مريم نجمه
الحوار المتمدن-العدد: 1435 - 2006 / 1 / 19 - 10:17
المحور:
الادب والفن
الإغتراب عن الوطن وتأثيراته الروحيّة والفكريّة والإجتماعيّة على الفرد – 3 القسم الأخير
.... فبعد حصول اللاجئ على الإقامة .. والإستقرار , تبدأ الإجراءات والمعاملات اليومية والسكن ثم الإستقرار .. ويذهب نصف الهمّ
وبعد .. وبعد .. يعيش هذا اللاجئ مرحلة الإنتظار .. إنتظار الغد , ماذا سيحمل له من المتغيّرات .. والمستجدّات ؟
يغزوه شعور ببطء حركة الزمن أحيانا , وأحيانا يشعر بأن السنين تسرع وعمره يسرع معها .. ولا جديد , بل روتين وجمود
فيعيش صمت الجدران , وصمته .. في ألم .. في صلاة .. وتأمّل عميق عمق نواة الأرض .. وبعيد بعد الخيال وما وراء الخيال .. لاستحضار الذكريات الدفينة في اللاشعور , يعيش جلّ وقته وليله في استرجاع الوجوه والأصوات والصور التي تركها , ولم تتركه ...
فتصفو الروح أكثر فأكثر , والنفس تتنقّى وترتفع لتعيش مع الخالق .. والكون .. والقوّة .. والطبيعة .. والفضاء .. وفجر الصباح , لتكتب أسرار الحياة .. السؤال الصعب .. أنا أين .. أين أنا أقيم لماذا هنا .. ؟
ماذا أعمل .. ؟ .. ولمن ؟ وكيف .. ؟ وكم سأبقى هنا .. ؟
أسئلة تجد لها أجوبة .. وأسئلة تبقى معلّقة لما بعد ... للمستقبل .. للأيام .. ! ؟
... لم أجد أجمل من هذه المقاطع " المستعارة " .. لإغناء .. وإنهاء هذا الموضوع الهام والمعاش على مساحة كوكبنا الأرضي الجميل الغني بخيراته المسروق بإنسانه مع الأسف - تعبيرا عن النتائج النفسيّة والروحيّة للإغتراب على الفرد .. الكائن الإجتماعي بطبعه –
لأنه كما تقول أمثالنا الشعبية : " الجنّة بلا ناس ما بتنداس " و
تقول المؤلّفة ( إيزابيل لوركا , أخت الشاعر الأسباني لوركا – 1909 – 2002 ) في مذكّراتها :
" إيزابيل .. تتذكّر شقيقها " ..
" عندما نفكّر في ذكرياتنا قول لوركا : " إن الثقافة شئ , والنور شئ اّخر , وهذا الأخير هو الذي علينا أن نمتلكه " .
لقد كان بيتنا مفتوحا , وتبدو عليه السعادة التامة حيث يدخل الكثيرون ويخرجون , وككل الأطفال كنا نلعب لعبة اختفاء شئ صغير .. "
عاشت في عزّ ورخاء وسعادة حتى أعدم أخوها – كارسيا لوركا –
فغادرت أسبانيا إلى – بروكسل – ثم إلى الولايات المتّحدة الأميركية
الحنين إلى الوطن .. والأهل .. " الوطن قتّال "
تقول المؤلّفة : " كم كنت أحنّ إلى والدتي ووالدي وكونجا –
وكانت دوائر المراقبة في حكومة – فرانكو – تعيد الرسائل التي أكتبها إلى أهلي , فلم أعرف أي شئ عنهم , ومرّ وقت طويل حتى أصبح الحصول على خبر عنهم هو كلّ ما أتمناه في هذا العالم .
وأوّل خبر جاءني عن طريق رسالة قصيرة من أمي لم تقل فيها غير :
" أبوك وكونجا والأطفال الكل بصحّة جيّدة كما في الحقل , لا تأتي , عندما نستطيع .. سنزورك نحن لنراك "
كم تغيّروا , وقد خيّم الحزن العميق عليهم .. أحزنتني الرسالة جدا –
لاورا , وأمها تنتظرني عند رصيف الميناء . قد يكون مستحيلا ...
قد يكون مستحيلا التعبير عن " ما هو المنفى " -
_ أرى من المفيد هنا .. أن أتدخّل , وأسجّل تجربتي الشخصيّة عن وقع كلمة ( المنفى ) عليّ لأوّل مرّة في حياتي .... !! ؟؟
عندما أخبرني زوجي بالتهديد ( الخامس ) له .. في دمشق طبعا : " إمّا مغادرة البلاد , أو الموت أو القتل أو أو .. " –
وقد أخفاه عليّ طوال التهديدات السابقة , حتى يؤخّر عني ألم الصدمة والقلق والخوف – وأخيرا .. وجد أنه لا مفرّ من مكاشفتي بالحقيقة لأنه كان قد قرّر بشكل جدّي .. " المنفى " .. أي الرحيل عن الوطن – خاصة بعد اعتقال زملاؤه المحامين –
فكان وقع الخبر عليّ في تلك اللحظة .. كأن خنجرا انغرس في قلبي - ؟؟؟؟؟؟؟ !!!!!!
فتمالكت أعصابي .. ودمعتي .. وأخذت أتجرّعه بمنتهى الهدوء الممزوج بالقلق والإضطراب , والبركان يغلي في داخلي
يوما بعد اّخر .. أخذ البركان يخمد , والتعقّل والتخطيط يسود على الموقف ..
شعرت بنفسي كأنني انتقلت إلى خارج الزمن .. .... والعالم
العالم أصبح ضيّقا .. والسديم يغطّي السماء .. والأرض التي زرعتها عشبا صارت أوراق خريف
( شلوش ) .. مني , ومن حولي , بدأت تنسحب .. تتقطّع ..
إمتدادات في الطول والعرض .. تحت التراب .. وفوق التراب
بدأت أقصّها .. أطويها .. أقضمها .. أقطّعها .. بأسناني بأقدامي بوردة روحي ..
أخبئ بعضها في مكان غير منظور .. ليس له مساحة أو مكان
في مكان سري لا تراه عين .. ولا ولا مكبرّات اللصوص ..
ربما أزرعها من جديد .. في يوم ما .. .. ؟
من يدري .. ؟
وقد أخفيت , وأجلّت أنا أيضا بدوري .. هذا الخبر " الصاعقة " .. عن أبنائي –
وقد بدأنا باتمهيد لهم .. إلى أن استحقّوا هذا القرار الصعب المأساة الذي لا بدّ من إتخاذه وقبوله والتصريح به , والذي لا تزال اّثاره السلبية عليهم حتى يومنا هذا ..
