( الشعر ليس بحاجة إلى مقدمات والشعراء أيضا ليسوا في حاجة إلى مرشدين . نزيه أبو عفش)
عرّف الشاعر المبدع والروائي العراقي فاضل العزاوي الشاعر في مبحثه القيّم صناعة الحلم (بأنه كائن يخلق عوالمه من أشياء الواقع، وهي مصدر بهجته وانبهاراته وأحزانه،) فالشاعر الذي عشقناه وعشقنا شعره منذ أن وعينا على دنيا الأدب والفن والبدء في معرفة عالم لشعراء والكتاب والفنانين في مدينتنا الحالمة ( طوز خورماتو) تلك المدينة النائمة بين أحضان الوداي الجميل وبمحاذاة نهر آو سبي أو أق صو وتحت ظلال جبل علي مرتضى وسلسلة هنجيرة الشهيرة ، طوز خورماتو المدينة الموصوفة بالمدينة الساحرة وبمنبع النفط والملح والآثار في مذكرات وأسفار الكثير من الرحالة الغربيين والسواح الأجانب وعشاق الطبيعة الخلابة المبهورين بجمال البساتين المنوعة والحقول الخضراء المعبقة بأريج الورود والشتلات الندية بندى صباحات صيف طوز، وأنت ترهف السمع بهدوء المتأمل لأصوات البلابل المحلقة من شجر إلى شجر وهي تبعث الفرح والشفاء في النفوس العليلة ، وعندما ترنو من بين أشجار بساتين البرتقال والرمان لقامات العديد من أشجار النخيل الباسقة المثقلة بعراجين أنواع من التمور اللذيذة، فليس شيئا غريبا في تاريخ المدينة الصامتة ملاحم أبنائها الأبطال في مقاومتهم لموجات أحفاد المغول وأعداء الحضارة والتراث العريق أن تنجب شعراء عظام وكتاب مبدعين وفنانين كبار، شعراء مناضلين بالدم والكلمة واقسموا بان لا يمجدوا ثقافة الدم والعنف ، انهم شعراء ولدوا من رحم أيام المريرة ومن آلام الفقراء ومعاناة المحرومين، شعراء كتبوا اجمل قصائدهم الوطنية في الشهداء الذين رحلوا في طلب المجد والحرية،ولتامين مستقبل زاهر لأبناء الوطن.
حسن ﮔورم الشاعر الذي لا ننساه رغم البعد والمنفى صورته البهية حاضرة في الروح والخيال عرفناه في طوز ومن خلال زيه التركماني الأصيل كقامة باسقة ، حاملا ًفي قلبه الكبير الكثير من المسرات والأحزان ، ومذكرات المدينة الصامتة على البلاء بحلوها ومرها. حسن ﮔورم الشاعر الذي عاصر الكثير من الملوك والوزراء والشخصيات الدينية والوطنية، الشاعر الذي ساهم مع أبناء وطنه ومدينته في كافة المناسبات التي كانت تقام في طوز ، حسن كورم كان محبوبا ومقدرا من قبل أبناء مدينته وكان يلبي بكل سرور دعوات إخوانه وأبنائه وفي كل الظروف والزمان ، ومن دون أن يعرف قلبه الكبير أي حقد أو لؤم أو كراهية تجاه أحد ، وبالعكس كان يمقت النعرات الطائفية والتمييز والتفرقة العنصرية بين أبناء مدينته. ومدينته طوز خورماتو المدينة المتآخية بين الكرد والتركمان، المدينة التي هبت وانتفضت بوجه ازلام النظام في ربيع عام 1991 والذي أعلن النظام في حينه وفي مناسبات عديدة بان طوز خورماتو مدينة عربية وكل أبنائها هم من العرب ولذلك تمت إضافتها وبرغبة أبنائها من الكرد والتركمان إلى مدينة تكريت ، ولكن