عبدالامير الركابي
الحوار المتمدن-العدد: 5479 - 2017 / 4 / 2 - 20:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المستيقظون المتأخرون وتخنيث الإننفاضة (1/2)
عبدالاميرالركابي
في الانتفاضتين الشعبيتين ضد نظام المحاصصة الطائفية عامي 2011 و2015، انطلقت الهبة الشعبية من اقصى جنوب العراق، وامتدت لتشمل بقية محافظات الجنوب والفرات الأوسط والعاصمة بغداد، وفي المرتين كانت التحركات تتخذ في البداية طابعا حادا وعنيفا، الى ان يتم تاطيرها وخفض سقفها، الثانية المستمرة الى الان، استغرقت وقتا أطول وشملت قطاعات أوسع، وتولدت في مجراها تفاعلات اشمل، كما امتدت نحو مدن اكثرعددا،مع انها انتهت فعليا في بغداد وماتزال، بينما انحسرت فعليا عن بقية المحافظات، والجنوبية منها التي اشعلتها بالذات، الملاحظ على سير الانتفاضة الحالية، انها بدات جماهيرية واسعة وعفوية وحادة الايقاع، وانتهت مؤطرة ومؤدلجة "منضبطة"، مما يعني تباين وعدم وحدة قوامها ومادتها، ف"العملية السياسية الطائفية المحاصصاتية" أصبحت نموذجا ونمطا غير مقبول شعبيا، لدرجة الانتفاض ضدها، وعلى أوسع نطاق، الا ان الحركة الشعبية المضادة لنظام المحاصصة، ماتزال جنينية وفي بداياتها، لم تتبلوربعد، ولم تفرز اطرها وقيادتها المطابقة لطبيعتها ونوع أهدافها وتصوراتها.
بالمقابل منحت التحركات واعمال السخط الشعبي، قوى داخل العملية السياسية، فرصة سانحة للانتعاش، مستغلة التطورالجديد، وهي قوى مؤدلجة وموجودة من فترات وازمان وظروف سابقة مختلفة، لم تعد تتلائم مع الوضع الراهن ومستجداته، ولاتملك مايؤهلها كي تمنح التحركات الراهنة الاطار القيادي الضروري، والمتناسب مع اللحظة، وهي في الجوهر قوى مستهلكة استنفدت اغراضها، هذا بالإضافة لكونها هي بالذات، جزء من اجمالي القوى المنتسبة ل"لعملية السياسية الطائفية" القائمة، كانت معها، وضمن مشروعها الاحتلالي، ايدت الغزو الأمريكي للعراق، واشتركت في التشكيل السياسي المقترح والمرتب من الاحتلال، وماتزال تحتل داخل هيئات ووسائل الحكم والسلطة، مواقع مهمة أحيانا.
ومابين حركة شعبية بلا راس، ولارؤية، وقوى ايديلوجية بالية لكنها ماتزال منظمة، وقع التحرك والانتفاضة الشعبية، تحت مصيدة "العملية السياسية" التي انتفض ضدها، ان لم تكن سرقت منه ودجنت، بعدما حورت وابعدت عن غرضها الأصلي، المتمثل في انهاء واقع مابعد الغزو والاحتلال سياسيا، وعلى مستوى الخيار الوطني، هذا الجانب الهام والأخطر في اللوحة الوطنية العراقية اليوم، هو الجدير باهتمام العقل العراقي، كمهمة أولى وحاسمة، من المستحيل الخروج من الوضع الراهن والمهيمن على الحياة الوطنية، من دون إنجازها، مع ان الامر على هذا الصعيد، قد يكون غاية في الاستثنائية والخطورة على جميع الصعد.