.. لتبدأ مرحلة التوزّع .. والتشتّت والغربة ضمن الغربة والوحدة , كل ولد في بلد وقارة .. وبيت
ودخلت في مرحلة الصراع النفسي في هذه المرحلة الصعبة , بين حبّ الوطن والجذور .. ,
وبين دفع الأذى والعدوان عنا جميعا من قبل السلطة القمعية التي تتربّص بالأحرار والوطنييّن وكل صاحب رأي وفكر مغاير .. !! ؟
أعود لمذكّرات إيزابيل ..
" لأنه من الصعب التوافق بين الحزن العميق والسعادة والأمل .
تحدّثوا عن " اللجؤ " .. وأنا يعجبني مصطلح – ميجيل أونامونو – الذي استعمل كلمة ( النفي ) –
في واشنطن عشت وعيني على ما يجري في الضفّة الأخرى من المحيط الأطلسي .. , فحياتنا الحقيقية في الضفّة الأخرى ( أسبانيا ) .. إنه : " النفي " .
إنه النفي حقّا ..
وكذلك نحن .. وجميع المشرّدين والمبعدين المهجّرين من أوطانهم تحت ظلّ " فرانكوات العرب "
لا تختلف عن مشاعر إيزابيل .. أليس كذلك ؟ -
ثمّ تتابع إيزابيل " لم أندمج مع الحياة الأميركية كثيرا , وأظنّ لو أنني بقيت في أوربا لاستطعت التحمّل " .
- لم أستطع أن أهضم الغربة بعد سبعة عشر عاما " .. من مؤلفي الكلمة –
- فالمشاعر واحدة عند المغتربين والمنفييّن في أي زمان .. ومكان -
تستمرّ الكاتبة حكايتها ومشاعرها مع تجربتها في الإغتراب " وفي كلّ مرّة يبدو لي غريبا كيف أن والدي أعجبته وأدهشته الحياة في أميركا .
العودة إلى غرناط-------ة :
في عام 1951 , عادت إيزابيل مع عائلتها إلى غرناطة ولكنها لم تتأقلم مع ما شاهدته , حيث لم تر تلك الروح التي شهدتها في العشرينات والثلاثينات تقول :
عندما عدت إلى قريتي ومن شدّة العاطفة التي امتلكتني , أصبت بالخرس أربعا وعشرين ساعة .
أشعر الاّن بأنني لا أنتمي إلى ذلك العالم . عندما يتقدّم عمر الإنسان إلى هذا الحدّ كما هي الحال بالنسبة لي فإنه لا مجال للشكّ في أنه يعيش أكثر من حياة , اما حياتي تلك فقد انتهت تماما .
لم يعد قصر " الحمراء " كما كان لي , لم يعد لي – كم من صباح قضيته في حديقة ( لانجرن ) قارئة بشكل هادئ دون أن يزعجني أحد .
ولهذا فإن عودتي إلى غرناطة لم تكن إلا لكي أحقّق رغبتي التي انغمرت بالدموع هي رائحة ( جنّة العريف ) عند سماعي نواقيس كنيسة حيّ البيازين .
هذه الروائح وهذه النواقيس حاضرة باستمرار في أعمال أخي لوركا . ..
"هناك ياسمين الألم حيث يستلقي القمر " .
ونحن نردّد بدورنا مع " إيزابيل " :
إذا قدّر لنا العودة ثانية إلى أرض بلادنا مع كلّ أحرار الوطن المبعدين منذ عقود , والمعتقلين كذلك ..
لا يسعني إلاّ أن أردّد و أغني بالفرح .. والدمع .. عندما أسمع أصوات النواقيس .. واّذان المساجد والجوامع في صيدنايا .. ودمشق ..
هناك .. ياسمين الألم
أينع زهرا .. عطرا نديّا
مع وشاح الفجر
نمتلك النور ..
يستلقي القمر
يمطر الحبّ
وردا .. سلاما
وأعيادا للحريّة .... !
الإغتراب عن الوطن وتأثيراته الروحيّة والفكريّة والإجتماعيّة على الفرد – 3 القسم الأخير
.... فبعد حصول اللاجئ على الإقامة .. والإستقرار , تبدأ الإجراءات والمعاملات اليومية والسكن ثم الإستقرار .. ويذهب نصف الهمّ
وبعد .. وبعد .. يعيش هذا اللاجئ مرحلة الإنتظار .. إنتظار الغد , ماذا سيحمل له من المتغيّرات .. والمستجدّات ؟
يغزوه شعور ببطء حركة الزمن أحيانا , وأحيانا يشعر بأن السنين تسرع وعمره يسرع معها .. ولا جديد , بل روتين وجمود
فيعيش صمت الجدران , وصمته .. في ألم .. في صلاة .. وتأمّل عميق عمق نواة الأرض .. وبعيد بعد الخيال وما وراء الخيال .. لاستحضار الذكريات الدفينة في اللاشعور , يعيش جلّ وقته وليله في استرجاع الوجوه والأصوات والصور التي تركها , ولم تتركه ...
فتصفو الروح أكثر فأكثر , والنفس تتنقّى وترتفع لتعيش مع الخالق .. والكون .. والقوّة .. والطبيعة .. والفضاء .. وفجر الصباح , لتكتب أسرار الحياة .. السؤال الصعب .. أنا أين .. أين أنا أقيم لماذا هنا .. ؟
ماذا أعمل .. ؟ .. ولمن ؟ وكيف .. ؟ وكم سأبقى هنا .. ؟
أسئلة تجد لها أجوبة .. وأسئلة تبقى معلّقة لما بعد ... للمستقبل .. للأيام .. ! ؟
... لم أجد أجمل من هذه المقاطع " المستعارة " .. لإغناء .. وإنهاء هذا الموضوع الهام والمعاش على مساحة كوكبنا الأرضي الجميل الغني بخيراته المسروق بإنسانه مع الأسف - تعبيرا عن النتائج النفسيّة والروحيّة للإغتراب على الفرد .. الكائن الإجتماعي بطبعه –
لأنه كما تقول أمثالنا الشعبية : " الجنّة بلا ناس ما بتنداس " و
تقول المؤلّفة ( إيزابيل لوركا , أخت الشاعر الأسباني لوركا – 1909 – 2002 ) في مذكّراتها :
" إيزابيل .. تتذكّر شقيقها " ..
