|
الأرض في جيب شلومو
شوقية عروق منصور
الحوار المتمدن-العدد: 5474 - 2017 / 3 / 28 - 22:39
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كنا نراهم يتسللون في عتمة الليل ، وعندما تسأل أمي صباحاً جارتنا أم سليم عنهم ، تجيب بألم : - أبوهم طردهم .. ما بدو يشوف حدا منهم .. !! وتغرق أم سليم في الصمت الذي لا يتنازل عن الغضب ، بل يتحول في صدرها الى جبل من الآهات يرتفع وينخفض ، ثم تنفث آهة نارية ، نشعر بحرارة خروجها فيخيل الينا أن الغرفة قد ضاقت رغم اتساعها ، وان الوسائد والفرشات الملقاة على الأرض ، قد خجلت من ترتيبها ، الآن لا مجال للترتيب ونظرات الضيوف التي تسعى أمي لأن ترى بريق الاعجاب ، لأن فوضى الحزن والتعب تتغلغل في ثنايا الوجع الذي يتراكم في تجاعيد وجه جارتنا ..! ننسى قصة الزيارة المتسللة تحت جنح الظلام ، ننسى الأبناء الذين قدموا الى بيتهم وهم يعلمون أن والدهم قد يطردهم ، لكن اصرارهم على الزيارة بين كل فترة وفترة كانت تثير زوابع الأصوات العالية ، وغالباً ما تنتهي الزوابع بصراخ الأب : - اطلعوا برة .. لما أموت أعملوا شو بدكوا ..! ومع خروج الأبناء ، تلجأ أم سليم الى بيتنا المقابل لبيتها ، باكية ، حزينة ، تجلس على أول كرسي تجده أمامها ، وأحياناً كانت تجلس على عتبة البيت شاردة ، تنظر الى بعيد ، ولا ترد على أمي التي تحاول اقتحام شرودها ، وعندما تضع أمي صينية القهوة أمامها ، تأخذ بدق الفناجين مع بعضهم البعض قائلة – وحدوا ... وحدوا - تنتبه أم سليم لأمي وتدفن وجهها بمنديلها الأسود – الأوية – الذي تدلت منه بعض الأزهار الصغيرة الملونة المشغولة بالصنارة ، وتنخرط بالبكاء . ومن بين الدموع تشهق أم سليم .. وتقول لأمي : - شو أعمل أنا بين اولادي وبين ابوهم .. قولي لي .. ؟ فش غيرك اشكيلوا همي زوجي بقولي أنا ما في عندي أولاد .. ماتوا !! وأنا كيف أنسى انو هدول أولادي؟ تصمت أمي التي لا تجد غير الربت على كتف أم سليم ،فهي تعرف أن رأس الجار " أبو سليم " قاس كالصخر ، لن يلين ، فقد قالها مرة واحدة : - لن أقوم بتصفية أرضي حتى لو مت من الجوع ، اللي بتخلى عن أرضوا بتخلى عن عرضوا وعن دينو وطنيتو ..!! أولادي شياطين ، لو مش أم سليم شريفه لقلت هدول أولاد حرام ، شو بدي أعمل ؟؟ لما أموت يصفوا .. يبيعوا ، المهم وأنا طيب ، حي مش راح أوقع على تصفية أرضي ، أبيع أرضي لليهود ؟؟ ويأخذ بالدق على صدره ، فيرجع صدى الدق خافتاً ، لكن ينتشر في أنحاء الصدر مخترقاً الشرايين ، مستقراً في قلب الرفض . تنهض أم سليم عن الكرسي للعودة الى البيت ، تمسك المنديل الذي هبط على عنقها ، تفرده ثم تطويه على شكل المثلث وتضعه على رأسها ، تغطي به شعرها الذي بدأت الحناء تزول عنه وتظهر الشيب الذي بدأ يبزغ ويطل معسكراً في كل مكان ، وقبل أن تغلق الباب ، تهمس لأمي : - شو بدي أعمل .. قدام الأب وأولاده ، صرنا قصة بلسان الكل ..! في احدى المرات قالت أم سليم متفاخرة أمام الجارات : - احنا ملاكين أراضي ، أكثر من مئة دونم النا في بيسان ، مع بيت مثل القلعة ، لكن يلعن اليوم اللي صارت فيه النكبة ، حتى اطلعنا من بلدنا ولجئنا للناصرة ، وقعدنا في بيوت مستأجرة ، كانت بيوتنا عمرانه - خير وخماير – غرف وأثاث وصالونات ، كله.. كله أخذوه اليهود ..! تركونا على الحديدة . عرفنا أن أولاد " أبو سليم " الأربعة ، واكبرهم سليم ، قد بدأوا يعملون سراً لتصفية وبيع المئة دونم في بيسان ، فقد اتصلت بهم عدة جهات يهودية وعرضت عليهم البيع مقابل أمولاً طائلة ، وقد أقنعهم المعلم " شلومو" الذي يعمل سليم في مصنعه ، فقط على الوالد " أبو سليم " أن يوقع على التنازل وبيع الأرض . جمع سليم أخوته معلناً أنه سيحل أزماتهم المالية عن طريق تصفية الأرض ، فوافقوا جميعهم ، فقد فتحت لهم طاقة الفرج ، عليهم فقط اقناع والدهم العجوز الذي يعيش في فقر ويتمرغ بالجوع . لم يتوقعوا رد والدهم وغضبه وطردهم من البيت ، لكن بعد أن طردهم في المرة الأولى ، كان