|
مسرحية سوناتا الركام
حسين علوان علي
(Hussain Alwan)
الحوار المتمدن-العدد: 5490 - 2017 / 4 / 13 - 10:33
المحور:
الادب والفن
سوناتا الركام مونودراما في فصل واحد تأليف: حسين علوان علي بغداد:1989
الشخصيات: الممثل : عازف كمان يربو على الستين نص المسرحية: (صالة موسيقى ،كراسي العازفين وحوامل النوتة،كان هنا حفل قد انتهى لتوه،وخلا المكان إلا من عازف الكمان المسن وكمانه) العازف/(بعد صمت اليم) إنها النهاية، (إلى الكمان) اجل... هي النهاية يا طفلي هاهي ساعة الفراق قد دنت ، آن لنا أن نودع بعضنا ببساطة وكأننا ما عشنا السنين الطوال متلازمين متحاضنين كالعشاق. (نحو الصالة الخالية) انتهى الحفل قبل قليل وغادر الجمهور مبتهجا ، انطلق العازفون إلى بيوتهم سعداء فرحين بعد حفل ناجح ، ومنذ لا يفيض بالبهجة حين يستمع الى الموسيقى؟، وكيف نستطيع وقف سيل الأنغام العذاب وهي تسلك الطريق بيسر صوب الشغاف ودون استئذان ، حتى هذا الفراغ المرعب، كأنه يلهث ألان بعد رقص متعب (صمت) لشدّ ما يرعبني هذا المحراب حين يكون خاليا، إن مواجهة قاعة ممتلئة بالمتفرجين هي أيسر إليّ من الوقوف قبالة مقعد فارغ، فحين تمتلئ المقاعد وتبسم الوجوه وترهف الأسماع تصبح رهبتي طمأنينة، لكن الموسيقى عزفت ، ومضت ألان مع المتفرجين، هي تسكنهم الساعة، وسوف يستعيدونها مع أنفسهم متى أرادوا..إنها الألفة يا طفلي ، ألفة الموسيقى، لقد مضوا، وبقينا نحن من صنع الألفة نواجه هذا الفراغ الذي يبعث فينا الخواء الحزين. (مغالبا حزنه) لكنني مرغمٌ،أنا مرغمٌ في أن ادع هذا الفراغ يأكلني. ليس بمستطاع المرء أن يحيا بمثل الاندفاع الذي كان حين يكتشف أن الأوان قد فات لكي ينتشل شيئا من الحطام الأخذ بالغرق. خمسون عاما ونحن معا، خمسون يا طفلي وأنت ترقد على كتفي، لا تمل من مراقصة أصابعي ولا ترتوي من عرق عنقي المتصبب، كل تلك السنين وأنت تمتصني، بينما ارقب أنا الزمن إذ يمر،وانتظر اللحظة التي سأعجز فيها على العزف.ها أنت قد شهدت ذلك فوق هذا المسرح، لقد سكنت أصابعي فجأة فوق اوتارك وفقدت ايةّ قدرة على العزف، تصورت في بادئ الأمر انه الإحساس الذي طالما عاودني على المسرح حين اشعر في لحظة تخطف كالبرق بأنني قادر على فعل أي شيء الاّ ان أعزف الموسيقى, وتمر تلك اللحظة بسرعة اعجز فيها عن ادراك كنهها اهي الرهبة؟ أم أن الروح تتوقد بكثافة تخالها انطفاء، كنت أترقب تلك اللحظات بشوق لانني اعلم انها سوف تثمر، فما إن تمر حتى اكون في قمة صفائي فاشرع بالعزف على الفور بأندفاع كبير، كأنها السكون الذي يسبق العاصفة، (خائبا) لكن لا… لم يكن الأمر كذلك، لابد انك عرفت مثلي أن الأصابع المنحنية فوق أوتارك متعبة، منهوكة القوى، (كأنه يشيّع أصابعه) إيه أيتها الأصابع، آن لعروقك النافرة هذه أن تذوي، آن لك أن تذبلي مثل زهرة. وأنت....أيها الخريف المبكر، لست تبتسم إذ تساقط الساعة أوراقا من الشجر، كانت بينها أصابع أجادت عزفك يوما ما. (إلى الكمان) خمسون عاما يا طفلي، من عمرنا وعمر الزمن ونحن نطلق النغمات إلى إعمال الفراغ، نجسدّ العشق للعشاق، نفتح النوافذ، نثير سر الرعشات بين المقاعد، نلقى العيون المتلألئة في الظلام،تحكي لنا خباياها، فلا حواجز إذ يتعلق الأمر بالموسيقى، كناّ نضرم الربيع في أحراج الشتاءات الحزينة،إننا الآن بحاجة لمن يضرم فينا الربيع،آن لنا أن نفترق.... ونفارق المعجزة.....