" عندما نفكّر في ذكرياتنا قول لوركا : " إن الثقافة شئ , والنور شئ اّخر , وهذا الأخير هو الذي علينا أن نمتلكه " .
لقد كان بيتنا مفتوحا , وتبدو عليه السعادة التامة حيث يدخل الكثيرون ويخرجون , وككل الأطفال كنا نلعب لعبة اختفاء شئ صغير .. "
عاشت في عزّ ورخاء وسعادة حتى أعدم أخوها – كارسيا لوركا –
فغادرت أسبانيا إلى – بروكسل – ثم إلى الولايات المتّحدة الأميركية
الحنين إلى الوطن .. والأهل .. " الوطن قتّال "
تقول المؤلّفة : " كم كنت أحنّ إلى والدتي ووالدي وكونجا –
وكانت دوائر المراقبة في حكومة – فرانكو – تعيد الرسائل التي أكتبها إلى أهلي , فلم أعرف أي شئ عنهم , ومرّ وقت طويل حتى أصبح الحصول على خبر عنهم هو كلّ ما أتمناه في هذا العالم .
وأوّل خبر جاءني عن طريق رسالة قصيرة من أمي لم تقل فيها غير :
" أبوك وكونجا والأطفال الكل بصحّة جيّدة كما في الحقل , لا تأتي , عندما نستطيع .. سنزورك نحن لنراك "
كم تغيّروا , وقد خيّم الحزن العميق عليهم .. أحزنتني الرسالة جدا –
لاورا , وأمها تنتظرني عند رصيف الميناء . قد يكون مستحيلا ...
قد يكون مستحيلا التعبير عن " ما هو المنفى " -
_ أرى من المفيد هنا .. أن أتدخّل , وأسجّل تجربتي الشخصيّة عن وقع كلمة ( المنفى ) عليّ لأوّل مرّة في حياتي .... !! ؟؟
عندما أخبرني زوجي بالتهديد ( الخامس ) له .. في دمشق طبعا : " إمّا مغادرة البلاد , أو الموت أو القتل أو أو .. " –
وقد أخفاه عليّ طوال التهديدات السابقة , حتى يؤخّر عني ألم الصدمة والقلق والخوف – وأخيرا .. وجد أنه لا مفرّ من مكاشفتي بالحقيقة لأنه كان قد قرّر بشكل جدّي .. " المنفى " .. أي الرحيل عن الوطن – خاصة بعد اعتقال زملاؤه المحامين –
فكان وقع الخبر عليّ في تلك اللحظة .. كأن خنجرا انغرس في قلبي - ؟؟؟؟؟؟؟ !!!!!!
فتمالكت أعصابي .. ودمعتي .. وأخذت أتجرّعه بمنتهى الهدوء الممزوج بالقلق والإضطراب , والبركان يغلي في داخلي
يوما بعد اّخر .. أخذ البركان يخمد , والتعقّل والتخطيط يسود على الموقف ..
شعرت بنفسي كأنني انتقلت إلى خارج الزمن .. .... والعالم
العالم أصبح ضيّقا .. والسديم يغطّي السماء .. والأرض التي زرعتها عشبا صارت أوراق خريف
( شلوش ) .. مني , ومن حولي , بدأت تنسحب .. تتقطّع ..
إمتدادات في الطول والعرض .. تحت التراب .. وفوق التراب
بدأت أقصّها .. أطويها .. أقضمها .. أقطّعها .. بأسناني بأقدامي بوردة روحي ..
أخبئ بعضها في مكان غير منظور .. ليس له مساحة أو مكان
في مكان سري لا تراه عين .. ولا ولا مكبرّات اللصوص ..
ربما أزرعها من جديد .. في يوم ما .. .. ؟
من يدري .. ؟
وقد أخفيت , وأجلّت أنا أيضا بدوري .. هذا الخبر " الصاعقة " .. عن أبنائي –
وقد بدأنا باتمهيد لهم .. إلى أن استحقّوا هذا القرار الصعب المأساة الذي لا بدّ من إتخاذه وقبوله والتصريح به , والذي لا تزال اّثاره السلبية عليهم حتى يومنا هذا ..
.. لتبدأ مرحلة التوزّع .. والتشتّت والغربة ضمن الغربة والوحدة , كل ولد في بلد وقارة .. وبيت
ودخلت في مرحلة الصراع النفسي في هذه المرحلة الصعبة , بين حبّ الوطن والجذور .. ,
وبين دفع الأذى والعدوان عنا جميعا من قبل السلطة القمعية التي تتربّص بالأحرار والوطنييّن وكل صاحب رأي وفكر مغاير .. !! ؟
أعود لمذكّرات إيزابيل ..
" لأنه من الصعب التوافق بين الحزن العميق والسعادة والأمل .
تحدّثوا عن " اللجؤ " .. وأنا يعجبني مصطلح – ميجيل أونامونو – الذي استعمل كلمة ( النفي ) –
في واشنطن عشت وعيني على ما يجري في الضفّة الأخرى من المحيط الأطلسي .. , فحياتنا الحقيقية في الضفّة الأخرى ( أسبانيا ) .. إنه : " النفي " .
إنه النفي حقّا ..
وكذلك نحن .. وجميع المشرّدين والمبعدين المهجّرين من أوطانهم تحت ظلّ " فرانكوات العرب "
لا تختلف عن مشاعر إيزابيل .. أليس كذلك ؟ -
ثمّ تتابع إيزابيل " لم أندمج مع الحياة الأميركية كثيرا , وأظنّ لو أنني بقيت في أوربا لاستطعت التحمّل " .
- لم أستطع أن أهضم الغربة بعد سبعة عشر عاما " .. من مؤلفي الكلمة –
- فالمشاعر واحدة عند المغتربين والمنفييّن في أي زمان .. ومكان -
تستمرّ الكاتبة حكايتها ومشاعرها مع تجربتها في الإغتراب " وفي كلّ مرّة يبدو لي غريبا كيف أن والدي أعجبته وأدهشته الحياة في أميركا .
العودة إلى غرناط-------ة :
في عام 1951 , عادت إيزابيل مع عائلتها إلى غرناطة ولكنها لم تتأقلم مع ما شاهدته , حيث لم تر تلك الروح التي شهدتها في العشرينات والثلاثينات تقول :
عندما عدت إلى قريتي ومن شدّة العاطفة التي امتلكتني , أصبت بالخرس أربعا وعشرين ساعة .
أشعر الاّن بأنني لا أنتمي إلى ذلك العالم . عندما يتقدّم عمر الإنسان إلى هذا الحدّ كما هي الحال بالنسبة لي فإنه لا مجال للشكّ في أنه يعيش أكثر من حياة , اما حياتي تلك فقد انتهت تماما .
