|
عقيدة التسويغ -3-
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5438 - 2017 / 2 / 20 - 17:54
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
عقيدة التسويغ منعرجات فكرية -3- يتبع سيكون ما نراه واقعا من فعل الجدال، والمراء، والشجار، والخصام، هو النتيجة المكتملة لكل المباحث التي شغلت عقولنا في اللحظة الراهنة، والحصيلة التي انتهى إليها عطاءنا في سياق كوني، وإنساني، لأننا لا ننطق في فصيح أفعالنا، إلا بما يسيطر على ذواتنا من إدراك، وحدوس، وترصد، وانتظار، ولا نحرر جِرمنا إلا مما يشنقنا بأغلال خوفه، وهلعه، ووجعه، وحرجه، ويجذبنا بلا إرادة إلى مساحة تنزف بالبؤس، والشؤم، والخزي، والعار. وما دمنا نطيق فن الجدال في صخب الموارد، وشح المطالع، فإننا نكتسب صفة الحياة التي نهتف بسرورها، ونغني بغرورها، لأنها مرتبطة بفعلنا الذي نجابه به الفناء، ونواجه به ذلك العدو المرتقب نزاله في وادي المجهول الغائر العلامات، والتوصيفات. وأي جرم ارتكبه الإنسان حين تناطح الحظان على سطح أمله، وكل واحد منهما ينفر من أن يكون دمه هدية للمعبد المقرور على قنن الجبال.؟ قد يكون الجدال قمينا بأن يضع حدا لهذا الصراع الذي افتتن به الإنسان في تطرف الحضارة بمعنى الإنسانية، فيضحي بذا، لكونه لا تلتئم فيه عوامل الوجود على أتم وجوهها، ويوفر ذاك، لأنه يوقن بحدوث القضايا التي تفقده امتلاك شيء يهبه نسيم الحياة، فيداري الانكسار بما يسوغه من هزيمة. لكن الجدال في رسم بيان هذا المشترك الذي نتلاقى عليه، لم يخلق الأمل بغلوه في ذاته الفتية، ولم يسعف الحيارى بالضالة المنشودة، فسواء هذا الطرف الذي سيتحول بقدرة خارقة إلى فاقد لأعيان الأشياء المتخلية عن إغرائها، أو ذاك الذي يمتص روحها بلا ذوق جميل، ثم ينثر هياكل شهواتها على قبور المحرومين، والمطرودين. وإذا كان الجدال ضروريا لقيام الدائرة التي أرادت أن يستقيم لها الكون بوضوح، وابتغت أن تقتل لغات الجسد للغة الروح، فإن تفرده بصناعة الألم الذي يغازل الأحلام بفجور، وفسوق، هو الذي يجعلنا نتساءل، كيف سوغ الجدال ما يقوم به من تضليل للحقائق.؟ يجرني هذا إلى تذكر كثير من المواقف التي تناحر فيها الحظ على حصة الحياة المتتالية بالأعباء الثقيلة، وإلى ما تواتر في ذلك من حكايات تنصهر مع أذهاننا المفتونة بالإثارة أحيانا، وبالإغواء أحيانا، وتنفعل مع واقعنا الذي نداريه بما نعتقده وقاء يقينا عار المناكب المسعورة بحمى الحقيقة الواحدة، وكأنها تريد أن تصنعنا كما أرادت في طبيعتها، لا كما نحب في طبعنا، بل هذا ما تحاوله حين تهدم كل صلة تربط فيما بيننا وبين أمداء هذا الكون الفسيح بأفعالنا، وأخلاقنا، وأذواقنا، وتبني أساس تعايشنا على مجاراتها بضرورة النفاق، والخداع، والمداراة، وربما إن لم يكن اللطف ساريا فينا بكثافة حدبه، وعطفه، أزالت عنا كل هوياتنا التي نكتسب بها صفة الوجود الحر، والحقيقي، لكي نتركب في جنس آخر، ونندمج في طبع معين، لا يقدس إلا الفوضى في المقاصد، والعبث في الموارد، ولا يؤمن إلا بالإنسان الافتراضي الذي تعبر عنه الصورة المقنعة، والكلمة المعتمة، ولا يقدر إلا البصمة المنقوشة على صفحة الذات المكلومة، ولا يصدق إلا بما احتواه الظرف من لاعج يتضرم في الأحشاء الممزقة، وهو يريد أن يفصح عن شيء يحرم التعبير عنه إلا بالألفاظ المورية، وينقل إلى غيره نوع تجربته التي تمتعه بالمعاني السارية في جسده الموشوم بالأمارات المقطوعة. لكن، هل يمكن أن نعتبر ما يقوم به الإنسان في جل أحوال صراعه تنافسا على ساعة البقاء.؟ أجل، إن الشعور بها حين تتقلص بين الأعين الساهمة، وتنكمش وقدتها في الأبدان الشاحبة، ولا يشهد عليها مقام كان في زمن مريحا، ولا يشفع معها مرام كان في عهد مليحا، لا تكون إلا لحظة متلاشية بين ذكريات متناثرة، وحكايات متباينة. وربما من شدة الاختيار لثنائية الخير والشر المتمردة في أعماقنا، والمتجبر حكمها علينا في صناعة المسافة بين الفكرة، وعينها، لا نخالها إلا محبوبة لمن تعددت الأشكال بين عينيه الزائغتين، وتنوعت سبل الضياع بين حدي بعديه المادي، والمعنوي، فلم ير إلا إغماض العين سبيلا إلى الحرية، وإزهاق الروح فداء من العبودية، أو مكروهة لمن لثم عنق الزجاجة، وحسب ما يجرعه من سكرتها تضحية، وخلاصا. لكنها ولو تعددت الألسن في تحبير الألفاظ الدالة على حقيقتها بلا مجاز، ولا تورية، لا تبرح عين من كان قدره أن يغدو رفيعا، أو من دفعته الأسباب إلى أن يصير وضيعا، لأنها أجلى الحقائق التي يؤكدها الملموس قبل المعقول، أو المنقول، إذ هي المدينة التي نبنيها لمن كسر الدهر منه العظام الهشيشة، فلم يجد إلا هابط التراب مثوى، ومأوى. وهذه وإن لم تشهد ما يروج حيالها من عراك الأسواق، وصراع الشوارع، ونزاع المعارف، فإنها خاتمة تنتهي إليها الأجزاء المنفصلة عن المدينة المغالية بعنفوانها، ونشاطها، وأريحيتها. ومن هنا تصير حقيقة لا يتودد إليها الشك، أو الإنكار، لأنها صيرورة الثبات، والتغير. وما هو ثابت فيها، هو الناموس الذي يدبر الأمر بالمشيئة، وما هو متغير فيها، هو الإنسان الذي يجول على بساطها زمنا قصيرا، ثم يحول، ويدول، إذ نظامه التغير، ومنه يكتسب ديمومته، واستمراره . وذلك ما يحير سبيلنا الذي نتعادى فيه بالطمع، ونتصافح فيه بالزهد، ويربك سير كثير من قصودنا التي نألفها إن استكانت، وننكرها إن نفرت، لأننا ندرك صدق هذه النهاية التي تفتقر إليها مكونات أجسادنا، لكي تنسلخ عما يقلقها من ألم، وأحزان. فهي حين تفقد قوتها التي تستند إليها في بناء مصيرها المرغوب عندها، تصير عالة على غيرها، وتنهار قواها لجرح الفقد، والحرمان.وإذ ذاك لا تحتاج إلى تقرير مصيرها بين غموض رأي المشاة على حدث الفناء، فتحس بأنها ما زالت ممتزجة ببصيص أمل فيما يثري، أو يغري، بل ينتهي عشقها للحظة بما ينقض عليها كالنسر الجارح، لكي يختصر الطريق بما يزرعه في الجسد من سم زعاف، وكأنها ما كونتها الأرض إلا لتبتلعها، وما غذتها إلا لتدفنها، وأعظم شيء فيها، هو ما تبتليها به، فلا تجد فيه روْحا، ولا هي قادرة على أن تعتصر منه رُوحا يمشي بها عند حدائق الأمنيات. وهنا يرد على ذهني سؤال أوجه به نوبة انتظاري لهذه الوقفة الخاشعة، وكثيرا ما تكون لحظة خانعة، لأننا لا نملك في مواجهتها ذلك الخيار الذي يبهرنا بالبسمة عند رؤية محسوس المصير المشترك، ولو ملكه أحد منا بالملك الوافر، لما انتهى صوته بين الديار التي نعته بالبكاء، وذكرته بالنسيان، فأقول: كيف يكون الإنسان واثقا من هذه الحقيقة التي تفجعه انتظارا، ومقابلة، وهو لا يبالي أين وقعت يده، ولا يدري على أي سبيل مشت رجله.؟ ربما يكاد النظر يقع إجماعا على ارتباط المعرفة الباطنية بالسلوك الظاهري، لأن رشح العمق على السطح الخارجي لبيت الذات المسكونة بوجع السنين، هو الذي يؤكد حكمنا على الأفعال بالصلاح، أو الفساد، ويسمح لنا بأن ننعت النيات بوصف الخبث، والوداعة، إذ لا يرد الفعل من الدائرة البشرية جهلا إلا باختلاف المراتب، لأن ما نعتبره خروجا عن كلية العلم التي تميز بين مداري الجمال، والقبح، هو حكم منظور إليه بنظر محدد، وهو ذلك الذي قعد القواعد، وأصلها، ثم اكتفى بها، وجعلها معيارا للقياس في الأقوال، والأفعال، وظن أن ما انتهى إليه من جهد فكري، هو النهاية في تحصيل المعلوم غير المتناهي. وإذا تعددت سبل الأنظار التي تمتزج في الرؤية، وتختلف في صورة المُدرَك، كان ما يفعله الإنسان محدودا بعلمه، وموصوفا بقدرته، وهو ما ضعف في التجربة، ولان في الخبرة، ونكص عن طي المسافة بين الذات وحقيقتها الوصفية، أو بين الفعل وأسبابه، وشروطه، وغاياته، لأن ما يحدث من سائر العقلاء على اختلاف أدوار الحياة الذي ننشد فيها حقيقة معينة، هو المسؤولية التي تناط إلى التكليف بحدود المعرفة، وإلا، عددنا كل عاقل ناقص الأهلية بعدم دركه للمنطق المحدد، والمختلف، إلا إذا وطد معلومه بالمعرفة الإصطلاحية، وصار محكوما عليه بأنه الأكمل، والمناسب. وحينئذ سيتسم بفعل العقل الأكبر، وهو الحاكم على الأشياء بالقبول، أو الرفض، لأنه سلك مسلكا واحدا في اكتسابها، وحسب ما عداها زيغا، وضلالا. وذلك مما لحنت فيه صولة العلم حين جعلت العقل أداة، وقالت بالجهل في أماكن لا يكون عدم معرفة جزئياتها سبة، وشنارا، لأنه رأى الرأي غير مستقيم إلا حين يتجاوز سقف العقل المحدود أثر رأيه، وينبطح لما يحكمه من ضرورات تعدله، وتصوبه. وهو ما حصل عليه الاصطلاح، وسمي علما مطلوبا لذاته. ومن هنا، يكون ظاهر الذات، هو الحقيقة التي يعيشها الإنسان في مستواه الفكري، لأن ما ينزف على الخارج، ليس إلا تجليا لما اختزن في الذات، واستحال مع تعدد المواقف محددا للصيرورة، إذ لو استقام هذا الذاتي والعرضي في عقل الكيان المملوك للأهواء التي توارثتاها رغبا، أو رهبا، لكان العزوف واردا في كثير من الأعراض التي تبددنا بين قاتل يفتك بغريمه، أو باك يذرف الدموع على ظلمه في طريقه، بل الإطلاع على موارد الاتفاق، والاختلاف، هو المهيع الأصلح لتبليغ رسالة السلم، والسلام، والمسلك الذي يزرع فينا قيم الاستقامة، والاعتدال. لكن أصررنا على أن نرفع سقف بيوتنا بجماجم البشر المخذولين، وأحببنا أن نعيش متصارعين كما هو مكنون الاختيار فينا سلفا، ورغبنا في أن نفارق الحياة التي تنغص فيها المرام، وتلبد معها المقام، ولم نسعد فيها بشيء بحت أصواتنا من أجله، ولم نجده إلا حين فارقناه، وودعنا أكنانه التي أغرتنا بوجوده المجهول، لأننا غدونا نتنافس بقتل الذات في نوال الأعراض التي تقيم أودنا، وتنهي وجعنا، وتحررنا من أضرار يتفاقم بؤسها، ويتهدل بدنها، وكأننا نسينا تلك الموعظة الأولى التي كانت صلتنا بروح الأشياء المحفزة لإدراكنا، وسلوكنا، أو ضيعنا سر تلك الكلمة التي خلدتها التواريخ بين النصوص المقدسة في الزمان، والمكان، وهي توحي إلينا بصدق نية البشر في صياغة معنى الفضيلة، وإخلاص جهد الأفعال في صناعة حياة متنائية عن الألم، والحزن. وحقا، كان لزاما على الذين ينتصرون لطهارة السماء أن لا يسوغوا جرائمهم في