انتفاضة المدينة في آذار 1991 أثبتت عكس وزيف ادعاء المحتلين لتلك المدينة الباسلة ،التي أنجبت الأبطال والشهداء عبر مسيرتها النضالية بكرده وتركمانه وعربه ، ولنا عودة أخرى إن شاء لله وفي موضوع مستقل حول ذكر مآثر المدينة الصامدة من خلال تضحيات أبنائها الشهداء الأبرار ، فحسن ﮔورم شاعر أصيل أنجبته الأيام الصعبة ، وخير شاعر وطني يوظف شعره في خدمة القضايا السياسية والإنسانية في الوطن والعالم المبتلى بالفتن والحروب ، فكان حسن ﮔورم همه قضية وطنه ومعاناة أبنائه ورغم كل ظروفه، وكان يرى بقلبه وبصيرته العالم الحالم بالفرح ونشوة الحرية وكان مجدا في كسب قوته بعرق جبينه ،ولم يطرق يوما ًبشعره أبواب المتنفذين وأصحاب الكراسي ومتعاطي دماء أبناء الشعب، فمثله مثل الكثير من العظماء في العالم من أصحاب العاهات واجه المصاعب وظروف العيش بهمة عالية وبتفاؤل كبير بل جعل من حياته القاسية دروسا مفيدة للكثير من الذين فقدوا يئسوا الحياة وفقدوا الأمل بالرغم من عدم معاناتهم من الأمراض، لقد كسب حسن كورم قوت يومه وضمان معيشته من خلال عمله في شركة النفط ومكانته الواسعة بفضل حافظته القوية وملكته العجيبة في تعلم الكثير من اللغات الحية كالتركية والعربية والإنكليزية والفارسية بالإضافة للغته الأم التركمانية، وكان الشاعر حسن كورم يتمتع بعلاقات طيبة وواسعة مع الكثير من الشعراء والأدباء والفنانين في طوز، وكان صديقا حميما لفنان الشعب اكرم طوزلو ،وكان الفنان أبا شاهين يأخذ رأيه ويناقش معه كلمات أغانيه ويستشيره في معاني الكثير من الأغاني التراثية العريقة ومصدر الحان بعض الأغاني التراثية الخالدة ،مثل الأغنية التراثية الشهيرة ( سه لا ون سيد كيزينه جيكسن خرمان باشنه ) أو الأغنية الشهيرة ( فينجانى طاشتان اوياللر أمان الله ، ايجنه بادم قويله له ر ، من سانى سيوسم دويلله ر امان الله ) الكثير والكثير من تلك الأغاني التراثية الخالدة الشائعة.
وكنت أراه كثيرا منهمكا في نقاش ساخن مع القاص والروائي التركماني المبدع علي معروف اوغلو حول رواياته وقصصه المنشورة في مجلة قارداشلق الشهرية آنذاك وملاحظاته النقدية القيمّة حول قصائد شعراء التركمان الكلاسيك ، وكان الشاعر المرحوم حسن كورم حافظا لقصائد سعدي الشيرازي وقصائد شيخ رضا الطالباني وايات عديدة من شعراء العرب القدامى، وكان للمرحوم الشاعر كورم علاقات أخوية ومعرفة مع شخصيات عراقية في السياسة والأدب والقانون والاجتماع ومع وجهاء المجتمع في طوز وكفري وكركوك وأربيل وتلعفر وبغداد أمثال المرحوم ملا جاير أفندي وعلي ورشيد جاير والشخصية المعروفة محمود نديم أفندي وزين العابدين النجار و رشاد أق صو ولي قنبر اغا والخطاط المرحوم محمد عزت خطاط والشاعر محمد صادق ومصطفى ﮔوك قايا و الدكتور علي الوردي وعباس العزاوي ومصطفى جواد والشخصية السياسية العراقية حسين جميل خليل كنه .