لم يعد قصر " الحمراء " كما كان لي , لم يعد لي – كم من صباح قضيته في حديقة ( لانجرن ) قارئة بشكل هادئ دون أن يزعجني أحد .
ولهذا فإن عودتي إلى غرناطة لم تكن إلا لكي أحقّق رغبتي التي انغمرت بالدموع هي رائحة ( جنّة العريف ) عند سماعي نواقيس كنيسة حيّ البيازين .
هذه الروائح وهذه النواقيس حاضرة باستمرار في أعمال أخي لوركا . ..
"هناك ياسمين الألم حيث يستلقي القمر " .
ونحن نردّد بدورنا مع " إيزابيل " :
إذا قدّر لنا العودة ثانية إلى أرض بلادنا مع كلّ أحرار الوطن المبعدين منذ عقود , والمعتقلين كذلك ..
لا يسعني إلاّ أن أردّد و أغني بالفرح .. والدمع .. عندما أسمع أصوات النواقيس .. واّذان المساجد والجوامع في صيدنايا .. ودمشق ..
هناك .. ياسمين الألم
أينع زهرا .. عطرا نديّا
مع وشاح الفجر
نمتلك النور ..
يستلقي القمر
يمطر الحبّ
وردا .. سلاما
وأعيادا للحريّة .... !
الإغتراب عن الوطن وتأثيراته الروحيّة والفكريّة والإجتماعيّة على الفرد – 3 القسم الأخير
.... فبعد حصول اللاجئ على الإقامة .. والإستقرار , تبدأ الإجراءات والمعاملات اليومية والسكن ثم الإستقرار .. ويذهب نصف الهمّ
وبعد .. وبعد .. يعيش هذا اللاجئ مرحلة الإنتظار .. إنتظار الغد , ماذا سيحمل له من المتغيّرات .. والمستجدّات ؟
يغزوه شعور ببطء حركة الزمن أحيانا , وأحيانا يشعر بأن السنين تسرع وعمره يسرع معها .. ولا جديد , بل روتين وجمود
فيعيش صمت الجدران , وصمته .. في ألم .. في صلاة .. وتأمّل عميق عمق نواة الأرض .. وبعيد بعد الخيال وما وراء الخيال .. لاستحضار الذكريات الدفينة في اللاشعور , يعيش جلّ وقته وليله في استرجاع الوجوه والأصوات والصور التي تركها , ولم تتركه ...
فتصفو الروح أكثر فأكثر , والنفس تتنقّى وترتفع لتعيش مع الخالق .. والكون .. والقوّة .. والطبيعة .. والفضاء .. وفجر الصباح , لتكتب أسرار الحياة .. السؤال الصعب .. أنا أين .. أين أنا أقيم لماذا هنا .. ؟
ماذا أعمل .. ؟ .. ولمن ؟ وكيف .. ؟ وكم سأبقى هنا .. ؟
أسئلة تجد لها أجوبة .. وأسئلة تبقى معلّقة لما بعد ... للمستقبل .. للأيام .. ! ؟
... لم أجد أجمل من هذه المقاطع " المستعارة " .. لإغناء .. وإنهاء هذا الموضوع الهام والمعاش على مساحة كوكبنا الأرضي الجميل الغني بخيراته المسروق بإنسانه مع الأسف - تعبيرا عن النتائج النفسيّة والروحيّة للإغتراب على الفرد .. الكائن الإجتماعي بطبعه –
لأنه كما تقول أمثالنا الشعبية : " الجنّة بلا ناس ما بتنداس " و
تقول المؤلّفة ( إيزابيل لوركا , أخت الشاعر الأسباني لوركا – 1909 – 2002 ) في مذكّراتها :
" إيزابيل .. تتذكّر شقيقها " ..
" عندما نفكّر في ذكرياتنا قول لوركا : " إن الثقافة شئ , والنور شئ اّخر , وهذا الأخير هو الذي علينا أن نمتلكه " .
لقد كان بيتنا مفتوحا , وتبدو عليه السعادة التامة حيث يدخل الكثيرون ويخرجون , وككل الأطفال كنا نلعب لعبة اختفاء شئ صغير .. "
عاشت في عزّ ورخاء وسعادة حتى أعدم أخوها – كارسيا لوركا –
فغادرت أسبانيا إلى – بروكسل – ثم إلى الولايات المتّحدة الأميركية
الحنين إلى الوطن .. والأهل .. " الوطن قتّال "
تقول المؤلّفة : " كم كنت أحنّ إلى والدتي ووالدي وكونجا –
وكانت دوائر المراقبة في حكومة – فرانكو – تعيد الرسائل التي أكتبها إلى أهلي , فلم أعرف أي شئ عنهم , ومرّ وقت طويل حتى أصبح الحصول على خبر عنهم هو كلّ ما أتمناه في هذا العالم .
وأوّل خبر جاءني عن طريق رسالة قصيرة من أمي لم تقل فيها غير :
" أبوك وكونجا والأطفال الكل بصحّة جيّدة كما في الحقل , لا تأتي , عندما نستطيع .. سنزورك نحن لنراك "
كم تغيّروا , وقد خيّم الحزن العميق عليهم .. أحزنتني الرسالة جدا –
لاورا , وأمها تنتظرني عند رصيف الميناء . قد يكون مستحيلا ...
قد يكون مستحيلا التعبير عن " ما هو المنفى " -
_ أرى من المفيد هنا .. أن أتدخّل , وأسجّل تجربتي الشخصيّة عن وقع كلمة ( المنفى ) عليّ لأوّل مرّة في حياتي .... !! ؟؟
عندما أخبرني زوجي بالتهديد ( الخامس ) له .. في دمشق طبعا : " إمّا مغادرة البلاد , أو الموت أو القتل أو أو .. " –
وقد أخفاه عليّ طوال التهديدات السابقة , حتى يؤخّر عني ألم الصدمة والقلق والخوف – وأخيرا .. وجد أنه لا مفرّ من مكاشفتي بالحقيقة لأنه كان قد قرّر بشكل جدّي .. " المنفى " .. أي الرحيل عن الوطن – خاصة بعد اعتقال زملاؤه المحامين –
فكان وقع الخبر عليّ في تلك اللحظة .. كأن خنجرا انغرس في قلبي - ؟؟؟؟؟؟؟ !!!!!!
