|
الخروج من سجلماسة
محمود يعقوب
الحوار المتمدن-العدد: 5494 - 2017 / 4 / 17 - 01:30
المحور:
الادب والفن
الخروج من سجلماسة * ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل ذلك تلاشى .. في رمشة عين اختفى وتلاشى . كُنتَ غارقاً في لغطهم الماجن ، حينما غطّـت كف مساعدك الأول ظهرك ، ودفعت بك إلى جوف غرفة العروس بفظاظة . دفعتك بعبارة لا تستحي ، حين كان يصيح عالياً : « الآن ادخلْ واذبحْ البطّـة » . كانوا داعرين ، تمعّجت الكلمات الفاحشة بين شفاههم . وقفوا برهة من الوقت يردّدون أهزوجة ، أرادوا أن يكون لها مفعول يضارع مفعول حبّـة الفياغرا الشهيرة . « لماذا هم لحوحون هكذا » . تساءلتَ في نفسك ، وأنت تفكّـر بأنهم يسعون لاستثارتك في هذه المهمة ، كما يستثيرونك في المهام القتالية الأخرى . كنت حسّاساً حيال الكلمات البذيئة ، ولكن الأقدار رمت بك بين نفر لا يتخاطبون إلّا بسقط الكلام ، وقد أعدمت الحيلة . وعلى الرغم من استيائك المكتوم فقد أهاج لغطهم حوافزك ، وزيّنت لك مخيّلتك تذوّق العسل . « إنّ بطّـتكم ذُبِحَت عشرات المرّات » . ابتسمتَ بأسنانك البارزة وأخبرتهم بذلك ، وأنت تدلف إلى الغرفة متلهفاً ، وتوصد الباب في وجوههم . كانت الغرفة ليلاً أبيض .. ليلاُ نضّ عنه غلالته السوداء ، فأخذ يتفصّد منك عرق الرغبة . وفي طلاقة غمرت الغرفة بكلامك الفصيح : « مساء الخير ( أم وليد ) » . كانت ( أم وليد ) بطّـة مرحة . شغلت بجسدها الممتلئ ، معظم السرير الذي جلست فوقه . بدت شبه عارية ، وكانت آية جمال . وقد تأكّـد لك أنها تزوّجت ثلاث مرّات قبل أن تؤول بها الأمور إلى شغل منصب المسؤولة عن سجن النساء . أنت تعشق السمينات ، وتطاوع هواهن من غير تورّع . بين ( الرقة ) و ( الموصل ) كنت تصول وتجول ، وفي أي مكان ، بين هاتين المدينتين نزلت فيه ، لم تكن ترغب إلّا في السمينات . دخلت عليها بحرارة ، وكانت تجلس برفقتها إحدى صديقاتها ، التي نهضت في الحال ، لتغادر الغرفة . إلّا أنّ ( أم وليد ) استوقفتها برهةً وهي تخبرها قائلة : «تعالي أنظري إلى عينيه العسليتين ، كم هما جميلتان » . وفي جرأة أحنيت لها رأسك ، وراحت تقبّـل عينيك ، غير أنّ صديقتها اعترضت على هذا النمط من الأشواق ، فقالت محذّرة : « كفى تقبيلاً من العينين ، ألا تعلمين أن قبلة العين تقود إلى الفراق ؟ » . وعندما اشرأبت برأسها إليك واللّهفة تغمرها ، تقدّمت منها وطبعت قبلة على فمها . كلاكما كان يمثّـل دور العريس ، ولكنها كانت امرأة ذات خبرة . نهضت وخلعت عنها بعض الأردية ، لتجعل خدود الليل تتورّد خجلاً . وقفت خلفها حابساً أنفاسك ، وكان جو ( الموصل ) ساخناً . وحينما رفعت ساقها إلى حافّـة السرير ، لتخلع جواربها ، اغرورقت عيناك بالذهول . كنت سواداً في سواد . انطلقت كالغيمة إلى زاوية من الغرفة ، ورحت تنزع عنك لزوجة العرق من دون تريث . ولكنها سارت إليك حافية ، ولسعتك من الخلف نيران جسدها . التفتّت إليها ، وضممتها بين ذراعيك ، ودفنت وجهك في وسادة صدرها ؛ ثم شهقت بوسع منخريك عبيراً قاتلاً كأنّه السم الزعاف . كنت أكثر طولاً منها ، وفي الحال رميت برأسك إلى الخلف ، أغمضت عينيك قليلاً ، ثم فتحتهما مصوّباً نظراتك إلى المجهول . أمسيت تحت تأثير هزّة عنيفة ، مفاجئة سَرَت إلى أعماقك ، كأنها صعقة كهرباء . انثالت عليك الذكريات الدفينة مباشرةً ، واعتصرت مرارة الألم المبرّح أحشاءك ، وفي ثوان معدودات انهار عرسك . أبهرتك رائحة التفّـاح الأحمر عندما ضممت المرأة بين ذراعيك ، وخطر في أعماقك أصدق خاطر .. خاطر عظيم جعل قوامك يتخلّـخل ويتبدّد في الحال . اختلج قلبك ، وارتخت يداك ، وهاض الحزن روحك . إثر تلك اللمسة الحسية الصغيرة ، لم تَعُد أنت أنت . أمسيت خيط دخان نحيل يتلوّى متوارياً في منتهى الصمت ، في سماوات الضياع . تلك اللمسة كانت ناراً في شوك . في لحظات خاطفة غمرت صورة حبيبتك ( ريما ) ، ابنة ( سنجة ) المليحة ، أفق نظرك ، بشذاها العشبي الأخضر ؛ فاصطبغ الليل الأبيض بلون زمردي عطر . في الحال لم تعد عابئاً بعروسك ( أم وليد ) ، ولا بأولئك الذين يتراهزون خلف الأبواب . كل شيء تلاشى آنئذٍ .. كل ذلك تلاشى . كانت ( ريما ) حلم شبابك السوداني الجميل ، التي أخلصت لك العواطف والمشاعر ، وظلّـت تعيش لأجل حلمك المرّ ، الهارب و المغترب أبداً . إلّا أنّـك كنت حبيباً عاقّـّاً ، سرعان ما رميت بنفسك في دروب الحماقات من غير رويّة ، ولا حسبان . ما أن تلقّـيت مكالمة هاتفية من ابن عمّـك ، الشقي الذي كان يقاتل في ( الرقة ) السورية ، حتى اهتزّت بك أرض السودان ومادت . ما أسرع سقوطك في لجّـة أوهام ( سجلماسة ) ! . في أعقاب تلك المحادثة التلفونية أمسيت تتخايل الرحيل إلى هناك : حريّة بلا حدود ، مال منهمر ، ونساء وفق الذائقة ، وإمرة وسلطنة ، ورصاص لا يقف في وجهه أحد . كنت معتقلاً في سجن مدينتك ( سنجة ) ، مضى عليك أكثر من عام في هذا السجن ، قبل أن تنجح في الهرب منه بمعونة ، وتدبير أحد القريبين من سلطة السجن . سال كل ذلك من تحت الأقدام باسم الجهاد الموهوم . رحت تمشي ليلاً ، وتكمن نهاراً .. مشيت على امتداد النيل الأزرق حتى مدينة الخرطوم . في هذه المدينة لم تطلْ الإقامة . استرحت قليلاً ، وحزتَ جواز سفر مزيف ، وثمة معونة سرعان ما أوصلتك إلى ميناء ( سواكن ) .. ميناء الأساطير ، وجن سليمان . في غاية اليسر استطعت أن تلتقي أحد مهربي البشر في هذا الميناء ، واتفقت معه على كل شيء .
وفي غضون ثلاثة أيام ، كنت على متن زورق محلّـي الصنع يشق بك مياه البحر الأحمر نحو شواطئ السعودية . وفي مدينة ( جدة ) تسلّـحت تسليحاً كافياً بكل ما يحتاجه الإرهابي من ذخيرة روحيّـة . كانت رحلتك الوعرة إلى ( الرقة ) محفوفة بكل ألوان الخطر ، ولكنّـك عبرتها جذلاً ، تهدّهدك أحلام ( سجلماسة ) الآسرة .