واذا اردنا توصيف ماهو جار، واجتهدنا كي نحدد ملامحه الأبرز، نقول بان الوضع العراقي منذ الغزو عام 2003، الى اليوم، هو وضع انتقال بين حقبتين، وطورين، الأولى هي الحقبة الايديلوجية، او حقبة طغيان نمط من "الوطنية الحزبية الايديلوجية"، والثانية التي نحن على موعد معها، هي مرحلة الوطنية العراقية الامبراكونية، حيث يتعرف العراقيون على هويتهم التاريخية، وذاتيتهم الضائعة، والتي ظلت على مدى القرون والدورات الحضارية، خارج الافتكار، ومما لايمكن للعقل افتكاره، لتعديه مستوى المتوفر من المعرفة الإنسانية المجتمعية حتى اليوم، ولأن التركيب الكياني العراقي، ارفع بنية، واعقد من كل المتعارف عليه من البنى والتكوينات المعروفة في العالم.
وفي حال كهذا، تطغى عليه الاإستثنائية والخصوصية التفكرية، من البديهي انتظار قفزة معرفية تتناسب والمكانة، والدور الكوني لموقع مثل ارض "مابين النهرين" باعتباره مدّخرا تاريخيا، وموئل منقلبات وتحولات كبرى، واساسية في التاريخ الإنساني، ان معرفة البشر بقوانين التاريخ ليست قديمة، وعلوم الاجتماع، هي احدث المعارف المستجدة، ولم يكن البشر قد عرفوا المنهج السببي في قراءة التاريخ، الا مع نهايات القرن التاسع عشر، وكذلك على علوم الاجتماع، عندما تعرفنا على "المادية التاريخية"، وصراع الطبقات، وفعل الاليات المتضمنة في الحركة الإجتماعية، ولان تلك كانت لحظة صعود في درجة تبصرات العقل الإنساني، نحو ذروة من الذرى الكبرى، فلقد اعتبرت بالاخص بسبب مرافقتها لصعود اوربا والغرب وثورته الصناعية والفكرية، ونموذجه الحديث، اعتبرتن من قبيل النهاية، او القفزة التي لايمكن تصور مابعدها، او مايناظرها، ناهيك عن التفوق عليها.
من هنا اكتسبت نظريات ماركس وبتلهايم و ماكس فيبر.. و عقلانية ديكارت وكنت، صفة العموم والشمول، لحد المطلق، فاكتسبت قوة التعميم والصوابية، على قدر ماكانت الأمم خارج اوربا مبعدة عن التاريخ، وعن اليات الفعل داخل المنجز البشري، غارقة في الماضي، اوفي الخرافة والتقديس الاعمى، ماقد عزز نزعة الاستعارة، وتلبس تواريخ الاخرين ومنتجهم، وتحويله لغير طبيعته الاصلية، بعد تغميسه الاجباري وسط مناخات وارض لاتعرفه، الا بعد ان تسلبه اهم صفاته الحيوية والابداعية العقلية، فالعقل الخرافي لايعي الجديد، ولا العلم المستحدث، الا كخرافة ومطلق ايماني.
ليس هنالك على الاطلاق، مايجيز الاعتقاد بان معرفة التاريخ والغائية الكونية المتضمنة والمبثوثة في العملية التاريخية الكونية، قد توقفت عند الغرب الأوربي، وانها لن تتجاوزه، وكل من يتصور مقتنعا او متوهما، ان الغرب هو بالفعل منتهى الوجود الإنساني، بمعنى توقفه عنده، يخضع اجمالا لمنظومة تفكرية ملحقة بالغرب، وبمرحلة من مراحل التاريخ والحضارة، وتظهر هذه الحقيقة في حالة العراق اليوم، عبر ممارسات وعمل قوى الحزبية الايديلوجيا المتخلفة من مرحلة سيادة مفاهيمها، وابرزها الحزب الشيوعي العراقي، الذي انتهى قوة ملتحقة بالاحتلال الأمريكي، ومتوافق مع نموذجه في الحكم، كما هو الان، ليس هذا وحسب، بل ان هذا الحزب ومن يحيط به ممن يسمون انفسهم دعاة "الدولة المدنية"، يرفضون حتى الاعتراف بالخطأ، او ادانة موقفهم المؤيد للغزو، ويلجأون للمخاتلة والخداع، فيصفون الوضع الحالي وكانه "مفاجأة" وانحراف عن الطريق المرسوم، استيقظوا عليها اليوم، بعد انتفاضة الشعب، خلافا لما كانوا يتصورون عندما حصل الغزو، واسقط النظام السابق، حين كانوا يتوقعون قيام نظام ديموقراطي "ودولة مدنية"، وكأن الذي هم فيه اليوم، جاء وهم في غفلة وسهو بسيط، وليس عملية تدمير من قبل قوة استعمارية عاتية جبارة، لبلاد يعود تاريخ الدولة فيها ل82 عاما، اصر المحتلون على سحقها وازالتها من الوجود، لصالح قوى ماقبل دولة، معباة بالامراض والعلل على كل الصعد.