فتمالكت أعصابي .. ودمعتي .. وأخذت أتجرّعه بمنتهى الهدوء الممزوج بالقلق والإضطراب , والبركان يغلي في داخلي
يوما بعد اّخر .. أخذ البركان يخمد , والتعقّل والتخطيط يسود على الموقف ..
شعرت بنفسي كأنني انتقلت إلى خارج الزمن .. .... والعالم
العالم أصبح ضيّقا .. والسديم يغطّي السماء .. والأرض التي زرعتها عشبا صارت أوراق خريف
( شلوش ) .. مني , ومن حولي , بدأت تنسحب .. تتقطّع ..
إمتدادات في الطول والعرض .. تحت التراب .. وفوق التراب
بدأت أقصّها .. أطويها .. أقضمها .. أقطّعها .. بأسناني بأقدامي بوردة روحي ..
أخبئ بعضها في مكان غير منظور .. ليس له مساحة أو مكان
في مكان سري لا تراه عين .. ولا ولا مكبرّات اللصوص ..
ربما أزرعها من جديد .. في يوم ما .. .. ؟
من يدري .. ؟
وقد أخفيت , وأجلّت أنا أيضا بدوري .. هذا الخبر " الصاعقة " .. عن أبنائي –
وقد بدأنا باتمهيد لهم .. إلى أن استحقّوا هذا القرار الصعب المأساة الذي لا بدّ من إتخاذه وقبوله والتصريح به , والذي لا تزال اّثاره السلبية عليهم حتى يومنا هذا ..
.. لتبدأ مرحلة التوزّع .. والتشتّت والغربة ضمن الغربة والوحدة , كل ولد في بلد وقارة .. وبيت
ودخلت في مرحلة الصراع النفسي في هذه المرحلة الصعبة , بين حبّ الوطن والجذور .. ,
وبين دفع الأذى والعدوان عنا جميعا من قبل السلطة القمعية التي تتربّص بالأحرار والوطنييّن وكل صاحب رأي وفكر مغاير .. !! ؟
أعود لمذكّرات إيزابيل ..
" لأنه من الصعب التوافق بين الحزن العميق والسعادة والأمل .
تحدّثوا عن " اللجؤ " .. وأنا يعجبني مصطلح – ميجيل أونامونو – الذي استعمل كلمة ( النفي ) –
في واشنطن عشت وعيني على ما يجري في الضفّة الأخرى من المحيط الأطلسي .. , فحياتنا الحقيقية في الضفّة الأخرى ( أسبانيا ) .. إنه : " النفي " .
إنه النفي حقّا ..
وكذلك نحن .. وجميع المشرّدين والمبعدين المهجّرين من أوطانهم تحت ظلّ " فرانكوات العرب "
لا تختلف عن مشاعر إيزابيل .. أليس كذلك ؟ -
ثمّ تتابع إيزابيل " لم أندمج مع الحياة الأميركية كثيرا , وأظنّ لو أنني بقيت في أوربا لاستطعت التحمّل " .
- لم أستطع أن أهضم الغربة بعد سبعة عشر عاما " .. من مؤلفي الكلمة –
- فالمشاعر واحدة عند المغتربين والمنفييّن في أي زمان .. ومكان -
تستمرّ الكاتبة حكايتها ومشاعرها مع تجربتها في الإغتراب " وفي كلّ مرّة يبدو لي غريبا كيف أن والدي أعجبته وأدهشته الحياة في أميركا .
العودة إلى غرناط-------ة :
في عام 1951 , عادت إيزابيل مع عائلتها إلى غرناطة ولكنها لم تتأقلم مع ما شاهدته , حيث لم تر تلك الروح التي شهدتها في العشرينات والثلاثينات تقول :
عندما عدت إلى قريتي ومن شدّة العاطفة التي امتلكتني , أصبت بالخرس أربعا وعشرين ساعة .
أشعر الاّن بأنني لا أنتمي إلى ذلك العالم . عندما يتقدّم عمر الإنسان إلى هذا الحدّ كما هي الحال بالنسبة لي فإنه لا مجال للشكّ في أنه يعيش أكثر من حياة , اما حياتي تلك فقد انتهت تماما .
لم يعد قصر " الحمراء " كما كان لي , لم يعد لي – كم من صباح قضيته في حديقة ( لانجرن ) قارئة بشكل هادئ دون أن يزعجني أحد .
ولهذا فإن عودتي إلى غرناطة لم تكن إلا لكي أحقّق رغبتي التي انغمرت بالدموع هي رائحة ( جنّة العريف ) عند سماعي نواقيس كنيسة حيّ البيازين .
هذه الروائح وهذه النواقيس حاضرة باستمرار في أعمال أخي لوركا . ..
"هناك ياسمين الألم حيث يستلقي القمر " .
ونحن نردّد بدورنا مع " إيزابيل " :
إذا قدّر لنا العودة ثانية إلى أرض بلادنا مع كلّ أحرار الوطن المبعدين منذ عقود , والمعتقلين كذلك ..
لا يسعني إلاّ أن أردّد و أغني بالفرح .. والدمع .. عندما أسمع أصوات النواقيس .. واّذان المساجد والجوامع في صيدنايا .. ودمشق ..
هناك .. ياسمين الألم
أينع زهرا .. عطرا نديّا
مع وشاح الفجر
نمتلك النور ..
يستلقي القمر
يمطر الحبّ
وردا .. سلاما
وأعيادا للحريّة .... !
الإغتراب عن الوطن وتأثيراته الروحيّة والفكريّة والإجتماعيّة على الفرد – 3 القسم الأخير
.... فبعد حصول اللاجئ على الإقامة .. والإستقرار , تبدأ الإجراءات والمعاملات اليومية والسكن ثم الإستقرار .. ويذهب نصف الهمّ
وبعد .. وبعد .. يعيش هذا اللاجئ مرحلة الإنتظار .. إنتظار الغد , ماذا سيحمل له من المتغيّرات .. والمستجدّات ؟
يغزوه شعور ببطء حركة الزمن أحيانا , وأحيانا يشعر بأن السنين تسرع وعمره يسرع معها .. ولا جديد , بل روتين وجمود
فيعيش صمت الجدران , وصمته .. في ألم .. في صلاة .. وتأمّل عميق عمق نواة الأرض .. وبعيد بعد الخيال وما وراء الخيال .. لاستحضار الذكريات الدفينة في اللاشعور , يعيش جلّ وقته وليله في استرجاع الوجوه والأصوات والصور التي تركها , ولم تتركه ...