لقد تمكن حسن ﮔورم عبر رحلة حياته المفعمة بالعمل والعطاء والإبداع الشعري أن يخلد بكل سرور في قلوب محبيه وقراء شعره الرصين ، ولقد اثبت من خلال الكم الهائل من قصائده الكاشفة لحالات الظلم والحيف والقسوة التي عاشتها مدينته المسالمة طوز من العبث والإهمال من قبل أحفاد الزمن الرديء ، ويعّد حسن كورم بحق من فرسان الشعر التركماني الكلاسيكي وفي طليعة الشعراء الكلاسيك، واستطاع خلال مسيرته الشعرية أن يكتب اجمل قصائده للعشاق و للحالمين بيوم الخلاص من نير العبودية ، و لبساتين طوز ولأشجار زيتونها الدائمة الخضرة قصائد الحب والحنين إلى ماضيها المجيد،حسن ﮔورم شاعر عرف كيف يفرح الباكين ويدخل السرور في قلوبهم الجريحة بسهام فراق الأبناء عن أحضان الأمهات، وكان الراحل يسعى دائما بان يعيد الأمل للإنسان وللطبيعة الصامتة بعد سفر وهجرة وتهجير خيرة أبناء المدينة، بعد خراب مدينة الذكريات على ايدي السفاحين الذين اغتالوا العشق والفكر والذين احرقوا أوراق الشعراء ،وطمسوا صوت الأصالة في الفن والأدب، ولم يبق في تلك المدينة الحالمة بشمس الحرية غير هاجس الرعب والأشجان، ولقد صدق نبوءة الفنان الكبير اكرم جعفر طوزلو وقبل عقد من الزمن عندما رثى مدينة طوز في أغنيته الشهيرة ( بيلمم نه ده ن غمكين بو دوزون داغلرى .. اج صوصسز قالميش جيجكلى باغلرى .) حقا ومن يرى اليوم حالة مدينة طوز سيرثي بالدم والدموع، ويخنقه العبرات ويجهش بالبكاء الحار لموت أشجار غاباتها العامرة وجفاف بساتينها المخضرة والعامرة في كل المواسم بشتى أنواع والفواكه والخضراوات، واتساع مقابرها بدل الحدائق والمتنزهات من كثرة الشهداء وحالات الموت القسري في المدينة جرّاء الكبت والصمت القاتل وطول انتظار ساعة الخلاص ، وحسن كورم في خضم كل هذه الأحداث والمشاكل والكوراث ، تجده قامة شعرية صامدة ، يواسي الفقراء ويعزي أمهات الشهداء رغم معاناته مع قتلة مدينته بحراب التعريب، وكان يخرج في ساعات الأصيل في نزهة قصيرة كي يكتب قصائد معبرة عن حلم الإنسان العصري في كيفية بناء مملكة السعادة ، ورفضه لكل أساليب الترهيب والاستسلام للحزن والبكاء عند المصائب ، والراحل كما عرفناه ومن خلال حياته الكريمة، كان الحب والتعلق بمباهج الحياة ، من أهم سماته النبيلة ومواضيع قصائده الجميلة ، فلنسمع إذن مقطعا من سيمفونيته الخالدة والمسماة بالحلم وهو يحلم رغم حرمانه من نعمة البصر ونور العين ولكن الله قد عوضّه بنعمة البصيرة والذاكرة والحافظة القوية ، وكنا نراه متفائلا ومنطلقا بالفرح في كل الأوقات، وكان شاعرا ظريفا يحب النكات و مجالس الأنس مع الأحبة فيقول في هذا الربيع ولذلك القلب
لتذبل الأزهار ولتذوي أكمام الورود
فالآمال لا لن تذبل
وقلبي سوف ينتظر يوم الموعود
وقد مضت الليالي
أوشكت خيوط الشفق على الانبلاج ،
فالآمنا تزول لو أشرقت الشمس ،
وذلك اليوم سيكون ربيعا اخرا لنا .
نعم يا ﮔورم الحالم بالربيع مثلنا، والمنتظر لانبلاج خيوط الفجر في الوطن ثانية وبعد طول الليل البهيم ، و مثلما قلت آنفا، وكما اشتكى من قتامة الليل وطولها وعبء الظلام شاعر الجاهلية امرء القيس...الآ آيها الليل الطويل اأنجلي بصبح وما الإصباح بأمثل .
فيبقى الأمل كالحلم نراه في يقظتنا وسهادنا، وكعاشق ثمل في حبه للأرض وتراب الوطن ، وكزهرة جورية في ربيع القادم ، فيا المنفى، ويا لعذاب الروح والجسد ! آه لخطوات منفى الروح، فأناديك يا شاعر الحلم والألم حسن ﮔورم، كي أهديك من غربتي أبياتا من شجون ابن الوطن والمدينة، أسمعك من محلة كوجك بازار ، وجقلة محلاسي همسات عاشقات رحلة الكناري، وأسراب القطا!، استميحك عذرا إن دخلت بلا استئذان محراب تأملك وأنت الآن في عالم البرزخ تتأمل مثلنا يوم ولادة الحرية وإشراقة الشمس في الوطن الغريب ،
فيكفيني أن أموت
عند إطلالة أوان الربيع
لبسمة ملايين زهرة منفية بلا جريرة
فيكفيني العذاب ، أن أرى يوم إذلال وموت العتمة
وبين هطول الغيمه
اخطوا مزهوا نحو لقاء فارس المجد ،بروحي خطوة خطوة
فيجمعنا همٌّ واحدٌ يا شتاء مدينتي الحزين،
فحزنك ثلج طائر يجمدُ الدمُوع ، حزني ابيضُ مذاقه ألم... وحزنك خريف يكره اللقاء
وكلي أمل لأم ثكلى أعيتها البُكاء ...
