الهوية قصة قصيرة

سوسن السباعي الجابي

الحوار المتمدن-العدد: 1430 - 2006 / 1 / 14 - 08:33
المحور: الادب والفن
    

ليس لنجيب إلا أن يذهب إلى قسم الشرطة، إنه منذ أسبوع عاجز عن الحركة خارج المنزل. ففي أي مكان يتجه إليه تطلب هويته. وهويته ببساطة وهكذا انتشلت مع محفظته في باص النقل الداخلي عندما كان يمارس هوايته بالركوب في الباصات جيئة وذهاباً دون غاية سوى متعة الركوب والنظر من خلال النافذة إلى الشارع.
اتجه فورا إلى قسم الشرطة, أخبر جماعة القسم فطلبوا منه التريث عدة أيام حتى يفقد الأمل في إيجادها... طبعا بعد أن قبضوا المعلوم... وتريث نجيب وانتظر أسابيع شاقة، لم يتمتع خلالها بركوب الباصات جيداً. ففي إحدى صعوداته إلى أحد الباصات انقضّ عليه من بين الركاب وحش أحمر العينين واتهمه بأنه مجرم خطير وأنه يتصنّع البله.؟ تملّص من بين فكيه وحاول لإقناعه بأنه ليس أبلهاً وأنه ليس مجرما أيضاً, إنه فقط أضاع الهوية... وبكى... بكى نجيب كثيراً. فصدقه أحمر العينين وركله خارجاً، وهرع إلى بيته يختبىء تحت اللحاف ويرتجف هلعا وبرداً...
حين حصل أخيرا على هوية جديدة التقطها من الموظف وضمها بكلتا يديه وأسرع خارجاً من الدائرة الرسمية كمن فاز لتوّه بجائزة اليانصيب الكبرى. مشى في شوارع المدينة ولسخرية القدر لم يوقفه أحد... لم يستجوبه أحد طالبا إبراز هويته. وقال في نفسه: ربما لأنها تظهر من جيب قميصي المفتوق.
حين وصل إلى غرفته الطينية المثقوبة السقف الفارغة تماماً إلا من حصيرة قش وفرشة صوف ورثها عن والديه... نام قرير العين. ولم يعان من كابوس تقلع فيه الأظافر... استيقظ مرتاحاً وأخرج هويته وقعد يتفرج عليها ويتلمسها بحنان بالغ... وقرر أن يجلّها...
حين قرع الباب اعتقد أنه بائع الخبز العجوز كالعادة. لكنه فوجىء بشخص غريب يسلمه هويته الضائعة... وأحس برعشة... نعم هذه هويتي. اسمي واسم أمي وأبي وخانتي وعلاماتي الفارقة... أجل إنها هويتي. نعم أني مواطن صالح أسير بجانب الحيط وأطلب السترة...ولي أوراق نفوس وأوراق أخرى تشهد ألا حكم عليّ.. ليتهم يصدقون...
وتلمّس آثاراً في جسده. ألقى نظرة أخرى على الهوية وطار في الهواء يرقص ويغني: ((صار لي هويتان... صار لي هويتان)) ثم هدأ فجأة وخبت ومضة عينيه شيئا فشيئاً... سأضع واحدة للاحتياط تحت الفراش وأخرى سأحملها معي... عادت الومضة من جديد... (ولكن ماذا لو سرقت التي في جيبي في الباص مرة ثانيةً ثم عدت إلى غرفتي فوجدت صبيان الحارة الأشقياء قد قفزوا من فوق الباب الخشبي وسرقوا هويتي الثانية؟) وخاف... وزادت مخاوفه حين تراءت له وجوه سمراء محمرة العيون تقفز من أعلى الجدران... وصرخ (سأصنع هوية ثالثة أخفيها في مكان آخر... في ثقوب جدران الغرفة مثلا... في حذاء مهمل... في ربطة خبز عفنة... في... في... مؤخّـ...)
وكان أن حصل على هوية ثالثة... هوية صحية. هوية عمالية. هوية انتخابات. هوية حزبية. هوية رابعة وخامسة... وصار نجيب من هواة جمع الهويات بالإضافة إلى ركوب الباصات وهواية جمع أغطية زجاجات الكولا...
وفي إحدى المساءات وبينما كان نجيب يستمتع بالنظر إلى هوياته الكثيرة داهمته عاصفة هوجاء ملأى بالغبار والهراوات الغليظة، اقتلعت غرفته الطينية وطيّرت فرشته الوحيدة...
دار نجيب حول نفسه مثل رحى الطاحون المهترىء وراح يلملم هوياته... لكن الريح العاتية عصفت بكل شيء ونفخت عليه فتدحرج مثل دولاب بالٍ...
كان مندهشا ومرتعدا ويسير في كل اتجاه... ركض فركض خلفه صبية أشقياء يرشقونه بالحصى... أسرع أكثر... وراح يلوذ بزوايا معتمة، يختبىء خشية من أيدٍ تخرج من أماكن خفية...
كان خائفاً من الصغار ومن وحشٍ يرى طيفه أينما حرك عينيه... خائفا من فكّ يلتهم نجيب الذي أضاع الهوية...

#سوسن_السباعي_الجابي (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات