منير العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 1441 - 2006 / 1 / 25 - 09:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ملاحظة:
المقصود بـ "السياسي " حيثما وردت هو: السياسي الشمولي .
* * * * *
أسترد المثقف إعتباره بسقوط الأنظمة الشمولية وإنحسار التفكير الشمولي وإعادة النظر الجارية على قدم وساق في نمط التفكير الأُحادي وادعاء احتكار الحقيقة , وخرج المثقف من إنزوائه الاختياري أو الإجباري الذي لجأ اليه هرباً من الاتهامات التعسفية غير المسؤولة. لقد حققت فرديته المفرطة , كشرط من شروط التسييج من أجل الابداع , نصراً على المطالبة بالانصهار وفقدان الملامح كواحدة من مستلزمات العمل الجماعي و الإرادة الموحدة التي طالب بها السياسيون كشرط من شروط الانتصار (على من , ومن أجل من ؟! ) , ومنذ ذلك الحين أي منذ هذا الانتصار ( إنتصار المثقف وليس غيره ) توفرت الفرصة للمثقف لكي يطرح نفسه كفرد قائم بذاته وواثق من نفسه , أو كمجموعة أو فئة إجتماعية ذات كيان محدد غير تابع , مدركةٍ لمصالحها طارحة نفسها ككيان قادرعلى المشاركة الفاعلة المستقلة في الحياة السياسية والاجتماعية دون تبعية , ووفق رؤية ذاتية , أي صادرة عن نمط التفكير الثقافي أو الابداعي , الذي يستلزم , ضمن أشياء أخرى , النظر الى الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية وآفاق تطورها من منظور آخر جديد يغلّب القيم الابداعية والجمالية والتناسق والانسجام والايقاع والعمق , والبحث الدؤوب عن الجديد . ومنذ إنتصار المثقف هذا , صرّح العديد من السياسيين : " ولكننا نحن مثقفون أيضاً "!! بعد أن كانوا قد كالوا الاتهامات للمثقفين طوال عقود من الزمن معتبرين إنهم : ليبراليون متسيبون ، نافذو صبر ، غير منضبطين ومتطيرون وما لا يحصى من النعوت . وبعد أن كانت كلمة " مثقف " أقرب إلى الشتيمة في الاوساط السياسية .
عانى المثقفون والمبدعون المنتمون الى الاحزاب السياسية بشكل خاص من قواعد الانضباط الصارمة وغير المبررة والتي حولت الاحزاب والمجتمع الى منظمات شبه عسكرية ، وكان المنظِمون البيروقراطيون يسلطون نار النقد الذي لا يرحم طالبين من المثقفين والمبدعين الالتزام بتنفيذ قواعد بالية للعمل التنظيمي عفا عليها الزمن ودون أدنى مراعاة للخصوصية ودون الأخذ بنظر الاعتبار أن المثقفين يقومون بعمل تعبوي دون قصد من خلال قرارهم الانحياز الى هذه أو تلك من الخيارات الفكرية والايديولوجية ومن خلال قوة المثال التي يقدمونها . أدت مثل هذه المعاملة الى أزمة حادة لدى أؤلئك الذين لم تسعفهم قواهم وصلابتهم الفكرية لاتخاذ القرار بترك العمل السياسي والتحليق بحرية في عالم الابداع الفسيح .
فمن هو , على وجه التحديد , المثقف وما هو تعريفه ؟؟ وكيف يصار, تحت ستار عدم الدقة في التعريف , الى إعادة سياسة التسلل من أجل الالحاق والضم , والتي يجري بمقتضاها ارتداء قناع المثقف وإستخدام أدواته ليس من أجل الثقافة لذاتها و إنما من أجل استخدامها كخادم ذليل للاهداف السياسية الشمولية أو من اجل الاقصاء , أي اقصاء المثقف غير المذعن من خلال الهيمنة على وسائل النشر والمؤسسات الثقافية , و من أجل التنصل من المسؤولية ؟
يساعد عدم الدقة في الترجمة وعدم الدقة في التعريف والتحديد في تعزيز هذا الالتباس ولكنه قطعاً ليس المسؤول عنه , فميل السياسي الى إلحاق المثقف هي حالة موجودة حتى بين أؤلئك الذين يتحدثون اللغات الاوربية والذين لا يشكون من إلتباس المصطلح كحامل للمفهوم . إذن فإن ما لدينا هو صراع لمفهومين في محاولة تفسير العالم , ليسا بالضرورة متناقضين , بل وربما يكمّل أحدهما الاخر . أما ما يجعل هذين المفهمين يتصارعان فهو الادعاء باحتكار الحقيقة ـ لدى
السياسي ـ وكذلك الادعاء بشمولية الاحكام و إستنفاذها لكل وجوه الحقيقة الموشورية , متعددة الوجوه. إنه صراع نفوذ مدعوم لدى السياسي بالقوة , الادبية أو المادية , أو بالمؤسسات .
المثقف هو ذلك الشخص الذي ينتمي الى تلك الطبقة أو الفئة الاجتماعية او الى ذلك الجزء من المجتمع التي تتحدد وظيفته أو دوره الاجتماعي ( ضمن التقسيم الاجتماعي للعمل ) في إنتاج النتاجات الثقافية والابداعية مثل النتاجات الادبية ( القصة والرواية والشعر والنقد ...الخ ) والنتاجات الفنية والتشكيلية والمسرحية والسينمائية , و يشمل ذلك أيضا الكتاب والمفكرون ..الخ والذين بمستطاعهم تكوين مفهوم وموقف مستقل وخاص , بهذا القدر أو ذاك , عن العالم . وبالرغم من وجود العديد من المثقفين الذين يعيشون على مداخيل نتاجاتهم كمصدر وحيد أو رئيسي للدخل الا أن ذلك لا يشكّل أحد شروط التعريف فالكثير منهم لا يستطيع أن يحقق أي مدخول من نتاجه الفكري حتى بالرغم من تميّزه , وذلك بسبب طبيعة المنتوج الثقافي نفسه .
يعرّف قاموس ( ( The advanced learner طبقة المثقفين ( Intelligentsia ) ـ وتشير أغلب المراجع الى أن أصل الكلمة روسي ـ بأنها: " ذلك الجزء من المجتمع الذي يمكن إعتباره , أو الذي يعتبر نفسه , قادراً على تكوين منظومة أفكار مستقلة ومترابطة " . ينطوي هذا التعريف ولاشك على شئ من عدم الدقة و الفضفاضية , فلا يمكن تحديد هوية الفرد الاجتماعية إستنادا الى حكمه على نفسه , كما أن مجرد تكوين منظومة الافكار غير كافية دون التصريح و الافصاح عنها بشكل من الاشكال , فالافكار الذاتية المكبوتة والمنعزلة وغير المصرح بها هي مجرد مونولوج عديم القيمة إلاّ إذا كان في سياق , أو من أجل إنضاج أفكار مصرّح بها عاجلا أو آجلا .
وفي اللغة العربية ينبغي التمييز بين كلمة " مثقف " باعتبارها صفة تطلق على شخصٍ ما , حيث يمكن للمرء أن يكون مثقفا وذلك بحيازته مجموعة من المعارف في حقل أو أكثر من حقول المعرفة , أما " المثقف " باعتباره عضواً في تلك المجموعة من الناس التي تمتهن الثقافة كمهنة أو كهوية فهو ما نحن بصدده ، وهذا التمييز ينطوي على أهمية تطبيقية حيث يتسلل إلى صفوف المثقفين أناس يمتلكون معارف محدد دون أن يقدموا أي نتاج إبداعي على وجه الاطلاق أو أي نتاج أصيل ويحمل أمثال هؤلاء ، في الغالب ، القناع المزيف والشفاف للمثقف الذي يفصح للمتفحص عن الذين هم حملة النفوذ الحزبي الضيق .
* * * *
أزعج المثقف الساسة وبشكل خاص العاملين منهم في الأحزاب ذات التطلع الشمولي والتعبوي , بسبب اعتزازه بفرديته و رفضه الانصهار, و بسبب طبيعته الشكاكة المتسائلة وصعوبة إنقياده وإثارته للعديد من الاسئلة " المزعجة " . يمتلك المثقف , بشكل عام , وعياً متقدماً أو حدساً , أوكليهما , فالافكار الخاطئة لديه تكون ذات ايقاع خاطئ . وهو يطرح موقفه باسلوبه الخاص , ضمن سياق إختصاصه الابداعي أو ضمن مشاركته في تحديد الموقف الفردي والجمعي في النشاطات اليومية وما هو أخطر ميوله التحديثية وديناميكيته في إستبعاد كل ما هو رتيب , هذا الميل المقلق الذي لا يعطي الوقت الكافي للتريث في إستنباط الاحكام , التي تتطلبها آليات المعرفة الكلاسيكية , مما يضفي عليه أيضا صفة إقتحامية تسبب الكثير من " الارباك".
نافس المثقفُ المبدعُ الساسةَ في النفوذ على الجماهير, التي هي , من وجهة نظر السياسي , المجال الحيوي لعمله الذي لا يرغب أن يرى فيه أية منافسة الاّ في حالة المثقف التابع الذي يتم إحتواؤه وتجيير نفوذه لمصلحة السياسي وحزبه , يترتب وفق هذا المنطق أن يقوم المثقف بتسخير فنه لمصلحة السياسي وحزبه ، وبعكسه فإنه متهم بالكسب الشخصي والنرجسية , وكان قيام المثقفين بتأسيس مؤسسات ونوادٍ خاصة لغرض النشاط الثقافي البحت ـ كشكل من أشكال إستقلالية المثقف و إدراكه لمهماته ودون واجهات تخفي توجهاً سياسياً , وعلى سبيل المثال لا الحصرـ هي أحد الكبائر خصوصا بالنسبة للاحزاب الشمولية التي لا ترى في الانسان قيمةً بذاته وإنما عنصراً قابلا للكسب , أي لَبِنة محتملة لبناء وتقوية الحزب الذي يصب في أغلب الاحيان في مصلحة الفرد الواحد كقائد ملهم ووحيد , يساق المثقف لخدمة الحزب الواحد الذي يحتكر الحقيقة والذي يمثله الفرد الواحد الذي يمثل الامة , ويُحشد المثقف في المعبد الخرافي الذي يتسع
لجميع أفراد الامة والمكرس لعبادة الفرد الاحد , تماماً على الضد من مهمته الطبيعية ـ التمرد والاعتراض.
إن التغييرات والانعطافات والانجازات التي يحققها مجتمع ما في مسار التطورات التاريخية هي ناتجٌ لتراكمٍ طويل من المسببات التي ساهمت فيها كل عناصر المجتمع بقدر متفاوت , إن هذه التغييرات ـ كالثورات أوالانجازات السلمية ـ هي , بتعبير آخر, ناتج لشبكة معقدة يصعب تتبعها من المسببات المتقاطعة , والدور الوحيد الذي يمكن , في هذه العمليات , رصده بسهولة هو دور الساسة الذين يضعون توقيعهم على الناتج النهائي لهذه الفعاليات المعمدة بالدم والجهد والتضحيات لأطياف واسعة من المجتمع , طارحين أنفسهم كمنقذين ملهمين جديرين بالعبادة .
تخلق آليات العمل السياسي شكلا من الثبات , مرتبطٍ بالافراط في الحسابات , وخاصةً , ولكن ليس حصراً, بالارتباط بالسلطة . وبما أن الساسة يحتاجون المثقف في كل الاحوال , فإن عليهم تدجنيه أو على الاقل كبح ديناميكيته أو عقلنتها , ويختار بعض المثقفين السير في ذيل الساسة لدوافع مختلفة , ليس أقلها المال , وهم بذلك يفقدون الشرط الاساسي للابداع : الاستقلالية المتعنتة . يوافق الساسة الشموليون عن طيب خاطر على هذا النوع من التدجين من أجل مكاسب
آنية قصيرة المدى , ولكنها كارثية على المدى البعيد , ذلك ان القضاء ـ بالاحتواء أو بالاقصاء ـ على مراقب مستقل ذي حدس وحساسية فائقة , وأحيانا وعي متقدم , قد يؤدي إلى تجنب الإزعاج على المدى القصير ولكنه في الوقت نفسه يحرم السياسي نفسه والمجتمع من مراقب مستقل , أي من أحد الاطراف المهمة المشاركة بفاعلية في الرؤية الجمعية لطرق حل المعضلات المعرفية والتطبيقية .