لحظة طوّقت ذراعاك ( أم وليد ) ، وامتلأت أحضانك بجسدها البض ، هاجت مدينة ( سنجة ) في عروقك كالدم الفوّار ، وأفغمت صدرك روائح ( ريما ) الحبيبة . في لحظات ذبل كل شيء من حولك ، كل شيء .. فقد نضارته ، وشحبت خضرته ، وآل إلى يباس . في تلك اللحظة صحوت صحوة الموت . أفقت مذعوراً على صدر عروسك . تلفّـت يميناً ويسارا في حيرة ، وصرخت بصمت جريح : « أين أنا ؟ .. أين أنا ؟ .. في أي ركن من أركان الأرض رمى بي جن ( سواكن ) ؟ » .. فجأة تشرّعت أبواب عينيك ، واندلق الماء والهواء مندفعاً إلى جذور روحك ، التي توشك أن تموت . أحسّستَ بحركة الأنفاس في صدرك ، وأدركتَ أنّـك تحيى . غبتً في دوّامة الصور برهةً وأنتَ تضمّ عروسك ، ثم فتحت عينيك ورحت تحدّق في هذا الجدار اللحميّ ، البض ، الذي يريد أن يحجب عنك ذكرياتك ، في مثل هذه الأوقات . هكذا رحتَ تغيب وتتلاشى سريعاً . وشعرتَ بالألم ينزل في صدرك أكثر مضاءً .
ما لبثت أن وهنت أعضاؤك ، وتدلّـت يداك على جانبيك بتعاسةٍ ، وفقدت كل أثر للهاث رغباتك . الحب النائم طلّ عليك مثل ملك الموت .. الحب النائم استيقظ في أول الليل ، وجفاه النوم . « ما بك ؟ » . سألتك ( أم وليد ) . « هل أنت على ما يرام ؟ » . كانت تحاول ، في غاية التعثّر ، أن تجاريك في فصاحة اللسان . ولأجل أن تداري ورطتك وضياعك سارعت تطبع على ثغرها الحائر قبلة لا معنى لها ، جعلت المرأة تتراجع إلى الخلف قليلاً ، وهي تحدّق فيك ذاهلةً : « هل أنت خجول إلى هذه الدرجة ؟ إذن دعني أنا أتولّـى الأمر » . احتقن وجهك الأسمر ، وعلته دكنة ضاربة إلى السواد ، وتفصّدت حبّات العرق على صفحته في تمام الروعة والجاذبية . ضمّتك إلى صدرها ، وارتشفت عرقك بشهوة عجيبة . دفعت بك إلى السرير وطرحتك سريعاً ، وهناك قادتك ، بخبرتها المتقنة ، حتى التخوم القصية من ( سجلماسة ) . حالما فرغت منها ، رميت جسدك الصلب جانباً ، من غير أن تحرّك ساكناً ، وكنت مثل تابوت أفريقي من الأبنوس الأسود ، الممطور .
تكالبت الأفكار الموحشة عليك ، وافترستك الهموم . كنت تحسّ بصحوة جسد ومشاعر عاصفة ، انتفضت من القعر المظلم ، الخانق ، وطفحت إلى الهواء . وكانت عيناك تحلّـقـان في سقف الغرفة ، وذهنك شارداً . تطوف من سماء إلى سماء ، وما تلبث أن تتوقّـف فوق بساتين ( سنجة ) وشواطئها الحالمة . هامت ( أم وليد ) بك . كنت تحظى بآيات الإعجاب منها طوال المدّة التي عملت فيها قريباً من سجنها . سحرتها بفتوّتك ، وجرأتك الاقتحامية التي أقامت لك منزلة لا ينازعك فيها منازع . كانت هذه المرأة تعشق الوحوش الكاسرة ، وبذلت غاية جهدها للظفر بك .
