|
رؤية فلسفية: عصر ما بعد الرأسمالية - ما بعد الحداثة
نبيل عودة
كاتب وباحث
(Nabeel Oudeh)
الحوار المتمدن-العدد: 5413 - 2017 / 1 / 26 - 22:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
رؤية فلسفية: عصر ما بعد الرأسمالية - ما بعد الحداثة
نبيل عودة *عصر الرأسمالية يقترب من نهايته ويجري تغيير جذري بترکيبة النظام الرأسمالي * نحن اليوم في مراحل "ما بعد الرأسمالية"، "ما بعد الاستعمار"،"ما بعد الحداثة" وأيضا "ما بعد الأديان" *لم يعد اسلوب الانتاج هو المعيار، بل التطوير العادل للتوزيعة الاجتماعية للثروة*
هل تشکل التعددية الثقافية خطرا على ثقافة ما؟
حقيقة اني اطرح هذا السؤال في فضائه الواسع وليس الديني الضيق او الاثني کما جرت العادة بوصم ثقافتنا وحضارتنا العربية بصفتها اسلامية وانا بصراحة لا ارى ان الثقافات لها هوية دينية اذ لا يمکن مثلا تجاهل دور مسيحيي العراق والفرس واسلاميين غير عرب بالانجاز الحضاري الذي يعرف بالعربي الاسلامي.. واهم منجزاته ليست عربية ولا اسلامية.. بل هناک رفض من الفکر الديني للکثير من الانجازات بوصمها بالکفر – الموسيقى والفنون مثلا!!. جميع الحضارات تطورت باتجاه معاکس لمجمل الفکر الديني الذي کان سائدا، في المسيحية نجد کوبرنيکوس راهب وعالم فلکي أثبت ان الأرض تدور وأنها ليست مرکز الکون وهي النظرية التي سادت 20 قرناً ودعمتها الکنيسة لمدة 12 قرن وجعلت مجرد التشکيک في هذه النظرية کفراً، وغاليليو غاليلي الذي نشر نظرية کوبرنيکوس ودافع عنها بقوة على أسس فيزيائية. في الاسلام نجد حرق کتب ابن رشد الذي سبق عصره، بل سبق العصور اللاحقة کافة، وقدم للعلم مجموعة من الأفکار التي قامت عليها النهضة الحديثة، قبل ذلک قتل ابن المقفع، قطعت يدي ورجلي السهروردي وصلب الحلاج . قائمة القمع الفکري تمتد وصولا الى العصر الحديث بطعن نجيب محفوظ وقتل فرج فودة والسکاکين التي تذبح البشر مثل الخراف تحت فکر ديني لم يجرؤ حتى اليوم علماء الأزهر، بصفتهم ارفع قيادة دينية ان ينتقدوه وان يقوموا بحملة توعية دينية ضده.. من منطلق ان المسلم لا يمکن ان يزدري دينه فبأي تبرير ديني يذبح الأبرياء مسلمين وغير مسلمين؟ هناک فکر اضطر ان يلائم نفسه للتعددية الثقافية وفکر آخر يصر على رفضه لأي تحول وهذا يبرز بقوة في مستوى التطور الحضاري ، مستوى تطور اللغة، مستوى تطور الفلسفة، مستوى تطور العلوم والتعليم وطبعا بمجالات عديدة وکثيرة لدرجة يبدو ان ردم الفجوة بات من المستحيل لأنها تزداد اتساعا . ونحن على ابواب القرن الواحد والعشرين نرى ان الکثيرين لا يفقهون معنى التقدم الهائل في التکنولوجيات والعلوم وان ما يحدث ليس تعبيرا عن تقدم التاريخ الانساني فقط، بل تحولات ثورية وانقلابية في جميع مجالات الحياة والفکر وخروجا عن الکثير من النظريات الاجتماعية والسياسية والعلمية والثقافية التي سادت القرنين السابقين بحيث بات من الصعب تطبيق ما کان في القرنين السابقين على ما هو حداثي اليوم، حيث ان البشرية تجاوزت مراحل ذات مدى انقلابي- راديکالي مما يعرف باصطلاح "ما بعد الحداثة" وحتى "ما بعد بعد الحداثة" وهي ليست ظاهرة في الثقافة الروحية فقط، بل شملت کل مناحي الحياة من الاقتصاد والعلوم الى الأدب والفنون، في الوقت الذي يعيش الشرق تحت سطوة العصر الحجري. اقول