الأرض باسم الإله، لأنهم صوروه بمظاهر لا تتناسب مع عظمة رحمته، وشفقته، ولا تتوافق مع معناه في حياة الإنسان الذي اقتضى أمر وجوده أن يهبط إلى عالم قابل للفساد، والتغير. فلا غرابة إذا تآكل مفهوم التصديق في الإيمان، وارتحل فئام عراض بين الثقافات، والأديان، والحضارات، وانسلخ قوم من عهد التاريخ الذي أقمنا به عماد علاقتنا بالأرض، والسماء، فلم يصر لصوت الإله في صراع الوجود أي معنى. إذ الدين ما وجد أساس أصله إلا لصيانة الإنسان، وحمايته، ووقايته، وإذا غدا سيفا بتارا يقطع الأوداج بمقتضى الولاية على أمر السماء، وواصله المال الموصول المنن برضوخ العبودية، استحال كلمة غليظة، وأقوالا شديدة، لا تدرك في سياقاتها المرسومة مفاهيم العطف، والحنان. وما أحوج إنسان اليوم إلى جيوش من العواطف السليمة، وبحار من المشاعر الجميلة، لعله يحس بأن في هذا الكون مهدا له، أو كنا يطيق جرم ذاته، ويحمل معه همومه في تدبير المحال، وتصريف الممكن. وحين فقد هذا العطاء النبيل في الاستثمار الإنساني، لا نستهجن من شاب تهاوى بين الدروب، وتوارى بين الأمداء، فلم يجد بين عينيه إلا متاريس تشل حركته، وتعطل سيره، أو تناهى به السؤال الحرج إلى الإنكار لكل حقيقة تبدو دثارا لمن رفعها للاستهلاك، وتدانى به الألم إلى سم خياط، يداري فيه موته بخوف، ونكد، لأنه تشرب في تربيته أن ما سيمتلك عقلَه من عقائد، هي مصدر الحب، والخير، والجمال، ثم رأى وجوها عابسة تحكي عن العشق وهي مشنوءة، وآفاقا حالكة يُوعَد بأنها مفتوحة وهي مغلقة، لا تذكر بذلك المطلق إلا إذا صورته بلغة قلبها المتوحش، وعقلها المتغول. فهل يعيب الشاب أن يتساءل، وهو يحاكم الأقوال بمنطقها، ويعارض الحقائق بوضعها، وحين لم يستقم الميزان في خزان مفاهيمه، ولم يدل الحديث فيه على القديم، وتنافى فيه الجوهر، والعرض، قال بالرفض، والنبذ، ثم امتطى صهوة التبديد، والتمزيق، وكأنه ما رأى ذاته النحيفة إلا أسيرة لثقافة الأبوين، ورهينة لنظم المجتمع، فهو يريد أن يحس بشيء من السعادة في كون ضج بالخراب، وعالم يغرد بالفوضى، لكنه سمع صوتا متهالكا، ونفسا متآكلا، لا يجيبه على شكه، لكي يعود إلى منبت يقينه، ولا يرغب في أن يضع حبله على غاربه، لكي يقود سفينته بزمام يتحكم في أصله، وفرعه، فإن وجد شيئا مما شمر له الساعد، وذلل من أجله الصعاب، فقد ربح بجهده الذي استكان لغايته، وظفر بمنيته بين غابات الأحلام، وإن لم يظفر بشيء مما هو منتحب في عمقه، ومنتحر في واقعه، فحسبه أنه تنقل بين الديار من غير أن يشم عطر ساكينها، ووصل إلى السراب الذي خاله شربا سلسبيلا، فإذا هو زقوم يقطع أوصاله، ويهدم روحه. وإذا كان هذا حال متغرب بين دور خالها يقينا مترعا بالتصديق، فإذا هي غامرة بالحيرة، والوحشة، فهو حال من التوى على عطفه، وانزوى إلى زاوية مظلمة في عقله، ثم كفر مجتمعه، وسدد رميته نحو نحره، وبدد كل صلة تربطه به، وهو لا يرتجي إلا أن يرى خليفته يركب فيلا أسيويا، يهدم به ما تفتق عن العدد من حروف العلوم، والصناعات. تلك هي الفوضى التي أدى إليها هذا الخطاب المتشنج، والمسار الذي أنجزه بغلوه، وتطرفه، وهو يسيء إلى الإنسان أكثر مما يحسن إليه، ويضمر حقدا دفينا للمدنية، والحضارة، وكأنه أنس لطف الحياة في تخلف الديار، وانحياشها إلى ما يشفي به غيرها الغلة، والوجفة، لأن هذا الخطاب المُشرَّب بحب الاستئثار، والاستيلاء، ولو أمر الإنسان بالقناعة، وصورها على أنها منتهى الزهادة، ونهاه عن الطمع، واعتبره مورد الهلع، فهو لا يداري إلا شيئا يعيش في منكوب ذاته، ويسبح في لجة اغتراره، واجتراره، وقد عبر عنه بكسب ما زهَّد فيه غيره، ونيل سعادته بما بدده من أحزان خطواته، لأنه أيقن بأن لغة العالم صامتة إلا إذا أنطقها المال، وحركة الحياة لا تقوى إلا بارتقاء درج الوجاهة، والتوجيه. أجل، إن العلم كان رياشا حين سيقت الحضارة بما قيض لها من معارف، وعلوم، والمال كان كمالا حين انتهى وجوده إلى بناء الإنسان، وخدمته، ودرأ كل ما يقطع سبب الهناءة في حياته، ولكن حين غدا المترف يتحول من حديقة إلى بستان، ومنها إلى نهر متدفق بالخرير، ثم إلى لحن دوي على ضفاف واد رقراق، تزقزق عليه العصافير الناغمة،ثم إلى راقصة سمراء تترنح على يخت مرمري، تميس عليه أشعة النجوم البراقة، فإن لغة العلم المغني بأمجاده، والمدوي بأصدائه، لن تكون حجابا عن سبك هذه المتعة واللذة في عقد الحياة الناعمة، لأنها في بروز وجهها فاتنة، وخادعة، وأي شيء لا يطيق أن ينفي غيره بذاته، فالاحتياج فيه أولى بالاعتبار، لأن ما يتقوم بذاته، لا يكون تابعا لغيره إلا في باب الصلات. ومن هنا، كان هذا المتهافت على رميم المعاني معول هدم، ومدس خراب، وهو لا يستطيع إلا صوغ كلام يخاله حصنا حصينا، ويراه ثغرا منيعا، ولكنه في كساد حظه، وبوار داره، لم يحرز وميض هذا الفاتن لعقله، والمرتحل بين تواريخ الأمم، والشعوب، بل لا يراه في شح اليد إلا غصة في حلقه، ولا يلمسه من كمد الوجع إلا حجابا لسيره. ولذا، سرعان ما يحاول أن يتخلص منه برفض كل بريق لا يعانق وجعه في عقله، ما دام لم يجد طريقا معبدا لبلوغه، والتطلف معه. وهذا شبيه بذلك الذي رفض القديم المحصول له بتقليد ما نشأ عليه، لأنه رأى مصطلح العلم الموسوم بأكمل الأوصاف اللائقة، لم يدفع ثمن وجوب الاهتداء به، وهو ما يقدمه من هدية لحماية الإنسان من الابتذال، والرقاعة. شيء من المنطق في هذا الكلام الذي يحكم على الأشياء بغاياتها، ويقيس الأشباه على النظائر، ويبحث عن تسويغ البرهان العقلي القائم عنده على تنافي المقدمات للنتائج، ولكن، هل يكفي الرفض، ثم الرجوع إلى بدائية الاختيار في الميولات، والرغبات.؟ لعل اشتعال نيران الذات بشهواتها، ولذاتها، لا تطفئها جبال مركبة من ثلوج الأفكار، لأن ما تحتمي جمرته بالملموس، لا تحدث فيه منغصات الحيرة برودة الأوصال، إذ ما تتقوم به الذات في التكليف الكوني، والشرعي، هو مصارعة النقائض التي تهدم رفيع القيم، لكي يصير الكون غابة للقوي على نيل معشوقه، ومحبوبه. ومن هنا يحدث هذا الصراع المستوعب لكل الأفكار المتسمة بالخصائص النفسية المقوضة بنواميس التنظيمات الاجتماعية، وهو مجموع كل الاحتمالات والافتراضات التي يدبر الإنسان شأن التفريق بينها، لئلا ينتهي به خيط الحياة إلى خلل، خطل. وذلك كما يحدث عند الرافض الذي أوغل في كره ذاته المجتمعية، فإنه يقع من كل المنتسبين إلى أمهم الأرض، وهم يرونها أحيانا طيعة، وأحيانا عصية، فيحسون بالشقاء بين الديار التي أفقرها الأمل الخاسر، وأضناها الحظ العاثر، ويشعرون بموت تتباطأ به سلسلة الأنفاس بين فضاء الحياة الرحيب. ولذا، يغدو هذا وقوع الصراع ضروريا في لحن الطبيعة، وسبك