اصرارهم على إتمام الصفقة ،لذلك كانوا يتسللون الى البيت ليلاً ، يحاولون إقناعه ، لكن بقي الأب مصراً على رفضه البيع وتصفية أرضه . اهل الحارة يعرفون ان أبناء " أبو سليم " ينتظرون موته ، لذلك عندما صرخت ام سليم وهرع سكان الحارة الى بيت " أبو سليم " وقد وجدوه ميتاً في سريره الحديدي الذي تآكلت أطرافه من الصدأ ، همس البعض وقالوا : - الفرصة حانت الآن للأولاد ، يبيعوا ، يصفوا ، يقبضوا .. ! جلس الأبناء الأربعة في الديوان يتلقون التعازي بوالدهم ، وبقدر ما كانت الكراسي قريبة الى بعضها البعض ، كانت هناك متاريس التساؤل بين الجالسين ، والعيون ترش الهمسات ، كيف سيتصرف الأبناء بالأرض بعد أن تنتهي أيام الحداد ؟ لم يعد الليل يفتح جفنيه على الأصوات القادمة من بيت " أبو سليم " الهدوء يخيم على البيت ، حتى أم سليم اختفت من الحارة ، فقد أخذها ابنها سليم الى مدينة حيفا حيث سكنت مع عائلته ، وبقي البيت مغلقاً ، ونسينا قصة الأب والابناء ، حتى كان اليوم الذي جاء سليم راكباً سيارة فارهة والى جانبه والدته ، نزلت أم سليم من السيارة متوجهة الى بيتها حاملة حقيبتها ، وما أن رأت أمي حتى هرعت وحضنتها ، ساعدتها أمي بفتح باب البيت وترتيبه ، وعندما سألتها أمي عن الأبناء وعن عودتها ، قالت وهي تكفكف الدموع : - الله يرحمك يا أبو سليم .. الأولاد صفوا الأرض ، باعوها ، كل واحد أخذ حصتوا .. اشي اشترى سيارة واشي سافر للخارج لشم الهواء ، واشي ببعزق في المصاري على اليمين والشمال ، حاول ابني سليم يلبسني اساور ذهب ، انا رفضت .. شعرت انها افاعي بتلتف حول ايدي ، واني بخون أبو سليم ..!! لما شافتني زوجة سليم مصممة على الرفض قالت لي : - على شو زعلانه ، فلسطين كلها راحت .. وقفت على ارضنا .. بيسان ضاعت مثلها مثل غيرها ! علشان هيك قررت ارجع لبيتي !! فتحت أم سليم النوافذ ليدخل الهواء النقي الى البيت ، ثم أخذت تمسح الغبار عن صورة " أبو سليم " وتردد – الله يرحمك يا أبو سليم كنت على حق !! اللي كنت خايف منه حصل !! اولادك وارضك بيد شلومو .. شلومو اللي أقنع اولادك بتصفية الأرض ، لعب بعقولهم ، وبعدها أخذ من ابني سليم العمولة على التصفية ، آخ يا أبو سليم اليوم اولادي والأرض في جيب شلومو .
#شوقية_عروق_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفندق المعزول المحاط بالأسوار
-
المرأة الفلسطينية لا تعرف الثامن من آذار
-
المرأة التي تتكلم بالاشارة والمرأة التي تكتب بحبر بولها
-
من مجنون فلسطين الى ترامب اللعين
-
الطبخة ما زالت في الدست الاسرائيلي
-
القرد في ليبيا وشقيقه هنا .. شكراً لإسرائيل
-
ايها الرئيس رأسك تحت رحمتي
-
الاقي زيك فين يا علي
-
رسائل الحب في زمن الجفاف
-
الثقافة لا تعرف ميري ريغيف
-
الطفل خالد الشبطي يركب الطائرة مع ليلى خالد
-
ما زالت ذاكرتي في حقيبتي
-
الفن يزدهر في تربة السياسة
-
صورة سيلفي مع ثور وكوز صبر
-
نساء -داعش - بين فتنة السلاح والنكاح
-
الموت غرقاً ورائحة الخبز أبعدت زكية شموط
-
غزة انتصرت لكن ما زال دلو الركام في عملية خنق الرقاب
-
عن غزة وجيش المفاجيع بقيادة نانسي واحلام ووائل كفوري
-
في غزه الوقت من دم
-
التنسيق الأمني وبنطلون الفيزون
المزيد.....
-
السجن 11 عاما لسيناتور أمريكي سابق لتلقيه رشاوى من رجال أعما
...
-
مبعوث ترامب: على مصر والأردن تقديم بديل لرفض استقبال الفلسطي
...
-
المقاومة الفلسطينية وأسطورة ترامب
-
هيغسيث: إسرائيل حليف مثالي للولايات المتحدة
-
علماء يكشفون كيف وصلت الحياة إلى الأرض
-
ماسك يرد على ترشيحه لنيل جائزة نوبل للسلام
-
برلماني أوكراني: زيلينسكي يركز جهوده على محاربة منافسيه السي
...
-
رئيس جنوب إفريقيا يحذر نظيره الرواندي من عواقب الفشل في وقف
...
-
مستشار سابق في البنتاغون: على واشنطن وموسكو إبرام اتفاقية أم
...
-
منعا للتضليل.. الخارجية الروسية تدعو إلى التحقق بعناية من تص
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|