|
متى نتعلَّم -الحوار-؟!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 5441 - 2017 / 2 / 23 - 23:33
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
جواد البشيتي سقراط توهَّم، وأوهم الناس، أنَّ "الحقيقة" تكمن في "النفس"، تَقَع في داخل الإنسان، وليس في خارجه (في العالَم الخارجي) أو في الواقع الموضوعي، فما الذي حَمَلَه على أن يَنْظُر إلى الوهم هذا على أنه الحقيقة بعينها؟ الجواب هو "الحوار مع نتائجه". الحوار أو الجدل السقراطي كان يقوم على سائلٍ ذكيٍّ يسأل هو سقراط، وعلى مجيب من تلامذته، أو من العامة من الناس، فـ "السؤال السقراطي"، الذي يمكن أنْ يقود إلى إجابة تنطوي على شيء من الحقيقة، كان هو "الآلة" التي بها يَسْتَخْرج سقراط الحقيقة من بواطن النفس، أو يُظْهِرها. وفي نهاية الحوار، الذي يبدأ بـ "سؤال سقراطي" ذكي، ويستمر باشتقاق سقراط لأسئلة من إجابات المجيب، يَنْطق المجيب بـ "الحقيقة"، فيتولَّد لديه الشعور بأن "الحقيقة" كانت في داخله، فنجح سقراط في إخراجها، أو استخراجها، مقيما الدليل، من ثمَّ، على أن الجدل هو الطريق إلى الحقيقة. أنا لا أعتقد بذلك، وإنْ كنتُ أرى فيه ما يُظْهر ويؤكِّد أهمية الحوار المٌوصِل إلى الحقيقة، التي لا منبع لها، ولا مصب، سوى الواقع الموضوعي، وفي الواقع الموضوعي، ولو جرت، بعد نبعها وقبل مصبها، في عقل الإنسان، أي في تلك المرآة التي فيها نرى "الأصول الواقعية" في "صورها الذهنية"، أكانت سليمة أم مشوَّهة. وبعدما أبْرزتُ أهمية أن نؤسِّس للحوار المثمر بنية تحتية من الأسئلة السقراطية الذكية، أقول بضرورة وأهمية أن يتحلى مثقَّفونا بـ "الجهل السقراطي الرفيع"، فهذا العلاَّمة في زمانه ومكانه، والذي كان يعرف كل شيء تقريباً، ختم حياته المعرفية بقوله "كل ما أعرفه أني لا أعرف شيئا!"، فهذا "الجهل الرفيع" لا يبلغه إلا كل من عَمُقَت معارفه واتَّسعت فلم يبقَ في رأسه منها سوى أسئلة وتساؤلات يحار في إجاباتها ذوو الألباب، فوجه الشبه بين الطفل وآينشتاين هو أن كليهما لا يملك في رأسه من المعرفة سوى "السؤال".. فَنِعْم عقل يُثْقِله السؤال، ويُزلزل فيه الحقائق المطلقة، ويُمعِن هدما في أوثانه من الأفكار والنصوص، وبئس عقل يرفل في نعمة الأجوبة النهائية السرمدية التي لا شكَّ فيها، ولا سؤال في مقدوره أنْ يتحداها أنْ تُثْبِت قوتها وحيويتها، ولا زمان ولا مكان يستطيعان بتغيُّرهما أنْ يغيِّرا فيها شيئا، وكأنها في بروج مشيَّدة مع سدنة الحقائق المطلقة. الحوار، أو النقاش، هو أُمُّ الحقيقة؛ لكنَّ القول بهذا لا يعدل دائماً الحقيقة، فلا بد للحوار، أو النقاش، من أنْ يستوفي شروط جعله أُمَّا للحقيقة، أو طريقا إليها. في الفكر لا مكان لـ "التفاوض الفكري"، فما يجوز في عالَم السياسة لا يجوز في عالَم الفكر. في عالَم السياسة يمكنكَ وينبغي لك أن تفاوِض خصمكَ، فتتنازل له، ويتنازل لكَ، توصُّلاً إلى "اتِّفاق ما". كلاكما يطلب شيئا ويصرَّ عليه، وهو يعلم أنَّ خصمه الذي يفاوضه، بعد صراع بالحديد والنار، لن يقبله أبداً، أو يتعذَّر عليه قبوله. ثمَّ يتحوَّل هذا التشدُّد التفاوضي الذي لا بد منه إلى مرونة تفاوضية، فيشرع كلاكما يتنازل للآخر، توصُّلا إلى "اتفاق"، يقول كلاكما بعده "ليس في الإمكان أفضل مما كان". هذا الجائز في "السياسة" غير جائز، ومحظور، في "الفكر"، الذي بعضه لا يعيش، ولا يتطوَّر، إلا في الصراع، وبالصراع، وبعضه يحتاج دائماً إلى "الحوار" سبيلاً إلى تطوُّره وازدهاره. الفكر الذي يطلب مزيداً من الصراع هو الذي يضرب جذوره عميقاً في مصالح لا يمكن أنْ تتصالح أبداً. هنا نرى الخصم الفكري يصرُّ على أنَّ الشمس هي التي تدور حول الأرض، وعلى أنَّ الأرض ليست هي التي تدور حول الشمس. وهنا لا يصح في الإفهام شيء؛ لأنَّ خصمكَ الفكري يريد مزيداً من الأدلة على وجود النهار. هنا تُعرَّف "الحقيقة" على أنها كل فكر يوافِق مصلحتي، ولو ناقَض الواقع الموضوعي. هنا لن يكون هدفكَ إقناع خصمكَ بما أنتَ به مقتَنِع، فمصلحته قد تُزيِّن له السعي في إلغاء بديهية هندسية. هنا لا مكان للحوار؛ وإنَّما للصراع. هنا لا مكان لـ "التفاوض الفكري" المفضي إلى "اتِّفاق فكري". هنا يمكننا وينبغي لنا تمييز "الحوار الفكري" من "الصراع الفكري"، فكل حوار صراع؛ ولكن ليس كل صراع حوار. هنا لا يُفْهَم الصراع الفكري، ويجب ألا يُفْهَم، على أنه من "الحوار" الذي يمكن ويجب أن يكون أُمَّاً للحقيقة، أو طريقا إليها. "الحوار" هو في أصله، ومبتدأه، الخلاف أو الاختلاف الفكري مع "الآخر" الذي بيني وبينه من وحدة المصالح والأهداف ما ينبغي له أن يشجعني، ويشجعه، على تحويل مزيد من الخلاف الفكري إلى اتفاق فكري؛ ولكن ليس من خلال مخالفة الحقيقة الموضوعية، فحبِّي لأفلاطون يجب ألاَّ ينال من قوة حبِّي للحقيقة! في "الحوار"، الذي لا يعدل ضرورته لنا سوى افتقارنا إلى مقوِّماته وأساليبه وفنونه، ينبغي لنا أنْ ننأى به عن شيئين فاسدين: "المجاملة الفكرية"، و"حساسية الكرامة الشخصية". هناك من المثقفين، الذين ليس للفكر في عقولهم وقلوبهم من جذور، من يميل دائماً إلى أن يتخذ الحوار سبيلاً إلى إظهار مزيد، ومزيد، من روح المجاملة الفكرية،؛ وكأنَّه يمقت كل خلاف أو اختلاف في الفكر مع غيره. إنَّه يرغب دائماً في أن يحاوركَ ليؤكِّد لكَ أنْ لا خلاف بينكما في وجهات النظر، وكأنَّ النعامة هي مثله الأعلى في مواجهة كل خلاف فكري. هذا الصنف من المثقفين لا يضر ولا ينفع، وليس في رأسه من الفكر إلا ما يشبه في خواصه الماء الصالح للشرب، فلا تُضيِّع وقتكَ وجهدكَ في إسماعه والإصغاء إليه، فأنتَ لا تحدِّثه إلا ليقول لكَ "صدقت"، وهو لا يحدِّثكَ إلا لتقول له "صدقت"! وهناك من المثقفين من ينظر إلى كل تَعدٍّ على وجهة نظره على أنه تَعدٍّ على كرامته الشخصية، فليس من برزخ عنده بين رأيه وكرامته الشخصية، فإذا أنتَ تجرأتَ على التطاول على ما في رأسه الصغيرة الحامية من أفكار، اسْتُفِزَّت مشاعره، وجُرِحت كرامته الشخصية وتوجَّع لها، فخرج عن طوره، محوِّلا الحوار إلى سبٍّ وشتم؛ وقد يحوِّله إلى عراك واشتباك، وكأن "الحرب امتداد للحوار"! هذا الصنف من المثقفين لا يمكنكَ إلا أن تشفق عليه، فهو يتوهَّم أنَّ الأفكار التي في رأسه، والتي يعجز حتى عن فهمها، مُنْتَج ذاتي، لم يأخذها من غيره بالأذن والعين، جاهلاً أو متجاهلاً، ناسياً أو متناسياً، أنَّه ليس سوى مُسْتَهِلكٍ لفكر أنتجه غيره، ولا يجيد حتى استهلاكه. الحوار مع هذا الصنف من المثقفين يضر ولا ينفع، وينتهي