بدون تردد اننا نعيش حقبة جديدة في تاريخ البشرية، حقبة تشهد تغييرات عاصفة ليس في السياسة فقط، انما في مرکزية العالم التي تنتقل من مراکز شکلت المدخل للحضارة الانسانية ــ اوروبا القديمة، الى عالم متعدد المراکز الحضارية والثقافية والعلمية. ان واقع الشرق يعني انه سيبقى مزرعة خلفية للعالم المتطور، وربما نجد ان ضرورات التحول ستفرض مسح هذا الجزء من العالم من الخارطة الانسانية. العقل البشري برقيه لم يعد مستعدا لقبول ظاهرة تشکل تشويها لحلمه الانساني . لم نعد في عصر الرأسمالية، عصرها في نهاية طريقه، التطورات ليست في اتجاه نظام اشتراکي کما يحلم بقايا المنتمين للفکر المارکسي. تجري تغيرات جذرية بترکيبة النظام الرأسمالي الاجتماعية، القانونية والقکرية .. هناک تحولات تفرض التغيير وتخرج المضمون القديم الى ساحة تجديد لا حدود لها الا السماء، على رأسها وضع الانسان (المواطن) في قمة الأهمية للأنظمة التي ما زالت تعرف بأنها رأسمالية ولکن کل تطبيقاتها تسقط المفاهيم القديمة التي راجت لقرنين کاملين تقريبا، المضحک ان البعض ما زال يغرد بفلسفات قديمة بالية لا تملک تفسيرات للتحولات العاصفة في المجتمعات المتطورة اقتصاديا. هل نسمي ما يجري "ما بعد الرأسمالية" .. لا اجد صيغة أخرى؟! ما قيمة التسمية حين نستوعب المضامين التي بدأت تفرض نفسها بقوة ؟ دولا عديدة أقرت مثلا مستوى من ضمان الدخل للعاطلين عن العمل يضمن لهم حياة محترمة ورفاهية اجتماعية تجعلهم ليس فوق خط الفقر فقط انما بمستوى حياة واکتفاء تحافظ على کرامة الانسان ومساواته بالقيمة مع سائر المواطنين. عندما کتبت في بداية مقالي عن التعددية الثقافية کان القصد أيضا ليس الابداع الروحي فقط، انما الابداع المادي ايضا الذي بدونه تذوى حتى الثقافة الروحية. البشرية تجاوزت في تاريخها الحديث ( ولن اعود لتکرار المعلوم من مراحل التاريخ القديم للبشرية ) الکثير جدا من التطورات والاکتشافات والرقي الاجتماعي ، مما احدث ثورة فکرية في المفاهيم الفلسفية والثقافية بکل تنوعاتها المادية والروحية. کانت نظريات قديمة تتحدث عن صراع طبقي. عن کون الامبريالية آخر مراحل الرأسمالية، عن حتمية تاريخية، عن نظام عدالة اجتماعية لا يتحقق الا بنظام اشتراکي... عن کون العولمة تخدم النظام الرأسمالي. هل يمکن تخيل عالمنا المتطور بدون العولمة؟ انا اليوم استصعب فهم العالم الرأسمالي حسب النظريات التي يتمسک بها البعض من القرن التاسع عشر. ما اراه اليوم انه يتجذر في المجتمعات ليس اسلوب الانتاج الذي اشغل فلاسفة القرن التاسع عشر، بل نشاط الدول على تطوير التوزيعة الاجتماعية للثروة بشکل اکثر عدلا . هذا لا يعني ان وجود حظائر (دول) ما زالت تعيش بعقلية سابقة للقرن الواحد والعشرين بان لا شيء يتغير . عالمنا ليس هو عالم القرن التاسع عشر والقرن العشرين. نظريات تلک المراحل ، مع کل اهميتها التاريخية والفکرية في وقتها، احدثت تطورات لم تکن بالاتجاه الذي توقعته (بعلميتها!!) وبالتالي تلاشت اهمية تلک النظريات ولم تعد تعطي الأجوبة الضرورية لواقعنا المتحول. نحن اليوم في مراحل " ما بعد الراسمالية" ،"ما بعد الاستعمار" ، "ما بعد الحداثة" ، بل و "ما بعد بعد الحداثة" واتجرأ واقول أيضا اننا في مرحلة "ما بعد الأديان" . ما يجري في الشرق ليس عودة