يندرج هذا في تكريس مصلحة الحزب باعتبارها مصلحة المجتمع نفسه , ان طول فترة الاعتقاد بهذه " الحقيقة " قد أدى الى رسوخها كظاهرة مزمنة في الذهنية السياسية مما جعل السياسي الشمولي يعمل على تحشيد كل شئ , بما في ذلك العمل الابداعي , لمصلحة الحزب مما يجعله يفرض على المبدع أن يكون أكثر وضوحاً في تحديد إنحيازه حتى يستطيع الانسان البسيط أن يستوعب الطبيعة التعبوية ( للنص أو اللوحة مثلاً ) مسقطاً العمل الابداعي في المباشرة . يسعى السياسي ,الذي يراعي المصلحة الحزبية الضيقة , الى ذلك بشكل آلي دون أية مراجعة أو محاولة لأعادة التقييم وحتى في الحالات التي تكون فيها مصلحة الحزب على النقيض من مصلحة المجتمع والوطن . على العمل الابداعي والنشاط الابداعي , إذن , أن يكون في مصلحة الحزب وبذلك يكون في الوقت نفسه لمصلحة الوطن , فليس بمستطاع المصلحة الوطنية أن تمر ألا من خلال المصلحة الحزبية , ويصار , كناتج آخر, تكريس " وظيفية" الفن والابداع , كنوع من الوظيفية المبتذلة والمباشرة , مثل البوسترية والخطابية, فمن وجهة نظر السياسي الشمولي
فانه لا قيمة لأي فن لا يخدم الحقيقة , بالطبع الحقيقة التي في ذهنه التي أسقطها تعسفيا لتمثل مصلحة الوطن والحقيقة . ولا يفهم السياسي والمثقف المسيّس لماذا يضيّع الكثير من المبدعين الوقت والجهد في البحوث الاسلوبية و الشكلانية ما دام الموضوع , صاحب الكلمة الفصل , واضحا بما يكفي لتجنب كل أنواع الصداع غير الضروري و ما دام بامكان المبدع , على سبيل المثال وليس الحصر , أن يكون مع الوطن المحاصر والمهدد دائما لأسباب لا يعلمها أحد ومع الفقراء الانقياء ضد الشر الكامن بشكل مزمن في الغنى والمال , وحيث الكسل و الصعلكة والهامشية هي الحامل الذي لا يكل ولا يبلى لكل أنواع الشرف والنقاء . وكذلك تكريس مفهوم الخطر القادم من الخارج , ووضع علامة المساواة بين الوطن والحاكمين والتلويح بتهمة العداء للوطن للرافضين للشمولية والعسف . هذا هو المنجم الذي لا يُستفذ للكتاب العقائديين المُجهز ببساطة والذي لا يحتاج الى كبير عناء .
فالجنود المجودون على جبهات القتال في حروب لا نهائية ولامعنى لها , الجنود المتعبون الساخطون المرعوبون من الموت الذي يتهددهم في كل لحظة , المحاصرون من ( العدو) من أمامهم ومن فرق الاعدام من خلفهم , المنتزعون من حياتهم الأسرية قسراً والذين يجدون بالكاد
ما يقيم أودهم من غذاء وماء , يُصوّرون أبطالا مفتولي العضلات , مورّدي الوجنة أصحاء متفائلين يقفون سداً بوجه عدوٍ ما قادمٍ من جهة ما من الوطن.
وتعمم حتى على الصغار وعلى الصبية في المدارس و في رياض الاطفال صورة " الشهيد " , ليس باعتبارة إنساناً فقد الحياة بعد أن إخترق جسده الرصاص أو تمزق بفعل قذيفة وخسر حياته وفقده أبناؤه وأهله , فيما يستوجب الرثاء والهلع , وإنما شخصٌ محظوظٌ متفوق على جميع الاحياء بموته , ذاك الذي سعى هو إليه بإرادة وتصميم , ويطلب من الصغار التصفيق لأبناء الشهداء ويكرس في وعي الاطفال أن الموت أهم من الحياة ، ويأسف الاطفال لأن أبائهم لايزالون على قيد الحياة حين يحظى أبناء الشهداء بالتصفيق والهدايا والحضوة . أن تموت "شهيداً" خيرٌ من أن تضل على قيد الحياة , والموت أفضل من الحياة ¸, هذه هي ثقافة الانظمة الشمولية والساسة الشموليين و الاصولية بكافة أشكالها .