الموسيقى !!! (ساخرا) كان علي أن أدرك هذه الحقيقة في أي مكان آخر،في الشارع أو المقهى، ان تقذفها نحوي ابتسامة زائفة، أو أن أجدها وسط أكوام الملل والرتابة، لكنني أدركتها هنا،وسط زكامي، كنت كمن طُعن على حين غرة، وبقيت حائرا في دائرة الضوء،الكل كان ينتظر، أنا وأنت، الصمت (يشير مقاعد الجمهور) وهم.…وأصابعي، لم تكن أصابعي قادرة على الحراك، الصمت تربص في الزوايا والضوء كان يفضح عجزي، أنت تعرف هذه الأصابع منذ خمسين عاما، منذ أن كانت أنامل غضه لصبيِّ مرتبك، بقيت ترقبها وهي تتدفق قوة وعنفوانا، وهي تزداد قدرة على الإبداع… ما الذي حدث إذن، ولم فقدت كل القدرة على الحراك، هل انصبّ فيها جهد السنين الخوالي مرة واحدة وتركها كالجثة، لكم كان الصمت قاسيا، ولكم بدا ذلك... كنت بينهما كالفريسة. (يائسا) ما الذي كان علي أن افعل أمام العيون اللامعة في ظلام القاعة، هل يستطيع من أضحى ركاما أن يعزف موسيقى؟ هل بوسعه أن يعزف موسيقى غير موسيقى ركامه؟! كنتُ مذهولا، كنت خائفا من أن لا أقوى على حملك، ما كان أثقلك فوق كتفي!!، أردت أن التفت إليك… لم أستطع، لم أكن أجروء على ذلك، ثم !! ثم انبعثت الموسيقى!!، كانت موسيقى رقيقة… خافتة،أخذت تخدش صفحة الصمت، موسيقى بعيدة تتعذب لكي تسمع!! هل كانت تنبعث منا ؟ هل كنا نعزف؟ التفت إليك، استطعت أن أتبينك وسط ذهولي وقد احتضنتك أصابعي! كنتما ترقصان، بلى يا طفلي، كنتما ترقصان، كانت تلك موسيقانا، متى بدأنا العزف لا علم، ربما منذ الأزل، تحطم الصمت تماما وضجت الموسيقى (بسرعة وانفعال) كانت أصابعي تصفق الهواء حولها، تهبط على أوتارك، تتتابع قوية راسخة، ترتفع، تتلوى تنتصب كثعابين مقاتلة، ثم تندفع نحو أوتارك كالسيل الهادر، يالها من حيوية يالها من رشاقة !!! (منكسرا) ياله من بؤس ... لم يخفى عليك يا طفلي أن الرقص الرائع ذاك كان انتحارا، لقد تهدد وجودها، فاستثارت كل الخزين الذي يرقد فيها، انبرت تدافع عن نفسها، أخذت تنقض عنها كل ما امتلكته… كل ما تبقى من الصبر والإصرار والمثابرة، تفض عنها دمها لحمها، عظامها، كأنها اختفت، تلاشت (بالغ الحزن) إنها رقصة وداع مزقتنا معا (مستدركا) ولكن، من أين تنطلق الموسيقى ؟، من أية نقطة ينطلق هذا التدفق المعجز؟، وكيف يتاح لها ان تكون متفردة في الطبيعة، جلية، مضيئة، باهرة كالشهاب النابض في ظلمة السماء؟ هناك في الأعماق نقطة تَحار إن كان الانسجام ينبعث منها ام التلقائية،هي النقطة التي احسها تومض في داخلي، حين تمسك بكتفي وترنو الى القوس المتحفز، هي النقطة التي ينحدر منها الطريق الى أوتارك، (منتشيا) وحين أمس النقطة في أعماقي أيها الكمان، لاشيء يستطيع منع الأنغام من أن تتقافز في الهواء، لاشيء حين أمسها يستطيع منع الهواء من أن يتقافز في الأسماع، هناك تغدو أنت قطعة من جسدي، فأحس بأنني امررّ القوس على صدري، على وجهي، أمرره على كياني... هاهو الدرب ذا سالك نحو أوتارك، هو ذا الدرب سالك (بقوّة) اعزفي أيتها الموسيقى ..بلى، بلى، إنني اسمعها أيها الكمان، إنني اسمع الموسيقى وكأني أراها، فأرى خلاياي تنتثر في الهواء. (عاليا) الهـي.. يالها من موسيقى، (يصفق، ينزل إلى الصالة ويدور بين الكراسي) صفقي ايتها الأكفّ، صفقي لعازف الكمان المجيد، لقد اسقط الكثير مما علق به من روحه، صفقوا له ياسادتي وهو يعزف لكم موسيقى الركام، انكم تطرقون الهواء في أكفكم فتسحقون خلاياي، صفقوا واسحقوا قرونا من الموسيقى (يشط به الخيال) انظروا، تلك هي أذن (بيتهوفن) الصمّاء…هل ترونها، وتلك أسنانه التي كان يضع عليها العصا ليسمع رنين البيانو… ذلك هو أرغن( باخ) ... إنكم تحطمونه (يخاطب جمهرا متخيلا) فليرتفع تصفيقكم... ولكن استمعوا إليه، أصيخوا السمع لصوت أكفكم!!