جرّبت ( أم وليد ) في موهن الليل أن تعيد الكرّة معك ، ولكنها فشلت ؛ كنت جثة هامدة ، لا رجاء فيك . تبتسم ، وتسألك : « هيا يا رجل هذه ليلة عرسك » . وتردّ عليها بابتسامة متخشّـبة ، وأنت تقول : « ليس الآن .. ليس الآن على الأقل » . ذبل الليل ، واسودّت بشرته ، وتصاعد في طيّاته دخان الهواجس . « سألّتكَ هل أنت على ما يرام ولم تجبني ؟ » . وكانت تداعب صدرك العاري . « كلا ، أنا متعب قليلاً لا غير . لنخلد إلى النوم ، ونترك كل شيء إلى الغد » . كانت تريدك أن تفترعها ، أن تنالها افتراساً ، أن تكون سبيّـتك في تلك الليلة . عندما نال منها اليأس لاذت بالصمت ، واستسلمت لخدر النعاس . دفنت وجهها في الوسادة ، وكانت أشبه بسلّـة فواكه قُلَبَت فوق ملاءات السرير . تأملّـت عريها المثير ، وندبت حظّـك المنحوس . لم يعد الليل أبيضَ ، تهاوى البدر ، وانكسرت الأضواء . لم تنم لحظةً واحدة ، حَرَقَت تلك الصعقة كلّ أثر للنعاس في محجريك . شبكّـت كفيك لتسند بهما رأسك فوق الوسادة ، وهمت ضائعاً بين شتّـى الفكر . لم تعد أنت أنت ، بل كنت كل النقائض . ما عادت كتلة اللحم الأبيض ، المستكينة معك في السرير ، تعني لك شيئاً . كنت تتأمّلها من شعر الرأس حتى أخمص قدميها ، وهنالك ، عند قدميها ، تتوقّـف ملياً ؛ لشدّ ما أبهرتك الأظافر الصقيلة في قدميها ، كانت أظافر بيضاء يشرق فيها اللون الوردي كالشفق . وأكثر ما أثارك هو أظفر إبهامها الأيمن ، الذي لاح لك مثل وجه رجل شديد المكر ، يبتسم في عينيك مباشرةً ابتسامة قاتلة ! . بعد ذلك لم تعد تقوى على النظر إلى أية قطعة من جسدها . « كيف سرقتني أوهام الدواعي وبريق المغريات ، وانتهيت إلى هنا ؟ » . « ما الذي جئت لأفعله بين هؤلاء الأشقياء ؟ » . « لم أثقلت رقبتي بدماء أناس غرباء ، هل كنت أعرفهم حقّـاً ، وهل كانوا أعدائي في يوم من الأيام ؟ » . مثل مسامير حامية كنت تطرق هذه الأسئلة في عظام رأسك . في مدينتك ( سنجة ) كنت شابّـاً متهوّراً . تخاصمت مع بعض الشبّان ، وأسلت دماء خصومك . إلّا أنّ تهوّرك لم يدفع بك إلى ارتكاب جرائم قتل ، فماذا دهاك الآن ؟ .. عكفت تخوض طوال الليل في مستنقع أفكارك الموحلة ، وتعاني من حلكة ورطتك ، التي تشبه سجناً من البلوى في بطن سجن من الشقاء .. أحسسّت بورطتك المهولة على الرغم من تشبّعك بتلك الأفكار الدموية ، الحمراء ، التي مخرت لأجلها البحر الأحمر . كانت عيناك مثل نجمتين محتقنتين ، تحبسان الدمع . ورحت تردّد في أعماقك المضطربة : « كيف سمحت لتلك الأوهام أن تخدعك .. كيف سمحت ؟ » . بين ساعة وأخرى كانت ( أم وليد ) تفزّ من نومها ، وتشملك بنظرة حائرة ، وأنت ساهم لا تعي بها . كانت تنظر إليك بخالص الشكوك والريب ، وعدا ذلك لم تكن لأعذارك أيّة قيمة في تفكيرها. عند أعقاب الليل كنت أنت الصيّاد ، وأنت الطريدة . كنت أنت السهم ، وأنت الدم ! .