الحقيقة، وتأثرُ الناس به فرضا لازما لتمام الحال برسم المقام الراحل بين الأزمنة، والأمكنة، لأنه هو الذي يحدد سير الرافض لما تهمس به الحياة في أذن الولهان، ووجهة ذلك العاشق الذي قبل الفداء بمهجته، لكي ينال من خمرتها سكرة تفتت غوله، وعشطه. وإذا كان هذا حقا طبعيا تمنحه إيانا حقيقة وجودنا على هذا البساط المزركش، فإن غدونا ورواحنا على سجادته، ستنطبع فيه كل ألوان حقيقتنا، ونقوش عقيدتنا، وسواء قبلنا باحتمال وقوع الخطأ في عقل من رفض الحياة هروبا منها، أو في جهد من غمس ذاته فيها، لكي يكسب سويعة يعيشها بلا حرج، ولا قيد، أو رفضنا حدوث ذلك فيما نهديه حشاشة أرواحنا، أو أنكرنا وصفه بما شاب زمنُنا من أجل نفيه، ورده، فإن جهة القصد عندنا في تمام المشية، هو ما نراه بريئا في صورتنا الطفولية، إذ هي ما نجري إلى بلوغ طيفه، ولونه، ولولاها، لقبل كل واحد ما هو جاثم عليه من عز، أو هوان، ولرفض كل هاجس يقلقه بالشكوك، والندامة. وإذ ذاك تصير عقيدة التفويض الجبري سلما لتسويغ الهزيمة، وتليين النكسة. وهكذا، فإن الأفعال ما هي إلا أفكار توقع حركة مشيها على الأرض، وأحلام وأوهام وحقائق تتصارع على الخلد، وإذا ساعفتها سمة النفس المليحة، وحضن التربية المجيدة، كان أثرها مساويا لما تطلبه كل الأفكار القويمة، وإذا تشظت الذات بنيرانها، أو عصفت بها رياحها، وكان دفء المكان سخونة في النفس، وحزونة في العقل، غدا ما تقوم به دليلا على اختلال الميزان في كسب النسب، والعلل. ولذا كان الكاره، أو المحب، لا يضع روح فكره في شيء، إلا وهو مجبر على مواطأته، ومغازلته، إذ هو مطلوبه الذي لا يفجر في غوره إلا ما انطوى عليه عمقه، وكان برهانا عنده، لا يقبل المتابعة له بالنقض، أو الرفض، لأن الرفض قبول للفكرة ببعدها الثاني، إذ لا يتوافر له مهد لولادته، إلا إذا شهد له ضده بصحة نسبه. ومن هنا، فإن منطق الرفض، هو منطق القبول، إلا أن في كل واحد منهما صفة، وهي المرغوبة لمن دبر الحيل، وسوغ الخداع، أو لمن أسكت ضجيجه، وأرغم خواطره على الصمت، والنسيان. لو كان الإنكار مثمرا لشيء يقضي بحكمه على عقولنا، وينهي حقيقة اغتيالنا بالعمر القصير، لأوجبنا على أنفسنا أن نحترم من قفز إلى الأمام في معلوم الأحداث، ثم استبرأ لنا خبر المجهول، وجاءنا بما يداوي أمراضنا، ويغسل أدراننا. لكن ذلك لم يحدث في مقصور الزمان، ومحصور المكان، بل استحال الرفض إلى عتاب لذيذ، وأحيانا إلى خطاب شديد، لأنه غدا مع فجاءة الأحداث مرمى نظر من أراده أن يكون سبيلا لمنتهى الجموع. لكن أليس في هذا ما هو كائن في غيره من دعوى الكمال.؟ إن صياغة السؤال عند البحث عن شعيرة التعقل بين الموارد، هو الربح الذي نغنمه حين ندرك قيمة رهاننا في كسب الحقيقة، فهل وجدنا لها بين خصوبة الأفكار بالآمال، والآلام، فنكون فرادى في تقرير المصير، ووحدانا في اقتضاب الطريق إلى الساعة الخالدة.؟ أم وجدنا لغيرها بالذات، فنتحول إلى آلات بكماء، وهياكل عجماء، يملأ فراغ قوالبها ما صدح به المجتمع من مشاححة مصالحه، ومنافعه.؟ لم يكن هذا مرادا لي حين فكرت في كيفية تسويغ الازدواجية، بل الذي أحفد إليه عند إطلاق المعنى المهموس في عمقي، هو إلصاق تهمة وافرة بتلك العقول التي عبدت الطريق، ولكنها لم تضع عليه الصوى، والعلامات، لكي يخطو السالك بخطواته بين المنعرجات بأمن، وأمان، بل من شدة الذهول أن الهتاف الذي رفع عند بدايات الطرق التي تمتص الأنفاس، قد تحول إلى صدى يفجع السائر إلى نهايته، فلم يدر في جلبة الأحراش الغضة بلغط المتساومين، هل هي صوت المتشاجرين حول البداية.؟ أم هو صدى المنتحرين في النهاية.؟ لعل جهر كثير من الأبواق في أوطاننا الإسلامية بالحقيقة الكاملة، هو السبب في قطع العلاقة بين الإنسان، ومعاني الأشياء، لأن ماهية معنى الكلام الذي يفصح عن المقصود، ليست في كثرته التي تذبل ملامحه بالعياء، بل في شدة الحرص على نفاذه إلى الحقيقة، وحدة نظره في بلوغ النهاية. وهنا يكون العويل الذي يضح به الركب السائرون نحو حمى الأمان، هو الألم الذي يدنينا إلى تابوت الانكسار، والهزيمة، لأن فن الكلام الذي يقدس الرمز في درجة من درجات عمقه، لا يتقنه إلا من يفجر من صوته رغبة الاستماع إلى نصه، وفصه. وإلا، فما فائدة كثير مما يحبر، أو مما يقال.؟ لو انتهينا إلى إحقاق هذه التهمة، واستيفائها بالعين المرادة، فإننا سنعرف كيف يسوغ الجهادي أسباب الوأد للإنسان الحر الأفعال، والأقوال، ما دام ضرره لاحقا به، ولا يتأتى منه انحراف في الطريق المشترك، وكيف يحسِّن عقل الآخر أمر الخروج من دائرة الأديان، لكي يرمق الحقيقة فيما يبرق من حراب الصناعة، ويرعد من أعلام الحضارة.
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عقيدة التسويغ -2-
-
عقيدة التسويغ -1-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -8-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -7-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -6-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -5-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -4-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -3-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -2-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -1-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -5- الأخير
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -4-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -3-
-
تنبيهات وتعليقات -2-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -2-
-
تنبيهات وتعليقات -1-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -1-
-
مبهمات الذاكرة
-
العلم حين يصير صناعة (الأخير)
-
العلم حين يصير صناعة -الأخير-
المزيد.....
-
سقطت بعد ثوانِ من إقلاعها.. شاهد الفوضى بعد تحطم طائرة في في
...
-
تحليل بيانات يكشف ما فعله قائد طائرة الركاب -قبل ثانية- من ا
...
-
مدى الالتزام بتوجيه ولي العهد السعودي في المدارس بلبس الزي ا
...
-
السعودية.. فيديو احراق سيارة متوقفة بالطريق والداخلية ترد
-
-ديب سيك-: أسرار وراء روبوت الدردشة الصيني الجديد، فما هي؟
-
شرطة لوس أنجلوس تنقذ مسنة عمرها 100 عام من حريق في دار المسن
...
-
في دولة عربية.. أول عملية عسكرية للجيش الأمريكي ضد -داعش- في
...
-
صخب ترامب مؤشر على الحالة الأميركية
-
زوجة الضيف للجزيرة نت: لم يتنكر كما كان يشيع الاحتلال ولم يغ
...
-
قبل موتهم جميعا.. كشف آخر ما فعله مسافران قبل اصطدام طائرة ا
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|