، قد يبدو دويّه للوهلة الأولى متشابها ذو نغمة واحدة، لكنني اعلم مثلما تعلمون وتتناسون انه مختلف كاختلافكم عن بعضكم (يقفز بين تخيلاته) كلاّ، كلا يا (جايكوفسكي)، لا تلمس كأس الماء تلك، انها ملوّثة، ستقتلك!! لا ترفعها إلى فمك، لا، السهام لا تطيش أبدا، إنها تنطلق دوما إلى الصميم، صفقوا للسهام (يقلد متفرجا ما) يا للروعة، يا لروعتك أيها العازف، يالها من موسيقى!! يا لتناسق يا للتناغم!! جئناك يا سيدي هاربين من رتابة الحياة، وها انت قد ابتهجتنا بأنغامك، ها نحن نفيض بهجة (يقلد متفرجا آخر) ليتنا نعيش فعلا ذلك الربيع الذي صورته لنا موسيقاك، ألم يكن هو الربيع؟ والبحر، ألم تكن تلك الانغام عن البحر الازرق الذي يمتدّ الى ما لا نهاية؟ (يعود الى نفسه) ما هي الموسيقى؟! إذا كان عليكم أن تسألوا فحسب فأنكم لن تعرفوا الإجابة أبدا، كنّا نحكي لكم أنا وكماني حكايات عن الربيع، وأي ربيع كان!!! ليتكم علمتم ما اعتمر في داخلي!، إنها المرة الأولى التي تكون أصابعي مجهدة إلي الحد الذي تعجز عن العزف ! أصابعي التي كأنها ما وجدت إلا لتخلق الموسيقى، أصابعي التي بها أتكلم، أحيا، بها أتنفس… لشد ما ما ارتعبت حين أدركت أن الفراق قائم بيني وبين طفلي، ماذا كان عليّ أن افعل وانتم تنتظرون العزف منيّ؟، هل كنتم سترضون لو أعدت الكمان إلى الحقيبة ورفضت العزف؟ أنزلوا إلى الشارع، اختلطوا ببعضكم، اضحكوا، افرحوا، وتحدثوا عن أي شيء، ففي لحظة ما سوف يصفعكم الاحساس بالنهاية، كان عليّ أن اعزف بأي ثمن، حتى لو كنته، أخذت انتفض أمامكم واخذ كماني يرجع صدى انتفاضي، تلك كانت موسيقى الزهور التي تنبت كالسكاكين في رحم الأرض، موسيقى البحر ، البحر،منديل ازرق ملقى على شجرة مرجان، موسيقى الحزن الذي يصرخ في زخم السعادة (يخضن الكمان) ضمني إليك، ضمني إليك يا طفلي، انه جرح أن أفقدك، آه لو كنت اعلم إننا كما التقينا سوف نفترق، كنت أدّخرت ما يخفف عني وطأة الإحساس بالندم، كنت سأفهم، كنت قد كافحت لكي افهم أن لابد للاشيا أن تذوي وان لابد للعنفوان من نهاية، ولكن، كيف لنا أن نعلم إننا يمكن كذلك أن لا نفهم ؟ أنه هدر ليس إلاّ… أن افقدك يعني أن اصمت، ولم يتحتم عليّ الصمت وأنا اقل شيئا بعد… آيه أيتها الموسيقى، انت باقية دوما في الذرى ولا تعنيك نهاية عازف كمان… طوباك أيتها الخالدة. اما نحن يا طفلي، فلنمضي لنحيا الوداع . (يخرج كسيرا مع كمانه)
النهاية
#حسين_علوان_علي (هاشتاغ)
Hussain_Alwan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التنّين
-
عالم أوحد
-
حيث هناك ..
-
انها دقات قلبي..
-
فن النار ( ثنائية النهوض والفناء)
-
بوابة الحزن آهلة بالغناء
-
الحب لا يورث
-
مرثية الثواني
-
قلبي المغلق
-
السينما والصحافة -3 - فيلم (2014, Gone Girl)
-
أحببت ما تخلف عن السنة الماضية من نباتات السرخس
-
اناشيد المغني
-
أنهارنا، وألوانهم
-
السينما والصحافة - 2 - الصحافة حين تخفي نصف الحقيقة .
-
السينما والصحافة -1- فيلم كلّ رجال الرئيس
-
أيّ قلب ذاك الذي عندكَ؟
-
الموت الثمين والحياة المؤجلة.. قراءة في مجموعة قصائد مختارة
...
-
مرثية إلى ياسين عطية*
-
أبواق حزينة
-
جزيرة الغرقى المحبين
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|