وبعد هذه الرحلة القصيرة في سفر الشاعر التركماني الكبير حسن ﮔورم شاعر طوز خورماتو المنسي من قبل الصحافة والتلفزيون، فنوجه العتب الشديد للعاملين في المؤسسات الإعلامية في كركوك وبغداد ، والذين لم ينصفو عمالقة الفكر والأدب والفن في حياتهم ومماتهم حتى ولو بإشارة عابرة لمكانتهم الشعرية أو الأدبية ، ونحن لا نرجو خيرا من تلك الأقلام المشبوهة ، بعد تكريس اقلامهم وإبداعاتهم في خدمة السفاحين والقتلة، ونسيانهم المتعمد لأبناء وطنهم وبلدهم من اجل حفنة من الدنانير المطبوعة، وعدم ادراكهم بان هذه الدنيا زائلة وزائفة ولا تستحق حطامها التضحية بالمبادئ والكرامة وبيع دماء الشهداء من اجلها وكان الشاعر حسن كورم كثير الذم لعبودية الناس للحياة، وكان يردد دائمابان هذه االدنيا فانية ( بو دونيا فانيدى فاني ) (سكيزان دوقوسان بير كون اولى يويك سان) وإن عشت ثمانون أو تسعون عاما يأتي يوم عليك وأنت غير موجود، فتمض هذه الحياة بانقضاء الأيام وتخلد الأسماء في القلوب والذاكرة ، ومتذوقي الشعر الجيد لا ينسون أبدا ً المبدعين الكبار أمثال حسن كورم ، ويبقون يحملون ذكرياته الطيبة في شغاف القلوب ، ويتذكرونه بكل حب وتقدير في كل مراحل الزمن ،
مات الشاعر الكبير حسن ﮔورم في 1995 بعد رحلة طويلة وعمر حافل بالشعر وحب الناس والوطن في مدينته الحبيبة طوز مودعا عشاق شعره وأدبه الجم ، بهدوء وصمت ، ومودعا أسرار قلبه الكبير، وحلمه الجميل لأسراب السنونو، ولبلابل بساتين طوزخورماتو المهاجرة، فسلام عليك يا كورم يوم ولدت في طوز عام 1924، ويوم ودعت الحياة أرحت وجدانك وضميرك في مثل هذا اليوم، من دون أن تمدح الحكام والسلاطين، فمت شريفا ً مرفوع الهامة، و أبيت تمجيد أصنام الحُكم ، وقتلة بسمة أبناء الوطن، فنُم قرير العين ، مطمئنا على الأرض الطيّبة،فالمسيرة من بعدك مستمرة وقوافل المخلصين في طريقهم نحو ذرى المجد، وفراسخ معدودة من بوابة الحياة الجديدة ، ستضع قريبا ً جدا ً قوافل العشاق القادمة من مختلف منافي العالم باقات من الورود، وسلال من زهور النرجس والجوري على قبرك الخالد، وعلى قبور إخوانك الشعراء والكُتّاب والفنانين و الشهداء من اجل الوطن،ومن اجل عيون أمهات شهدائنا الأبرار ، وانهي هذه السطور البسيطة والقليلة في حق شاعر مناضل ومحب للخير والإنسانية كحسن ﮔورم، بأبيات شعرية مؤثرة للشاعر المبدع عدنان الصائغ حول عبث الانتظار بالقلوب، وتوالي الأعوام وبكاء الطبيعة والأرض لمحنة الأطفال:
كل عام
يقف بابا نوئيل
على باب الوطن
ويدّق يدقُ
لا أحد
الأباء بكرّوا إلى مساطر الحروب
الأمهات هرمن في القدور الفارغة
الجنرالات ذهبوا إلى الإذاعة
يلقون الخطب والتهنئات
والأطفال يئسوا فناموا قرب براميل القمامة
يحلمون بهدايا
تليق بأعمارهم المؤجلة ...(ديوان تأبط منفى... 2001)
عرفان آوجي