فتصفو الروح أكثر فأكثر , والنفس تتنقّى وترتفع لتعيش مع الخالق .. والكون .. والقوّة .. والطبيعة .. والفضاء .. وفجر الصباح , لتكتب أسرار الحياة .. السؤال الصعب .. أنا أين .. أين أنا أقيم لماذا هنا .. ؟
ماذا أعمل .. ؟ .. ولمن ؟ وكيف .. ؟ وكم سأبقى هنا .. ؟
أسئلة تجد لها أجوبة .. وأسئلة تبقى معلّقة لما بعد ... للمستقبل .. للأيام .. ! ؟
... لم أجد أجمل من هذه المقاطع " المستعارة " .. لإغناء .. وإنهاء هذا الموضوع الهام والمعاش على مساحة كوكبنا الأرضي الجميل الغني بخيراته المسروق بإنسانه مع الأسف - تعبيرا عن النتائج النفسيّة والروحيّة للإغتراب على الفرد .. الكائن الإجتماعي بطبعه –
لأنه كما تقول أمثالنا الشعبية : " الجنّة بلا ناس ما بتنداس " و
تقول المؤلّفة ( إيزابيل لوركا , أخت الشاعر الأسباني لوركا – 1909 – 2002 ) في مذكّراتها :
" إيزابيل .. تتذكّر شقيقها " ..
" عندما نفكّر في ذكرياتنا قول لوركا : " إن الثقافة شئ , والنور شئ اّخر , وهذا الأخير هو الذي علينا أن نمتلكه " .
لقد كان بيتنا مفتوحا , وتبدو عليه السعادة التامة حيث يدخل الكثيرون ويخرجون , وككل الأطفال كنا نلعب لعبة اختفاء شئ صغير .. "
عاشت في عزّ ورخاء وسعادة حتى أعدم أخوها – كارسيا لوركا –
فغادرت أسبانيا إلى – بروكسل – ثم إلى الولايات المتّحدة الأميركية
الحنين إلى الوطن .. والأهل .. " الوطن قتّال "
تقول المؤلّفة : " كم كنت أحنّ إلى والدتي ووالدي وكونجا –
وكانت دوائر المراقبة في حكومة – فرانكو – تعيد الرسائل التي أكتبها إلى أهلي , فلم أعرف أي شئ عنهم , ومرّ وقت طويل حتى أصبح الحصول على خبر عنهم هو كلّ ما أتمناه في هذا العالم .
وأوّل خبر جاءني عن طريق رسالة قصيرة من أمي لم تقل فيها غير :
" أبوك وكونجا والأطفال الكل بصحّة جيّدة كما في الحقل , لا تأتي , عندما نستطيع .. سنزورك نحن لنراك "
كم تغيّروا , وقد خيّم الحزن العميق عليهم .. أحزنتني الرسالة جدا –
لاورا , وأمها تنتظرني عند رصيف الميناء . قد يكون مستحيلا ...
قد يكون مستحيلا التعبير عن " ما هو المنفى " -
_ أرى من المفيد هنا .. أن أتدخّل , وأسجّل تجربتي الشخصيّة عن وقع كلمة ( المنفى ) عليّ لأوّل مرّة في حياتي .... !! ؟؟
عندما أخبرني زوجي بالتهديد ( الخامس ) له .. في دمشق طبعا : " إمّا مغادرة البلاد , أو الموت أو القتل أو أو .. " –
وقد أخفاه عليّ طوال التهديدات السابقة , حتى يؤخّر عني ألم الصدمة والقلق والخوف – وأخيرا .. وجد أنه لا مفرّ من مكاشفتي بالحقيقة لأنه كان قد قرّر بشكل جدّي .. " المنفى " .. أي الرحيل عن الوطن – خاصة بعد اعتقال زملاؤه المحامين –
فكان وقع الخبر عليّ في تلك اللحظة .. كأن خنجرا انغرس في قلبي - ؟؟؟؟؟؟؟ !!!!!!
فتمالكت أعصابي .. ودمعتي .. وأخذت أتجرّعه بمنتهى الهدوء الممزوج بالقلق والإضطراب , والبركان يغلي في داخلي
يوما بعد اّخر .. أخذ البركان يخمد , والتعقّل والتخطيط يسود على الموقف ..
شعرت بنفسي كأنني انتقلت إلى خارج الزمن .. .... والعالم
العالم أصبح ضيّقا .. والسديم يغطّي السماء .. والأرض التي زرعتها عشبا صارت أوراق خريف
( شلوش ) .. مني , ومن حولي , بدأت تنسحب .. تتقطّع ..
إمتدادات في الطول والعرض .. تحت التراب .. وفوق التراب
بدأت أقصّها .. أطويها .. أقضمها .. أقطّعها .. بأسناني بأقدامي بوردة روحي ..
أخبئ بعضها في مكان غير منظور .. ليس له مساحة أو مكان
في مكان سري لا تراه عين .. ولا ولا مكبرّات اللصوص ..
ربما أزرعها من جديد .. في يوم ما .. .. ؟
من يدري .. ؟
وقد أخفيت , وأجلّت أنا أيضا بدوري .. هذا الخبر " الصاعقة " .. عن أبنائي –
وقد بدأنا باتمهيد لهم .. إلى أن استحقّوا هذا القرار الصعب المأساة الذي لا بدّ من إتخاذه وقبوله والتصريح به , والذي لا تزال اّثاره السلبية عليهم حتى يومنا هذا ..
.. لتبدأ مرحلة التوزّع .. والتشتّت والغربة ضمن الغربة والوحدة , كل ولد في بلد وقارة .. وبيت
ودخلت في مرحلة الصراع النفسي في هذه المرحلة الصعبة , بين حبّ الوطن والجذور .. ,
وبين دفع الأذى والعدوان عنا جميعا من قبل السلطة القمعية التي تتربّص بالأحرار والوطنييّن وكل صاحب رأي وفكر مغاير .. !! ؟
أعود لمذكّرات إيزابيل ..
" لأنه من الصعب التوافق بين الحزن العميق والسعادة والأمل .
تحدّثوا عن " اللجؤ " .. وأنا يعجبني مصطلح – ميجيل أونامونو – الذي استعمل كلمة ( النفي ) –
في واشنطن عشت وعيني على ما يجري في الضفّة الأخرى من المحيط الأطلسي .. , فحياتنا الحقيقية في الضفّة الأخرى ( أسبانيا ) .. إنه : " النفي " .
إنه النفي حقّا ..
وكذلك نحن .. وجميع المشرّدين والمبعدين المهجّرين من أوطانهم تحت ظلّ " فرانكوات العرب "
لا تختلف عن مشاعر إيزابيل .. أليس كذلك ؟ -
ثمّ تتابع إيزابيل " لم أندمج مع الحياة الأميركية كثيرا , وأظنّ لو أنني بقيت في أوربا لاستطعت التحمّل " .