تزخر وسائل الاعلام السمعية والبصرية والصحف والمجلات بالدراما والقصص عن شخصيات نزعت منها الحياة و تم ( نَمذجتها ) في مختبرات خاصة تنزع عنها الملامح الحياتية المأخوذة من الحياة اليومية متفجرة الالوان , والتي تتنوع بشكل لا نهائي بقدر تنوع الافراد على كوكبنا ويتم حشدها في تصنيفات قسرية تعسفية مختزله وإضفاء ملامح مسقطة عليها استناداً الى
تحليلات دوغمائية مسبقة , يتم إهمال ان الكائن البشري هو حالة منفردة فرادة مطلقة ليس له شبيه وليس له بديل , وإنه ليس رقماً يدرج في سجلات المواليد والوفيات , وتتحول الشخصية التلفزيونية أو الروائية الى موديل معدل ومشذب وفق متطلبات "المرحلة " جدير بالاقتداء من قبل البشر الملموسين , وبهذا تنقلب المعادلة : فبدلا من أن تكون الشخصيات الموجودة في الاعمال الابداعية إنعكاساً للشخصيات المحسوسة في الحياة اليومية , يقتدي الناس المحسوسون الواقعيون بالشخصيات التلفزيونية , لغةً وتصرفاً وسلوكاّ في عملية تمثيل جماعية . أن التحليلات الاجتماعية والسياسية التي تعنى بالملامح المشتركة لفئات أو طبقات إجتماعية واسعة تُهمل , لأغراض معرفية , الملامح الفردية من أجل دراسة الملامح العامة لسلوك الفئات والطبقات هذه , ولهذا السبب بالذات فانها لا تصلح الاّ جزئيا وضمن أدنى الحدود للاغراض الابداعية .
أن التلاوين التي لا تُستنفذ للحياة الواقعية الملموسة , والبعيدة عن التجريد تصيب عين المبدع العقائدي , الذي روضه الساسة الشموليون , بالعمى
* * * *
تخلق الانماط الثابتة من الانظمة الاجتماعية والمعرفية شكلا من أشكال الايقاع الذي يصعب الفكاك من أسره , يشبه النوم في الهدهده , و الأنكى انها تخلق الأوساط المستفيدة منه والمدافعة عنه , فكل نمط إجتماعي أو معرفي يخلق شريحةً منتفعة منه تحتاج الى منظومة فكرية , مقنعةً كانت أو هزيلة , لتبريره وبالتالي تبرير إمتيازاتها . أن هذا الشكل من الرتابة يُِكسر دائما بواسطة الصدمة التي توفرها الذهنية الابداعية لمفرطي الاستقلالية التي تنبذ , بازدراء وبعجاله , العابر واليومي والتافه , متقصيةً جوهر الاشياء اللامرئي فاسحة الطريق , على الجانب الآخر و كناتج عرضي , الطريق لحياة عادية لغير المعنيين بالتقصي . ان الذهنية الابداعية ليست حكراً على العاملين في المجال الثقافي بل هي متوفرة وضرورية لكافة المجالات المعرفية والتطبيقية بما في ذلك العمل السياسي ويرتبط تحقيق النجاحات في المجال السياسي , كما في غيره , بالقدرة على تحليل عناصر الواقع بطريق إبداعية , مبتكرة وغير مسبوقة , تباغت الايقاع المتبلد بنمط جديد من التفكير والسلوك .