سريعاً إلى وقوف حمار الشيخ في العقبة، فيَنْطُق العناد "عَنْزَة ولو طارت"! إنني مع كل حوار تجتمع فيه "برودة العقل" و"حرارة القلب"، و"حب الحقيقة"، والتزام الموضوعية في النظر والتفكير سبيلاً إلى الحقيقة، والحرص على إظهار وإبراز كل أوجه الخلاف والاختلاف الفكري قبل، ومن أجل، التوصُّل إلى مزيد من التوافق الفكري الذي تقرِّه الحقيقة الموضوعية. ولا شك في أنَّ الحوار المستوفي لشروطه يَلِدُ فكراً جديداً، يشبه "المركَّب الكيميائي"، الذي لا ينتمي إليَّ ولا إلى خصمي إلاَّ في عناصره، فالعناصر بعضها مني وبعضها منه؛ أمَّا المركَّب ذاته فليس مني وليس منه؛ وإنَّما من تفاعل تلك العناصر، وكأنَّ "الحقيقة" تشترط لظهورها، من طريق الحوار، أنْ يتخطَّى كلانا ذاته. والمحاوِر يحق له أن يعبِّر عن رأيه في الطريقة التي يشاء، فلا فرق بين الأسلوب وصاحبه. بعضنا يفضِّل "الفكرة الباردة" و"العبارة الساخنة"، وبعضنا يفضِّل "الفكرة الساخنة" و"العبارة الباردة". إنَّنا في مجتمع لم يبلغ من حرية التعبير ما يسمح لنا بالنطق بالحقيقة كما هي تنطق في رؤوسنا، فنضطر إلى نقف موقف فولتير إذ قال: "قد يرغمني الأقوياء على أنْ أحجم عن قول كل ما أنا مقتنع به؛ ولكن ليس من قوة في مقدورها إرغامي على قول ما أنا غير مقتنع به". وعملا بمبدأ فولتير، الذي يصعب كثيراً العمل به دائماً في مجتمعنا، لا بأس من القيام بما يشبه "التهريب الفكري"؛ فـ "الفكرة النارية" يمكن إدخالها في "العبارة المائية" على أنْ تقيم حاجزاً جيداً بين نار الفكرة ومائية العبارة.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الزمن يتوقَّف ولكن..
-
في فكرة -خَلْق المادة من العدم-
-
-الإرادة-.. رؤية فلسفية!
-
السفر الكوني ما بين آينشتاين وهوكينج!
-
هل -الثقب الأسود- ممر إلى -كَوْنٍ آخر-؟
-
أسباب وأوجه الأزمة في تعريف -الحقيقة-!
-
أجوبة مادية ودينية عن أسئلة وجودية!
-
صَدِّقْ أو لا تُصَدِّقْ!
-
فيزياء أفسدتها الميتافيزياء!
-
-التزامن- في -النسبية-
-
إبيكوروس الذي منه تعلَّمْت معنى -الحياة-!
-
السفر الكوني على متن -النسبية العامة- هو الأسرع!
-
نظرية داروين من وجهة نظر فلسفية!
-
هل من وجود ل -الحركة الطبيعية- في الكون؟
-
ضِدَّ -التأويل العلمي-.. هذا هو -التفسير الحقيقي- لآيات قرآن
...
-
الكون عديم الداخل.. عديم الخارج!
-
بُعْد المكان الرابع Hyperspace
-
هذا -اللغز- في قلب مجرَّتنا!
-
هل -الوعي- هو الذي اخترع -اللغة-؟
-
-العمال-.. فكراً وطبقةً في -عيد العمال-
المزيد.....
-
بوغدانوف يبحث مع وفد من حماس المستجدات في غزة ويؤكد أهمية ال
...
-
الجدل حول شراء غرينلاند لم ينته بعد.. ورئيسة وزراء الدنمارك
...
-
بيل غيتس وصورة -الملياردير المثالي-
-
ترامب يعلق رسومه الجمركية على المكسيك -شهرا-
-
الرياض.. برنامج أمل التطوعي لدعم سوريا
-
قطاع غزة.. منطقة منكوبة إنسانيا
-
الشرع لـ-تلفزيون سوريا-: النظام كانت لديه معلومات عن التحضير
...
-
مصراتة.. سفينة مساعدات ثانية إلى غزة
-
جنوب إفريقيا تعلن عن إجراءات محتملة ردا على قرار ترامب وقف ت
...
-
مصر تصدر خرائط جديدة لقناة السويس.. ما أهميتها وتفاصيلها؟
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|