- لم أستطع أن أهضم الغربة بعد سبعة عشر عاما " .. من مؤلفي الكلمة –
- فالمشاعر واحدة عند المغتربين والمنفييّن في أي زمان .. ومكان -
تستمرّ الكاتبة حكايتها ومشاعرها مع تجربتها في الإغتراب " وفي كلّ مرّة يبدو لي غريبا كيف أن والدي أعجبته وأدهشته الحياة في أميركا .
العودة إلى غرناط-------ة :
في عام 1951 , عادت إيزابيل مع عائلتها إلى غرناطة ولكنها لم تتأقلم مع ما شاهدته , حيث لم تر تلك الروح التي شهدتها في العشرينات والثلاثينات تقول :
عندما عدت إلى قريتي ومن شدّة العاطفة التي امتلكتني , أصبت بالخرس أربعا وعشرين ساعة .
أشعر الاّن بأنني لا أنتمي إلى ذلك العالم . عندما يتقدّم عمر الإنسان إلى هذا الحدّ كما هي الحال بالنسبة لي فإنه لا مجال للشكّ في أنه يعيش أكثر من حياة , اما حياتي تلك فقد انتهت تماما .
لم يعد قصر " الحمراء " كما كان لي , لم يعد لي – كم من صباح قضيته في حديقة ( لانجرن ) قارئة بشكل هادئ دون أن يزعجني أحد .
ولهذا فإن عودتي إلى غرناطة لم تكن إلا لكي أحقّق رغبتي التي انغمرت بالدموع هي رائحة ( جنّة العريف ) عند سماعي نواقيس كنيسة حيّ البيازين .
هذه الروائح وهذه النواقيس حاضرة باستمرار في أعمال أخي لوركا . ..
"هناك ياسمين الألم حيث يستلقي القمر " .
ونحن نردّد بدورنا مع " إيزابيل " :
إذا قدّر لنا العودة ثانية إلى أرض بلادنا مع كلّ أحرار الوطن المبعدين منذ عقود , والمعتقلين كذلك ..
لا يسعني إلاّ أن أردّد و أغني بالفرح .. والدمع .. عندما أسمع أصوات النواقيس .. واّذان المساجد والجوامع في صيدنايا .. ودمشق ..
هناك .. ياسمين الألم
أينع زهرا .. عطرا نديّا
مع وشاح الفجر
نمتلك النور ..
يستلقي القمر
يمطر الحبّ
وردا .. سلاما
وأعيادا للحريّة .... !
الإغتراب عن الوطن وتأثيراته الروحيّة والفكريّة والإجتماعيّة على الفرد – 3 القسم الأخير
.... فبعد حصول اللاجئ على الإقامة .. والإستقرار , تبدأ الإجراءات والمعاملات اليومية والسكن ثم الإستقرار .. ويذهب نصف الهمّ
وبعد .. وبعد .. يعيش هذا اللاجئ مرحلة الإنتظار .. إنتظار الغد , ماذا سيحمل له من المتغيّرات .. والمستجدّات ؟
يغزوه شعور ببطء حركة الزمن أحيانا , وأحيانا يشعر بأن السنين تسرع وعمره يسرع معها .. ولا جديد , بل روتين وجمود
فيعيش صمت الجدران , وصمته .. في ألم .. في صلاة .. وتأمّل عميق عمق نواة الأرض .. وبعيد بعد الخيال وما وراء الخيال .. لاستحضار الذكريات الدفينة في اللاشعور , يعيش جلّ وقته وليله في استرجاع الوجوه والأصوات والصور التي تركها , ولم تتركه ...
فتصفو الروح أكثر فأكثر , والنفس تتنقّى وترتفع لتعيش مع الخالق .. والكون .. والقوّة .. والطبيعة .. والفضاء .. وفجر الصباح , لتكتب أسرار الحياة .. السؤال الصعب .. أنا أين .. أين أنا أقيم لماذا هنا .. ؟
ماذا أعمل .. ؟ .. ولمن ؟ وكيف .. ؟ وكم سأبقى هنا .. ؟
أسئلة تجد لها أجوبة .. وأسئلة تبقى معلّقة لما بعد ... للمستقبل .. للأيام .. ! ؟
... لم أجد أجمل من هذه المقاطع " المستعارة " .. لإغناء .. وإنهاء هذا الموضوع الهام والمعاش على مساحة كوكبنا الأرضي الجميل الغني بخيراته المسروق بإنسانه مع الأسف - تعبيرا عن النتائج النفسيّة والروحيّة للإغتراب على الفرد .. الكائن الإجتماعي بطبعه –
لأنه كما تقول أمثالنا الشعبية : " الجنّة بلا ناس ما بتنداس " و
تقول المؤلّفة ( إيزابيل لوركا , أخت الشاعر الأسباني لوركا – 1909 – 2002 ) في مذكّراتها :
" إيزابيل .. تتذكّر شقيقها " ..
" عندما نفكّر في ذكرياتنا قول لوركا : " إن الثقافة شئ , والنور شئ اّخر , وهذا الأخير هو الذي علينا أن نمتلكه " .
لقد كان بيتنا مفتوحا , وتبدو عليه السعادة التامة حيث يدخل الكثيرون ويخرجون , وككل الأطفال كنا نلعب لعبة اختفاء شئ صغير .. "
عاشت في عزّ ورخاء وسعادة حتى أعدم أخوها – كارسيا لوركا –
فغادرت أسبانيا إلى – بروكسل – ثم إلى الولايات المتّحدة الأميركية
الحنين إلى الوطن .. والأهل .. " الوطن قتّال "
تقول المؤلّفة : " كم كنت أحنّ إلى والدتي ووالدي وكونجا –
وكانت دوائر المراقبة في حكومة – فرانكو – تعيد الرسائل التي أكتبها إلى أهلي , فلم أعرف أي شئ عنهم , ومرّ وقت طويل حتى أصبح الحصول على خبر عنهم هو كلّ ما أتمناه في هذا العالم .
وأوّل خبر جاءني عن طريق رسالة قصيرة من أمي لم تقل فيها غير :
" أبوك وكونجا والأطفال الكل بصحّة جيّدة كما في الحقل , لا تأتي , عندما نستطيع .. سنزورك نحن لنراك "
كم تغيّروا , وقد خيّم الحزن العميق عليهم .. أحزنتني الرسالة جدا –
لاورا , وأمها تنتظرني عند رصيف الميناء . قد يكون مستحيلا ...