هذا مايريدون بيعه للمنتفضين اليوم، "دولة مدنية" بوسائل وأدوات متغلبة، من مادة مضادة كينونة وبنية، للدولة الحديثة والمدنية، وفي بلد مسارات تاريخه الحديث ومآلاتها، تناقض كليا الشعار المرفوع خداعا، وفي افضل الأحوال غباء وجهلا هكذا يصبح هؤلاء شغالين بالقطعة لدى قوى تنافي وجوديا الدولة يبيعون الاحلام للجياع، فنحن في زمن ولحظة انهيار الدولة، لابناء وهم اسمه هذه المرة "الدولة المدنية"/ البرجوازية التي تحولت لهدف يطمح له شيوعيو زمن الابتذال الشامل، بأمل تزوير دلالات الانتفاضة، واشغالها بالأوهام، خدمة ل" العملية السياسية الطائفية المحاصصاتية"، ولغرض الإبقاء عليها جوهرا، وفي اقصى الأحوال اصلاح بعض مناحي أدائها شكلا.
بعد عام 1921 حين أقيمت الدولة، كان نموذج الغرب طاغيا، على صعيدي الدولة والمعارضة، ولان زخم الحركة الشعبية كان دفاقا، يتجاوز افق القوى الوطنية التقليدية المتصدية لعملية مناهضة الهجوم الغربي الاحتلالي، ممثلا بالدولة المركبة من خارج النصاب الاجتماعي، والمصممة لغرض تدمير العلاقات الإنتاجية التاريخية المشاعية، وسحق "مجتمع اللادولة" التاريخي العراقي، الذي خاض ثورة 1920 ضد الاحتلال، تكرست بسرعة الوطنية الحزبية الايديلوجية: الطبقية، والقومية، والليبرالية الشعبوية، غير ان هذه القوى لم تصبح فعالة حقا، ومؤثرة قبل منتصف الاربعينات، أي ان الظرف المستجد والموافق، كما المحفز على الاستعارة الايديلوجية، استمر قبل ان يصبح غالبا، قرابة ربع قرن من الزمن، عرف العراق خلالها انتفاضات، واضرابات وتحركات في الريف والمدينة، قادتها قوى لم تكن بمستوى الظرف المستجد، في طل " الدولة الحديثة"، و"الحكم من وراء ستار"ومتطلباته، الى ان حلت مكانها قوى أخرى، انتهى دورها هي الأخرى وبدات تفقد مبررات وجودها، بعد ثورة 14 تموز 1958 مباشرة، حين فشلت في تحقيق اهداف وشعارات الثورة، لتدخل فترة من العجز المتواصل والمتراكم تباعا، الى ان انجبت نظام "صدام حسين" كممكن علماني ايديلوجي، هو منها وممثلها الذي يدل على قصورها وعجزها، وانتهاء دورها التاريخي، مهما قالت، ومهما تنصلت عنه او ادعت انها ضده، او ترفضه، فرفضها اللفظي الشعاراتي، ليس سوى مظهر آخر من مظاهر تهافتها الفكري، ولاعقلانيتها، ومحاولتها الهرب مما هي منه قلبا وقالبا، وان هي فشلت في ان تحظى بموقع داخله.
#عبدالامير_الركابي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