في أول الصباح ، خرجت من تابوتك الأبنوسي نصف حي ، واهن الأنفاس ، تنشد حياةً جديدة . وكانت الحيلة تعقد حاجبيك . ارتديت كامل ثيابك الحربية ، قبل أن تتناول فطورك . وكانت ( أم وليد ) تبصرك بريبة . ولم تصبر طويلاً حتى سألتك : « إلى أين تذهب ؟ » .. « سأزور أحد أخوتي السودانيين في ( تلعفر ) » . نظرت إليك في غضب ، وقالت في سريرتها إنّك تكذب . كنت تكره الكذب ، وارتحت حقّـاً إذ أخبرتك بأنّك تكذب . كانت تنظر في عينيك بانكسار ، أشفقتَ عليها ، وودّدت لو تخبرها بما تفعله رائحة التفّـاح الأحمر بقلب رجل مشتاق ؛ ولهذا السبب وحده دنوت منها وطبعت على خدّها قبلةً تحمل كل معاني الرثاء . ثم أخبرتها قائلاً : « لا تقلقي سأعود عصراً » . وقبل أن تمضي عنها أطلقتَ حسرة خافتة ، حاولتَ بصبر أن تكتمها ، ولكنّها كانت حسرة فاضحة ، بأي حال من الأحوال ، إن كانت تنمّ عن شيء فإنها تنمّ عن جيشان عواطف في فؤادك المصدوع .. عواطف ترفرف تائهةً بعيداً عن موطنها . وذهبتَ ..
كانت تعلم .. تلك الشيطانة التي لا يخفى عنها شيء ، والتي خالطت الكثير من أمثالك ، كانت تستشعر كل ما كنت تفكّر به ، وتخبّئه في رأسك . أدركت ، بكل يقين ، أنّـك راحل . قرأت التصميم النافذ في عينيك على اللاعودة ، وأنّ قدميك ستمضي في اتجاه واحد لا غير . ما أن هرعت مسرعاً من الدار ، تريّثت قليلاً ثم تبعتك مقتفيةً خطواتك . في مركز القيادة فاجأت الجميع ، حين تقدّمت بطلب إذن للذهاب إلى مدينة ( تلّـعفر ) ، في أول يوم من أيام عرسك . سافرت بالفعل إلى تلك المدينة من دون إبطاء . وقد أورث سفرك هذا في نفوسهم الكثير من الارتياب . على أعتاب مدينة ( تلّـعفر ) ترجّـلت ، ووقفت على جانب الطريق الرئيس تنتظر مركبة أخرى ، لم يستغرق وقوفك الكثير من الوقت ؛ إذ استوقفت شاحنة كانت تقصد الأراضي السورية ، وركبت إلى جوار السائق . انطلقت بك الشاحنة عبر الآكام الرملية والدروب المتصحّرة التي يزوبع فيها الغبار حتى يكاد يغشي البصر . لم يكن الأفق جليّـاً لك . كان الطريق حزيناً ، والأرض جرداء يغيب عنها الفرح . طرق لا تفضي لغير الموت ، وكانت الريح تخوت حائرة . غير أنك كنت مسافراً في رياح من أمل . بعد مسير قليل ، وقبل أن تقتربا من أية قرية أو ناحية ، لاحت لكما على الطريق نقطة تفتيش ، تعترض الدرب وتسدّه عليكما . كانت مباغتة ، ولم تكن موجودةً من قبل . توقّـفت الشاحنة عند النقطة . سألوا السائق عن وجهته فأخبرهم أنه ذاهب إلى سوريا . ثم سألوك عن وجهتك أنت فأخبرتهم أنّك تقصد ( الرقة ) .
