مروان الغفوري
الحوار المتمدن-العدد: 1432 - 2006 / 1 / 16 - 07:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
.. بمقدورنا الآن أن نتنبّأ بتاريخ عربي حديث يتم تقسيمه إلى مرحلتين ( ما قبل خدّام ، و ما بعد خدّام ) . و في الإطار ذاته ستكون أغنية ( نانسي عجرم ) : اهدا حبيبي كده و ارجع زي زمان ، واحداً من أهم تنظيرات المرحلة المابعد خدّامية . و بمقدور المنجّمين السياسيين ( هناك علامات تدل على ذلك ) أن يقعّدوا النموذج الخدّامي لعرض النماذج المحتملة عليه : على وشك أن يكون خدّامياً ، احتمالية الخدّامية ، خدّامي تحت التمرين ، و خدّامي نقيض . واضحٌ ، أيضاً ، أنّ كل قطر عربي مليء ، فعلاً ، بطاقات خدّامية في طور الكمون نشأت بفعل المشاركة الأوليجاركية إما كفاعلات أساسية في الأداء السياسي الرسمي ، أو كمتعايشات و مشاركات ، ولن تتوقف الإشارة إلى هذه النماذج من قبل الصحافة و النخب السياسيّة حتى حين ، و هو ما يعني : تطور عهد جديد على مستوى الفعل السياسي ستسود فيه لغة التخوين و الشك ، لأنّ الخدامية قدّمت نفسها كمشاريع فجائية لا يمكن التنبؤ بها سلفاً ، و ستعود مصطلحات تالفة مثل : الانتهازية ، و العمالة ، لتمارس نشطاها الإعلامي من جديد . و ثم طريقٌ آخر لطورٍ مختلف بعيدٍ ، لكنه محتمل أيضاً ..
شكراً لخدام لأنه نشّط الذاكرة العربيّة ، فيما يخص علاقتها بالهتاف المنظم و الموسمي ، و لأنه على وشك أن يوحّد الشارع العربي حول خنّاقيه من جديد ؛ تماماً كما وحّد تسونامي العالمَ حول عشق الكوكب ، و كما فعلت محاكمة النازي ( صدام) حين أعادت صورته إلى الذهن و الشاشة العربية ؛ و من جديد : بالروح بالدم نفديك يا زعيم . و قبل خدّام لم يفلح العراقي " أحمد مطر" في زعزعة الذاكرة العربية المؤمنة بقيمة ( الناس على دين ملوكهم ) حتى و هو يخط على واحدةٍ من لافتاته : في الأساسْ، لم يكن في الأرض حكّامٌ ، فقط كان بهذي الأرض ناس . و " مطر " لا يعني ، بالتأكيد ، تأييده لرؤية إنجلز ، و من خلفه لينين، لمفهوم الدولة حين اعتبرها الاثنان : شكلاًً طارئاً من أشكال الترابط الاجتماعي ينشأ حين تصبح المتناقضات المستعصية أكثر ضراوةً من قدرة المجتمع على حلّها ،و تنشأ بفعل ذلك الحاجة لجهاز ( حُكم ) مؤقّت . فمطر يكتب ، بما قد يفهم منه أنه نصير النظرية اللينينيّة : الشعوبْ، عندما قد أشرعت للذنب أبواب القلوبْ ، ابتلاها الله بالحكّام فيها. و في الوقت ذاته يجأر بالدعاء : إلهي ، أنا مالي ؟ هل أنا خلّفت هذا الشعب حتى أبتلى وحدي بسوءات عيالي . و بعيداً عن الهبوط الرأسي لمحاكمة الذاكرة و الوجدان الشعبي و اتّهامهما بالوقوف الأحمق خلف " الرجل المريض " فإنّ واقعيتنا الثقافية (عملية إدراكنا و تقييمنا للأمور بشكل مباشر) المنحرفة نشأت في حقيقتها بسبب انحرافنا عن مبدإ الإدراك العلمي و الموضوعي ( منهج " الهدايات الأربع " ) الذي خطّه الإصلاحي العربي محمد عبده . في "الهدايات" نجده يفترض أربع دعامات أساسية (العقل – النقل – التجربة – الوجدان ) تعمل بشكل متكامل لتكوين الوعي الشخصي .
و لأننا أخصب بلدان العالم شعراً ( كما تحدّث عنا وول ديورانت في قصة الحضارة) فقد صادرنا الدعامات الثلاث الأولى لمصلحة الدعامة الأخيرة "الوجدان " و دندنّا حول العاطفة و الشروخ القلبية حتى بدا للعالم الخارجي أننا نمثّل متلازمة (syndrome ) غير قابلة للتفكيك . فالذين سبق أن لعنّاهم في السر لم نكتفِ بالهتاف لهم في الشوارع و تعليق صورهم في المكاتب و غرف النوم بل أكثر من ذلك تعاهدنا على ختم القرآن على قبورِهم و أن نهدي ( كما نصحنا الطحاوي رحمه الله ) ثواب ما قرأناه – ثواب ما درسناه إلى أرواحِهم . و رغم مرارة النكتة القائلة : مرض كلب العمدة فجاء الشعب كله لزيارته و الدعاء له ، فلما مات العمدة لما يأتِ لزيارته أحد .. إلا أن هذه النكتة لو صدقت لكانت دليلاً على بوادر وعي عالٍ يرفض العاطفة و يحاكم المتسببين في إدخاله إلى مجاهيل التاريخ . و للأسف ، فإنّ ظلالها لا يراوح كونه نكتة و حسب ، بل نكتة من نوع ( طرف الخيال العلمي) .