للدين بقدر ما هو نسف جذور الدين... والعنف هو التعبير عن نهاية مرحلة وسيکون الثمن رهيبا، والحروب الدينية عبر التاريخ عرفت جرائم مروعة. طبعا لا يمکن النظر لجميع الأنظمة بنفس المعيار ، ما اطرحه هنا هو أقرب للرؤية الفلسفية لما سيکون من تحولات ان لم نعشها نحن سيعيشها ابناؤنا. ستبقى الثقافة معيارا هاما، التعددية الثقافية هي النواة الصلبة لکل تقدم فکري او اجتماعي ، ان تقدم العلوم والتقنيات لم يکن وليد عبقريات شخصية فقط بل وليد النقد والنقض الذي ساهم اما باثبات فشل نظرية ما او بتطويرها وتحولها الى أداة لها جذورها بالتحولات الهامة في المجتمعات البشرية. ان مجتمعا يبقى مغلقا رافضا للانفتاح التطويري الشامل في جميع مجالات الحياة، يتحول تدريجيا الى مجتمع متفکک في نسيجه الاجتماعي ، في ثقافته الروحية وفي تقدمه بکافة محاور الحياة. نفس الأمر ينسحب على الأحزاب ، ليس بالصدفة الظاهرة العالمية لهبوط مکانة التنظيمات الحزبية وبدء ظاهرة حرکات المجتمع المدني التي تؤثر على مجرى الفکر والثقافة والتربية، رؤيتي ان هذا الدور سيزداد اتساعا وتأثيرا. ان التعددية الثقافية لا تعني التعددية فقط داخل مجتمع محدد، بل تعني اساسا اتساع شبکة التواصل الثقافي والمعلوماتي على مستوى الدول المختلفة. ما يجري لن يکون مجرد تجربة ، بل مسارا لا فکاک منه، سينبذ بتقدمه کل العقليات المغلقة، کل الفکر الخرافي . قد نشهد اختفاء او اضمحلال مجتمعات بکاملها، عبر ذوبان نخبها المثقفة بالمسار التاريخي واضمحلال تدريجي لمن ارتبطوا بالماضي وتقيدوا بسلاسله.. وليس مهما لأي نوع بشري ينتمون.. في النهاية اريد ان اقول اننا في بداية عصر "ما بعد القومية"، تماما کما اننا في "عصر ما بعد الرأسمالية" - العصر الرأسمالي (البرجوازي) ساهم بتشکيل القوميات وتعميق ترابطها، الحلقات الضعيفة في تطورها الاقتصادي کانت ضعيفة في جوهرها القومي أيضا وما تزال.. من هنا نجد ان الهوية الدينية تجاوزت الانتماء القومي..وبالتالي أغرقت شعوبها بفکر معاد لأي تطور حضاري. انتهاء العصر الرأسمالي سيضع القوميات على هامش التاريخ. هذه الظاهرة بدأتها اوروبا، تاريخيا کانت اوروبا دائما في طليعة التحولات الکبرى في تاريخ البشرية تحولات اجتماعية، قانونية، ثقافية، علمية.. الخ، لذلک اوروبا تشکل اليوم الاتجاه الجديد.. الذي سيسود عالمنا في عصره ما بعد الرأسمالي!!
[email protected]
#نبيل_عودة (هاشتاغ)
Nabeel_Oudeh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شذرات فلسفية - 6
-
قصص في البال
-
شذرات فلسفية – 5
-
شذرات فلسفية – 4
-
نائلة لبس تثير حنيننا لأيام طفولتنا
-
قصتان من الأدب الساخر
-
شعر المقاومة بين المضمون السياسي والمضمون والأدبي
-
رؤية فلسفية: الثقافة لا تنشأ بقرارات فوقية
-
فلسفة مبسطة: فلسفة اقتصاد السوق
-
مهزلة بيان الجبهة ضد لقاءات علي سلام مع وزراء الحكومة
-
شذرات فلسفية – 3
-
شذرات فلسفية - 2
-
شذرات فلسفية
-
خمس سنوات على رحيل الشاعر والمفكر سالم جبران
-
باسل غطاس عاد بخفي حنين
-
لن نصفق لخرائب حلب، بل لإنقاذ سوريا شعبا ودولة!!
-
بحث ما جرى...
-
كتاب -الناصرة في الوجدان ..- تسجيلا هاما للذاكرة الجماعية
-
هل انتصر الانسان؟
-
الهزيمة...
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|