|
الفردوسُ الخلفيّ: الخاتمة
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5447 - 2017 / 3 / 1 - 01:23
المحور:
الادب والفن
ليالي الميلاد، مجدداً. أرنو بنظري إلى الخارج، عبْرَ نافذة حجرتنا الوحيدة، وقد أختنق داخلي من الخواء. الأضواء الملوّنة، المبثوثة على كلّ شرفة، تحاول تبديد الكآبة، المترتبة على طول ليالي الشتاء وما يكتنفها من صقيع وعزلة. قبل عامين، كنتُ في الطرف الآخر من بحر البلطيق، أتخذ نفس الوضعية وربما أفكّر بذات الطريقة. إلا أنّ الذاكرة لا يمكنها أن تستعيد صوَرَ الماضي كما يفعل جهاز السلايدات، دون أن يخترقها الخيالُ وربما أيضاً الفنتاسيا. ذاكرتي، أضحت مضغوطة مثل رسالة " سفيتا " الأخيرة، التي أودعتها هيَ بين دفتيّ أحد مجلدات رواية معبودها. وأبعد، تمضي ذاكرتي إلى المدينة الحمراء، لتصبح مجرّد أذن تلتقط أصوات قرع طبول ساحة جامع الفنا، المنبعثة في الليل ـ كصدىً قصيّ لدويّ قنابل مدفعية. " ستوكهولم وموسكو، يشكّلان قاعدة مثلث متساوي الضلعين، رأسه ثمة في مراكش "، راودتني هذه الفكرة مع كوني أكره العلوم الرياضية. إلا أنّ الهندسة، مثلما هوَ معروف، أساسُ عمارة المدن. والرواية، بحَسَب النظريات الحديثة، تعدّ الابنة الشرعية للمدينة. العلم يتداخل مع الأدب، الواقع ينجذب إلى الوهم، والخير يقع على الشر: إنها حقائق شكّلت شخصيات سيرتي الروائية، وخصوصاً الذين وجدوا أنفسهم جزءاً من أمكنة لم يختاروها.. وإنها مراكش، رأس المثلث، مَن تعيّن عليها أن تصهر كل تلك الذوات في بوتقتها كي تكوّنهم ثانيةً مصقولين بقيَمها الفريدة. كانت " سفيتا " محقّة، حين أعتبرت الحب وهماً. ولكننا معشر البشر نحتاج هذا الحب، لأنّ كلاً منا كيانٌ يشكّل ذاته من ثنائية الواقع والوهم. عندما تنتفي الحاجة إلى الحب، يكون الانسان قد وصل إلى اللا طريق. عند ذلك، يغدو الموت خياراً؛ لأنه واقع، حقيقة خالدة، وليسَ وهماً. الانفصال عن الوهم، لا يعدو عن كونه عودة إلى الإندماج بالواقع. قد يتم هذا بقفزة من شاهق، أو بأنشوطة حبل. كلها طُرُق، تخلصنا من ورطة اللا طريق. المرآة الكبيرة، الملتصقة بجدار مدخل الحجرة المقابل لسرير نومنا ( ثبتتها تينا لكي أتأمل فردوسها الخلفيّ خلال الجماع! )، تعكس صورة صديقتي فيما هيَ مشغولة بالقراءة. لقد ألتقيتها أول مرة في صالة ديسكو، في قاعة منذورة للحفلات الخاصّة. كانت متألقة ومثيرة وسط حلقة الرقص، يرتفع ثوبها القصير وينزل مع هبوب الهواء الربيعيّ الدافئ. لفتت نظري، مع كون مثيلاتها يملأن الصالة. ولم يحصل الأمر إتفاقاً؛ فإنّ المرآة المغطية كامل جدار الصالة من الجهة المقابلة للبار، كانت تجسّد عينيها المتعلقتين بعينيّ: الحب، لا يهتم بالإشارات. فماذا يعني أن تكون فتاة تلتقي معها للمرة الأولى مكتسية بثوب أصفر، سوى أنه لونٌ ربيعيّ؟ أما الموت، فمجرد أن تكون فتاتك المسكينة مرتدية معطفاً أبيض، فإنّ ذلك يُحيل فوراً إلى كناية الكفن وبصرف النظر عن كونها نصرانية، سيضمّها لاحقاً تابوتٌ في مقبرة بإحدى ضواحي موسكو! في الدقائق التي سبقت دعوتي للرقص صاحبةَ الفستان الأصفر، كنتُ خالٍ من أيّ فكرة عن كينونتها وماهيّتها. لم أنتبه إذاك سوى لشاب ملوّن، كان يلاحق " تينا " من مكان إلى آخر طالباً منها الرقص أو داعياً إياها إلى كأس على البار. أما العلامات الفلكية، المتولّدة عن اقتران النجوم وانفصالها في مسارات محددة، فإنها كانت تسبحُ فوق رأسينا معلنةً ولادة الحب من رحم الليلة الربيعية. كنا نتبادل الابتسامات ليلتئذٍ، دون أن ندرك بأنّ ثمة أشباحاً تجول في القاعة: كلّ من هاته الأشباح كان بمثابة " القرين " لصديقتي الجديدة، طالما أنها تشاركهن في ماضٍ إشكاليّ، في ماضٍ مُلتبَس، خلّف في النفس عقدة الضياع وفقدان الأمان. وهذه هيَ الأشباح نفسها، ينادينني الآن، كي أدَع مدينةَ الصقيع والعزلة لأعود معهن إلى مدينة الشمس والإلفة. لا بدَ أن تكون هاته الأشباح مُدينات لي بشكلٍ ما، أو أن أكون أنا مديناً لهن. وإلا فأيّ حق يتمسّكن به لينتزعنني من حضن الحبيبة، من فرودسيَ المقيم، حتى أحلق معهن بعيداً، وصولاً إلى فردوسهن المزعوم؟ ثمة، عليّ كان أن أحلّق فوق أراضي الأمازيغ، المطوّقة المدينة الحمراء، وقد أشرع ساكنتها حناجرهم بالأناشيد الدينية، المخلّدة عبوديتهم لثقافة غريبة أستبدلوا بها ثقافتهم الأصيلة، المكدّرة سلطاتِ المخزن حقبةً وراء حقبة.. هناك، أين يسير في موكبٍ واحد، أصحابُ الثقافتين الأمازيغية والكردية، يتقدمهم العازفون وضاربو الطبول وقارعو الصنوج وحملة البيارق والبنادق، بغية التصدّي لثقافة الغزاة.. كل تلك الأصوات ( وأيضاً فحيح الشهوات، صرخات الشبق، أنين الإغتصابات، شدو العشاق، هدهدة الإباحة، أدعية المعذَّبين، شعائر المنافقين، ثرثرة المؤامرة )، كانت تحلّق في الفضاء الفاصل بين أرض الشارع الفرعيّ وملحق الدور الأخير من سكننا، الذي أستنفضته بالأمس شبراً شبراً بحثاً عن مكان مناسب لموت شاعر. كانت أنغام موسيقى الستيريو، الواردة من شقةٍ ما، تصطدم بأصوات مفرقعات الفتيَة، المحتفلين مبكراً بليلة الميلاد. من قاع الروح، كانت تتصاعد أصداءُ كرنفال الحلم، المحتفي بامرأتي وهيَ تقود موكب الملثمين بالأقنعة الحديدية؛ أولئك المنجذبين إلى كفلها الفاتن، الجدير بملكة من سلالة مدجّنة، يتمرّغ تحت قدميها دم العذارى من ضحايا السِفاح وزنا المحارم.. تقودهم امرأتي إلى مقبرةٍ مسوّرة بعرائش الياسمين والمجنونة واللبلاب، تقع بين باب دُكالة وغيليز، وهيَ مسلّحةٌ بشتلة مقدّسة سرقتها من سادن مقام سيدي بلعباس، كي تستخدمها في العثور على فلذة كبدها بين ركام الشواهد الحجرية، المسجّل على إحداها اسمٌ مجهولٌ سبق أن نسخه اللوحُ المحفوظ ـ كحكاية ومصير ومأساة وأسطورة. * ثمة رواية ثالثة، شقيقة، هيَ قيد التنقيح والتنضيد..
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الغين 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الغين 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الغين
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الظاء 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الظاء 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الظاء
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الضاد 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الضاد 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الضاد
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الذال 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الذال 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الذال
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الخاء 3
-
سيرَة أُخرى 47
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الخاء 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الخاء
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الثاء 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الثاء 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الثاء
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 التاء 3
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|