قد يكون مستحيلا التعبير عن " ما هو المنفى " -
_ أرى من المفيد هنا .. أن أتدخّل , وأسجّل تجربتي الشخصيّة عن وقع كلمة ( المنفى ) عليّ لأوّل مرّة في حياتي .... !! ؟؟
عندما أخبرني زوجي بالتهديد ( الخامس ) له .. في دمشق طبعا : " إمّا مغادرة البلاد , أو الموت أو القتل أو أو .. " –
وقد أخفاه عليّ طوال التهديدات السابقة , حتى يؤخّر عني ألم الصدمة والقلق والخوف – وأخيرا .. وجد أنه لا مفرّ من مكاشفتي بالحقيقة لأنه كان قد قرّر بشكل جدّي .. " المنفى " .. أي الرحيل عن الوطن – خاصة بعد اعتقال زملاؤه المحامين –
فكان وقع الخبر عليّ في تلك اللحظة .. كأن خنجرا انغرس في قلبي - ؟؟؟؟؟؟؟ !!!!!!
فتمالكت أعصابي .. ودمعتي .. وأخذت أتجرّعه بمنتهى الهدوء الممزوج بالقلق والإضطراب , والبركان يغلي في داخلي
يوما بعد اّخر .. أخذ البركان يخمد , والتعقّل والتخطيط يسود على الموقف ..
شعرت بنفسي كأنني انتقلت إلى خارج الزمن .. .... والعالم
العالم أصبح ضيّقا .. والسديم يغطّي السماء .. والأرض التي زرعتها عشبا صارت أوراق خريف
( شلوش ) .. مني , ومن حولي , بدأت تنسحب .. تتقطّع ..
إمتدادات في الطول والعرض .. تحت التراب .. وفوق التراب
بدأت أقصّها .. أطويها .. أقضمها .. أقطّعها .. بأسناني بأقدامي بوردة روحي ..
أخبئ بعضها في مكان غير منظور .. ليس له مساحة أو مكان
في مكان سري لا تراه عين .. ولا ولا مكبرّات اللصوص ..
ربما أزرعها من جديد .. في يوم ما .. .. ؟
من يدري .. ؟
وقد أخفيت , وأجلّت أنا أيضا بدوري .. هذا الخبر " الصاعقة " .. عن أبنائي –
وقد بدأنا باتمهيد لهم .. إلى أن استحقّوا هذا القرار الصعب المأساة الذي لا بدّ من إتخاذه وقبوله والتصريح به , والذي لا تزال اّثاره السلبية عليهم حتى يومنا هذا ..
.. لتبدأ مرحلة التوزّع .. والتشتّت والغربة ضمن الغربة والوحدة , كل ولد في بلد وقارة .. وبيت
ودخلت في مرحلة الصراع النفسي في هذه المرحلة الصعبة , بين حبّ الوطن والجذور .. ,
وبين دفع الأذى والعدوان عنا جميعا من قبل السلطة القمعية التي تتربّص بالأحرار والوطنييّن وكل صاحب رأي وفكر مغاير .. !! ؟
أعود لمذكّرات إيزابيل ..
" لأنه من الصعب التوافق بين الحزن العميق والسعادة والأمل .
تحدّثوا عن " اللجؤ " .. وأنا يعجبني مصطلح – ميجيل أونامونو – الذي استعمل كلمة ( النفي ) –
في واشنطن عشت وعيني على ما يجري في الضفّة الأخرى من المحيط الأطلسي .. , فحياتنا الحقيقية في الضفّة الأخرى ( أسبانيا ) .. إنه : " النفي " .
إنه النفي حقّا ..
وكذلك نحن .. وجميع المشرّدين والمبعدين المهجّرين من أوطانهم تحت ظلّ " فرانكوات العرب "
لا تختلف عن مشاعر إيزابيل .. أليس كذلك ؟ -
ثمّ تتابع إيزابيل " لم أندمج مع الحياة الأميركية كثيرا , وأظنّ لو أنني بقيت في أوربا لاستطعت التحمّل " .
- لم أستطع أن أهضم الغربة بعد سبعة عشر عاما " .. من مؤلفي الكلمة –
- فالمشاعر واحدة عند المغتربين والمنفييّن في أي زمان .. ومكان -
تستمرّ الكاتبة حكايتها ومشاعرها مع تجربتها في الإغتراب " وفي كلّ مرّة يبدو لي غريبا كيف أن والدي أعجبته وأدهشته الحياة في أميركا .
العودة إلى غرناط-------ة :
في عام 1951 , عادت إيزابيل مع عائلتها إلى غرناطة ولكنها لم تتأقلم مع ما شاهدته , حيث لم تر تلك الروح التي شهدتها في العشرينات والثلاثينات تقول :
عندما عدت إلى قريتي ومن شدّة العاطفة التي امتلكتني , أصبت بالخرس أربعا وعشرين ساعة .
أشعر الاّن بأنني لا أنتمي إلى ذلك العالم . عندما يتقدّم عمر الإنسان إلى هذا الحدّ كما هي الحال بالنسبة لي فإنه لا مجال للشكّ في أنه يعيش أكثر من حياة , اما حياتي تلك فقد انتهت تماما .
لم يعد قصر " الحمراء " كما كان لي , لم يعد لي – كم من صباح قضيته في حديقة ( لانجرن ) قارئة بشكل هادئ دون أن يزعجني أحد .
ولهذا فإن عودتي إلى غرناطة لم تكن إلا لكي أحقّق رغبتي التي انغمرت بالدموع هي رائحة ( جنّة العريف ) عند سماعي نواقيس كنيسة حيّ البيازين .
هذه الروائح وهذه النواقيس حاضرة باستمرار في أعمال أخي لوركا . ..
"هناك ياسمين الألم حيث يستلقي القمر " .
ونحن نردّد بدورنا مع " إيزابيل " :
إذا قدّر لنا العودة ثانية إلى أرض بلادنا مع كلّ أحرار الوطن المبعدين منذ عقود , والمعتقلين كذلك ..
لا يسعني إلاّ أن أردّد و أغني بالفرح .. والدمع .. عندما أسمع أصوات النواقيس .. واّذان المساجد والجوامع في صيدنايا .. ودمشق ..
هناك .. ياسمين الألم
أينع زهرا .. عطرا نديّا
مع وشاح الفجر
نمتلك النور ..
يستلقي القمر
يمطر الحبّ
وردا .. سلاما
وأعيادا للحريّة .... !
#مريم_نجمه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