أمروك بالترجّل . كانوا يعرفونك تمام المعرفة ، وبنبرة امتعاضية ، غاضبة قالوا لك : « هيا أنزل إلى الأرض أيها السوداني » . ترجّـلت ورأيت الموت في عيونهم ، ولم تجسر على حمل سلاحك الراقد في حجرك . جرى تفتيشك فوراً ، ثم انتزعوا سلاحك من داخل الشاحنة ، بطحوك أرضاً . وراحوا يقيّدون يديك . وأمروا سائق الشاحنة بمواصلة سيره . سألوك وهم يمرغونك بالتراب : « كيف تخون خلافتك ودولتك ؟ » . وأخبرتهم بما يشبه التوسّل أنّـك مهاجر وتروم زيارة أحد المهاجرين في الشام . ولكنهم ردّوا عليك بصرامة قائلين : « هل باعتقادك أن الجهاد مزاجٌ يميل بك هنا وهناك ؟ » . لم يُضَيع أولئك الرجال وقتاً طويلاً معك ، سحبوك إلى ركن من الدرب الترابي المقفر ، الكئيب ، وهناك أخبروك بمنتهى الصراحة من أنّك هارب من ميدان المعركة ؛ وقد خدعت إحدى نسائهم المجاهدات ، إذ تزوّجتها لبضع ساعات ، قبل أن تولّـي عنها هارباً . ولذلك أنزلوا بك قصاصهم . وقبل أن تتفوه بكلمة واحدة ثقبوا رأسك برصاصهم . لم تبدِ لهم أي استغراب ، ولم تجب بكلمة واحدة ؛ هكذا هي الحياة معهم دائماً . كل ما ندّ عنك هو أنّ عينيك الجميلتين جحظتا مباشرةً ، وانشقّ فمك عن صرخةٍ ميّتة . ثم هويت إلى الأرض مرتطماً على أديمها بعنف . وفور ارتطامك بالأرض علا صوت انشقاق قلبك المترع بالأشواق . كنت تحاول أن ترفع صدرك المدمي عن التراب ، وأنت تشد بجسدك إلى الأعلى . خلال ذلك أحسسّت بنفحة هواء بارد ، تسري عبر فتحة أعلى قميصك إلى جسدك المبلول .. أحسسّت بانتعاش لم تحس بمثله من قبل ؛ مشى سريعاً إلى روحك المتعبة .. أحسسّت بذات الارتجاج الذي تركته اللمسة الأولى من جسد ( أم وليد ) في أعماقك . حاولت آنذاك أن تعبّر عن عمق عواطفك بكلمة واحدة .. كلمة واحدة فقط ، تهيأت شفتاك لنطقها ، ولكن رأسك سرعان ما هوى في التراب ، ليضيع كلامك الفصيح في تلك الهيماء ؛ كما ضاع اسمك وعنوانك ! . كل ذلك تلاشى .. في رمشة عين اختفى وتلاشى .
ربما كانت نهايتك مألوفةً ، لا تثير ذهولك ، أو ذهول المغامرين في ( سجلماسة ) . ولكنها بالتأكيد سوف تكون ذات معنى عنيف بالنسبة لفتاة حسناء ، سودانية ، تعيش على أمل لقائك ، وتعدّ الأيام بصبر يفوق طاقتها ، وأنت ثاوٍ في لحدٍ مجهول . بينما سيبقى اسمك مطلوباً إلى سجون ( سنجة ) لعشرات من السنين المقبلة ! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * سجلماسة : مدينة إسلامية ، تاريخية ، أثرية ، تقع في المغرب العربي . عُرِفَت بغناها وثرائها ، وبلوغها أعلى درجات الرقي والتقدم . وكانت قبلة الحالمين بالمال والرخاء . ما لبثت أن اندثرت عقب تحوّل خطوط القوافل التجارية عنها .
#محمود_يعقوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بشر الحافي في ثورته الروحية
-
اليقظات قصة طويلة
-
روعة اللمسة الأخيرة / قصة طويلة
-
تحت جسر الهولندي قصة طويلة
-
التاريخ السري للعقرب / قصة طويلة
-
يوميات معتقل سياسي
-
فورة الشكوك
-
الشجرة الرابعة
-
أكاليل حب إلى نقاهة الشاعر خلدون جاويد
-
عصفور الشطرة الكحلي
-
حامل شمعة الحب .. ( سمنون المحب )
-
بائع الصُوَر المقدسة : قصة
-
النوم مُبتَلاّ ً : قصة قصيرة
-
أسرار النجم الغجري
-
نزلاء الفنادق : قصة قصيرة
-
المنفاخ : قصة قصيرة
-
نساء الأنقاض
-
( اللطف العجيب ) ترنيمة جون نيوتن الخالدة .
-
متمسك ٌ بك ِ يا عزيزتي
-
قصة كفاحي : قصة قصيرة
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|