعلت غير الذي فعلته في هذه الليلة ...) همس بذلك مع نفسه ثم أغمض عينيه وحاول أن ينسى الصورة أو على الأقل يتناساها , ونجح فعلا في ذلك , فقد شعر بنوع من الطمأنينة الزائفة تدغدغ مشاعره ثم سرعان ما وجد نفسه ملقى بغتة في خضم أحداث تلك الليلة البعيدة , كانت ليلة شتائية باردة وكان المطر فيها يتساقط بغزارة كغزارة دموع أم ثكلى ....تعالت أصوات طرقات عالية ومتوالية على الباب الخارجي , فتوجّه أحد إخوته نحو الباب , وحينما شرع بفتحه , فوجئ جميع من كان في البيت , بدخول خمسة رجال وهم شاهرون أسلحتهم..كانوا ملثمين , غير أنّه إستطاع في وقتها أن يتعرف على أحدهم , خيّم الصمت للحظة خاطفة ثم سرعان ما إنكسر فجأة بوقع خطى متسارعة, كانت تأتي من حهة الطابق العلوي من البيت , فأسرع الرجال المسلحون باتجاه السلم وأرتقوا درجاته بسرعة عجيبة فوصلوا دون عناء الى السطح , شاهدوه في هذه اللحظة, يقفز الى السطح المجاور, وفجأة دوى صوت إطلاقات نارية , حيث تقيأت إحدى بنادق الرجال الخمسة ,ويبدو أنها ألقت بكل ما في جوفها , تماما كما هي السماء في هذا الوقت بالذات , فأنها هي الأخرى ما زالت تتقيأ مطرا غزيرا, وفي هذه اللحظات بالضبط إرتسمت في كبد السماء ومضة برق فبدت كأنها خارطة مضيئة فانعكس بريقها الحاد على السطح المجاور ذي البلاط الأبيض , فبانت ثمة جثة قد سقطت للتو, ولكنها بدت هامدة لا حراك فيها , غير أن سيلا من الدم المنبعث منها كان يمتزج مع ماء المطر الذي ما زال يتساقط بغزارة في تلك الليلة .... في هذه الليلة وقبل ساعتين مضتا تقريبا, تسلّق هو وأخوه , الجدار الخلفي , من جهة حديقة البيت , ذات الأشجار الكثيفة المتشابكة , وعبر نقطة ما , طالما خطّط لها , أصبحا على وجه السرعة , في وسط البيت تماما ,لا بل هما الآن , في داخل الغرفة , غرفة ذلك الرجل الذي إستيقظ مذعورا.. وهو ينظر ينظر بعينين وبهلع نحو رجلين يحملان سلاحا ويقفان بمواجهته , وليس أكثر من ذراع يفصل بينهما, كان يعرفهما بالتأكيد , ثم أخذ يبكي فيما شفتاه ترتجفان وبدأ يمرّر عليهما لسانه الذي بان في حركته كرأس أفعى خائفة ولكنها متوثبة. إصفرّ وجهه فبدا كما لو أنه مات قبل موته .. كانت معه في داخل الغرفة , زوجته التي أفترسها الإرتباك والذهول وكأنّها لا تعرف شيئا عما يدور أمامها في هذه اللحظات , وكان إبنه الصغير قد تجمد هو الآخر في مكانه كأنه تمثال من الشمع , غير أن نظراته كانت مشدودة بقوة باتجاه الرجلين المسلحين الذين لا يعرفهما ..مرّت عليه لحظات بالرغم من قصرها إلأّ أنه شعر بها طويلة جدا , لا بل انّه تمثّل في مخيلته بأن الكون بكل ما فيه قد توقف واستسلم للسكون, إلاّ من دقات قلبه المتسارعة . ثم في حركة مباغتة لا تتناسب مع ضخامة جسده , قفز باتجاه إبنه الصغير ولاذ به , وكان جسده وهو يحاول الإختباء خلف إبنه الصغير . قد تكوّر بطريقة تشبه الى حد ما , كرة كبيرة مصنوعة من لفائف القماش ..ظلّت نظراته متسمرة بقوة نحو فوهتين صغيرتين مصوّبتين نحوه.... ولكن الرجلين إستدارا نحو باب الغرفة وخرجا بصمت .
#عبد_الرزاق_السويراوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