يصار في عملية تبسيطية غير مسؤولة الى التنديد بالتسلكات غير المألوفة , ولكن المعلنة , لمثقفين فرادي على خلفية إختفاء الساسة كأفراد خلف الصورة الجماعية للحزب أو الجمعية أو الرابطة وتأخذ السياسة المعلنة و التعليمات والتوجيهات مصدرها من الصورة الجمعية دون
الافصاح عن الافراد الذين يقفون وراءها . فعبارات مثل " يرى الحزب أن : .... , " أو " أن وجهة نظر الحزب هي ...." تخفي وراءها وجهة نظر فرد أو بضعة أفراد يختفون خلف الصورة التجريدية للحزب أو الجمعية قادت وأدت , في أحيان كثيرة , الى مزالق و مهاوي. يختفي الخطأ الفردي خلف المسؤولية الجماعية , ويسحب السياسي نفسه من المسؤولية طاهرا كملاك , طامسا عن قصد حقيقة بسيطة هي : أن الهيئات التي تُضفى عليها صورة قدسية ما ـ ورائية , تلك الصورة التي تلعب دوراً إرهابيا , هي ببساطة مجموعة من الافراد.
أدى سقوط الشمولية كفكر ونظام وشيوع الديمقراطية النسبية وتوفر إمكانية العمل العلني الى إخراج العديد من الساسة من خنادق العمل السري ومواجة الجماهير وجها لوجه , مما سبب لبعضهم إحراجا غير متوقع , ما يتطلب إمكانيات جديدة في المجال الفكري والثقافي وفي مجال العلاقات العامة . ان الصورة المستقبلية تتطلب دون أدنى شك سياسي من طراز جديد يبني مجدة ليس على البطولات التقليدية و انما على الثقافة والابداع والتجديد والقدرة على التعامل مع الجماهير الواسعة بشكل مباشر ان الملامح المستقبلية للوضع السياسي والاجتماعي تتطلب سياسي من طراز جديد كما أنها تتطلب جسر الهوة بين السياسي والمثقف.
الصورة لدى المثقف مختلفة من حيث إنه لا يختفي خلف أية صورة جماعية , على العكس تماماً يستمد المثقف مستلزمات عمله من فرديته , هو يعرض صورته كما هي بدون رتوش , قبيحة و جميلة , كاشفاً نفسه للسهام , فالصفات العدمية " النهليستية" والمزاجية وإزدراء التقاليد بشكل معلن ...الخ تستخدم ضد المثقف "غير المروّض ".. ان الصفات التي يتصف بها المثقفون عموما , والتي تثير حفيظة الساسة في ممارستهم لدورهم الابوي , هي من , جهة أُخرى ,لازمة لاغني عنها للسلوك الابداعي وان محاولات الاحزاب الشمولية تشذيب المثقف من الصفات التي تتعارض مع العمل الجماعي التعبوي هي عملية إنتقائية تهمل حقيقة أن مجموع هذه الخصائص والصفات هي كلٌ مترابط لا إنفصام له . وبما أن الميل الشمولي يسعى الى خلق نماذج متسقة عديمة الملامح , كما هى عليه ( أبطال ) رواية "جورج أورويل" (1984 ) ,أو فلم " الأزمنة الحديثة " لشارلي شابلن , فانه سيواجه عقبة صعبة التذليل في مسعاة من أجل الانتاج الواسع لنسخ مكررة من المطيعين الصاغرين.
يستلزم تصحيح العلاقة بين المثقف والسياسي الحوار المستمر , ولكن ينبغي , بادئ ذي بدء , الاقرار بوجود الازمة وعدم تجاهلها , فهنا على الاقل , يجري إعتبار الاشكاليات مع العديد من المثقفين ناتجاً , على وجه التحديد , عن سوء سلوك هذا المثقف أو ذاك , كما إن هذا يستلزم , من جهة أخرى , الاعتراف بالمثقف كطرف كفؤ للحوار , وباعتباره موازيا وليس تابعا , و يجري إنكار هذه الازمة أو الاشكالية في العلاقة بالرغم من أن العديد من مثقفي الداخل والخارج كانوا ولا يزالون أطرافا في إشكالات معلنة وغير معلنة مع الساسة ومع المؤسسات الثقافية التي تــــحت رعايتهم , حيث أن المسؤولين عن المؤسسات والنوادي الثقافية هم في الغالب ليسوا ذوي علاقة مع الثقافة بأي شكل من الاشكال بل ان بعضهم يعلن على الملأ إزدرائه للمثقفين , كما إن الازمة أعمق جذورا وأكثر قدما , لا نحتاج الى كثير عناء لمراجعة تجارب أشهر مثقفي القرن العشرين ومبدعيه ومرارات تجاربهم السياسية.
#منير_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