و بدا لنا – كما بد لكل من يقرأ هذه المتلازمة العربية - أنّ تحللنا من الدم الساخن للمجنون قيس و الشحّاذ الأعشى و حامل المباخر الأعظم " المتنبي " ليس بالأمر الهيّن ، و ربما احتاج إلى مشروع مرشالي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الذاكرة العربية و تصفيرها من جديد ، لإجراء عملية تحرير تامة ، و نسف الأصنام التي في رؤوسنا . لقد كان الشاعر المصري " بخيت " واضحاً بشكل قاسٍ و هو يشخّص هذه الظاهرة : مأساتنا عشق الطغاةِ كأننا ، لم ننسَ – بعدُ – عبادة الأصنامِ . و الأصنام قد تبدو شجرةً في ظاهر أمرها ، و قد تكون هوىً ، و قد تكون دهقاناً رقيقاً !
و بعيداً عن كون الخدّامية فرصة جديدة – على المستوى الرسمي- للم الشامي على المغربي و العمل وفقاً لقاعدة ( إن المصائب يجمعنَ المصابين ) ، فبالإمكان أن تقرَأ على أنها أعراض جديدة للبراءة من " الوجدان" كعائق إدراكي . صحيح قد يكون "خدّام" نفسه رجلاً لا تنطبق عليه المعايير الخدّامية المتّفق عليها في الفكر النانسي - عجرمي الخدامي ، لكن البحث العلمي يقر دائماً أن الشخصية ليست من أدلّة الموضوع ، و بالتالي فليس المهم الآن أن نلتفت إلى خدّام بوصفه شخصاً ( كأن يقال : هذا الشخص مبتز و انتهازي و صاحب تاريخ ملوّن بكل ألوان الطيف ) بل ينظر إليه بوصفه " حالة " . باختصار : الحالة الخدّامية نموذج عربي يمكن الإفادة منه في الوقوف ضد صفقات ( عمرو بن لحى الخزاعي ).
و إذا كان " الخزاعي " هو أول شخص جاء بالأصنام إلى جزيرة العرب ، و بحسن نيّة افترض في نفسه تقديم حل عادل لمسألة العدمية الإيمانية لدى مجاهيل الأمم من الأعراب ، فإنّ خدّام ( و لا أستبعد أن تكون أصوله راجعةً إلى خزاعة ) هو النقيض الجاهز للخزاعي، حتى إذا لم تتوفّر فيه سلامة النيّة التي توفّرت في نقيضه " ابن لحى " . بعض العارفين بالتاريخ يقولون : استعان الرسول في هجرته ( سعيه للتغيير ) بابن أريقط ( و كان ابن أريقط كافراً ) و نحنُ نقول : لا يهمنا دين ابن أريقط ، بل يهمنا وصفه الموضوعي ( و كان ابن أريقط هادياً خرّيتاً ) و الخرّيت هو العالم بأسرار الطريق و تشعّباتها. إذن ، مثل هذا الإدراك سيدعونا إلى أخذ هدايات محمد عبده في الاعتبار ، و على أساسها سيتم النظر إلى الخدّامية بوصفها حالة من ( الهداية الخرّيتة ) .
و لأن الخدامية ليست حالة بطشٍ عدواني ، بمعنى : ليست تطويراً لنظرية ديكتاتورية البروليتاريا ، فإنّ النانسي – عجرمية المفضية إليها سبق أن وضعت في اعتبارها قاعدة شرطية ، و وضعت المعادلة بوضوح ( يا ابني اسمعني ، حتدلعني تخد عيني كمان ) و هي الاشتراطات التي تراعيها الخدّامية تماماً ، بل تعتبرها شكلاً محليّاً من أشكال تطوير النظرية ( بالأخص : نظرية العقد الاجتماعي ). و هنا يبدو جليّاً رغبة الخدّامية في إجراء مصالحة واسعة تقوم على خلفية التزام الأطراف العليا في الدولة باحترام الضرورات و الحاجات الشعبية ( حتدلعني تخد عيني كمان ) .كما أن الدلع هنا لا يمكن أن ينصرف إلى الترف ، و إلا اتُّهِم التنظير النانسي- عجرمي بالعبثيّة و الطوباوية . و إذا كان كذلك فسيقع في ذات الأخطاء الماركسية التي خيّلت للناس جنة الله في الأرض ، و هو ما نربأ بهذا المشروع المتوحد مع الذات الجماهيرية أن يقع فيه . في الوقت ذاته : بمقدورنا أن نعتبره ضغاطاً رسوليّاً ينبع من خبرة معرفية ( لاحظوا أن محمد عبده جعل "الخبرة" الدعامة الثالثة من دعامات الوعي ) تؤكّد حتمية العمل ، و لو مؤقتاً ، بعقيدة ( خوفُهْ بالموت يرضى بالحمى ) . و مهما قلنا في الخدامية – النانسي عجرمية ، أو النانسي – عجرمية الخدامية فإنها لا تفتأ تكونُ تمثيلاً شعبويّاً للتجربة البشرية العامة و رصداً للحاجة الراهنة على كافة الأصعدة ( ثقافيّاً و سياسيّاً و عسكريّاً و أدبيّاً .. ) مما لا يمكن حصره في مجرد عملية استطلاع عاجلة . و أتصور أنّ هذا المشروع جديرٌ باعتناقه في ظل سيادة الموضة الجديدة العارمة: التغيير .
مروان الغفوري .
أديب و كاتب يمني
#مروان_الغفوري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