|
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الثاء
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5412 - 2017 / 1 / 25 - 10:58
المحور:
الادب والفن
منذ تسلمي مخطوطة " شيرين " عن طريق المحامي، وفراغي من قراءتها، دبَّ التنميل في يدي مُترافقاً مع مشاعر متضاربة. فقد راودتني في الحال رغبةُ كتابة سيرة مماثلة، وفي آنٍ، شعورُ القلق من تكرار الأحداث أو تناقضها. مخاوفي، كان لها آنذاك أساسٌ على أرض الواقع. فيما بعد، أنتفى ذلك الشعور مع ضياع النسخة الوحيدة من المخطوطة فضلاً عن نسياني للكثير من تفاصيل متنها. هذه النسخة، مثلما سبقَ لي التنويه، كنتُ قد صورتها بجهاز الناسخ الآليّ خلال وجودي في مراكش، ومن ثمّ رافقتني إلى موسكو؛ ثمة، أينَ فقدتها ذات يوم أثناء تنقلي بقاطرة المترو. يُخيّل إليّ الآن، وأنا جالسٌ وراء طاولة الكتابة في حجرة المطبخ بشقّة ستوكهولم، أنّ ضياع المخطوطة لم يحصل سهواً. كأنني كنتُ إذاك أجرُّ كرةً حديدية في قدميّ، كما كان حالُ المساجين في العصور السالفة. وإلا، فلِمَ تركتُ نسخة المخطوطة الأصلية عند محامي شقيقتي الراحلة، متجشّماً عناء الكذب عليه متحججاً بكوني على سفرٍ وشيك؟ آنَ إنتهائي من قراءة المخطوطة، أنتبهتُ إلى انتشار الظلال في الحجرة والمؤذن بغروب الشمس. من الخارج، كان يتناهى صوتُ طفل الأسرة، شبه المعاق ذهنياً، وهوَ يقلّد حركة القطار. تنفّستُ بعمق، كمن خرجَ من لجّة موجة بحرية مُهلكة. شخصيات المخطوطة، والتي أعرف معظمها جيداً، أختفتْ لحظتئذٍ من رأسي. وحدها، " الشريفة "، من بقيت معلّقة هناك من خيط عنكبوت الشبهة. هذا، مع كون المعلومات عنها متناثرة هنا وهناك طيّ الأوراق. على أنها أيامٌ ثلاثة حَسْب، أستغرقتها قراءتي للأوراق وفي خلواتٍ بعيداً عن عينيّ قرينتي. هذه الأخيرة، كانت وقتذاك على مشارف وضع جنينها، تقضي معظم المساءات في صالة البيت التحتاني الأكثر دفئاً. وكنتُ ذات مرة قد سمعتُ والدتها تسألها عني: " ماذا يفعل طوال الوقت، هناك في الحجرة؟ " " إنه يقرأ في كتاب.. " " هه! "، ندّ عن الأم تعليقها الساخر كأنه طنينُ بعوضة. في نهار اليوم التالي لفراغي من قراءة المخطوطة، كان عليّ مرافقة " الشريفة " في جولةٍ خِلَل دروب الضاحية. الطبيب، هوَ من كان قد نصحَ المرأة الحامل بالمشي ساعة يومياً، على الأقل. كان نهاراً رائعاً، فرشت فيه أشعة الشمس الدروبَ بحبيبات الماس كنايةً عن الرمل. فيما الأشجار المثمرة، ذات الرؤوس الألقة والأفياء العذبة، كانت ترافقنا على طول الطريق الموغل ضمن البساتين. شعرُ قرينتي، الغزير والناعم، كانت تلوّحُهُ الشمسُ فتجعله أشبه بشلال ذهبيّ منسدلٍ على شُهد البشرة. تحت إلحاحي، كانت " الشريفة " قد أستبدلت قفطانها الأبيض ( وهوَ رمز الحِداد بحَسَب التقاليد المحلية ) بآخر ذي لونٍ يلائمُ بهاءَ ذلك النهار. حزنها على " شيرين "، ألزمها قبلاً هدر سيلٍ من العبرات. حقّ لي الدهشة عندئذٍ، كون عادة أهل البلد، غالباً، قلة الإكتراث بأحزان الآخرين وخصوصاً إذا كانوا من الأغراب. على ذلك، ترددتُ لبعض الوقت في مفاتحة قرينتي بأمر سيرتها المشنوعة، المسجّلة بقلم شقيقتي الراحلة. " ثمة شعيرات بيض، أراها لأول مرة في شعرك..؟ "، أبتدهتني المرأة الملولة المتثاقلة الخطى. دونما شعور، بادرتُ بدَوري إلى تأمل شعرها الأصفر، النادر اللون لمن هنّ في مثل سنّها. رَنَت إليّ بعينيها الصافيتين، المتماوج فيهما إخضرار مساكب الحقول المترامية حولنا، مُتبسّمة بشيءٍ من الحَرَج. لقد أستدركت على الأرجح، مُبكتةً داخلها لما كان في حديثها من إشارة للمناسبة الحزينة. هنا، ضممتها بقوّة من جانبها الأيسر، جاعلاً يدي تحت بطنها المتكوّر بأشهر حملها التسعة: " هذه الشعيرات رافقتني من موطني، إلا أنك لم تنتبهي لها قبلاً " " لعلّ الأمر كما ذكرتَ، فإن عينيك من الفتنة أنهما تجعلان المرء ذاهلاً عما عداهما " " وماذا عليّ أن أقول؛ أنا الغريقُ في بحيرة فيروز عينيكِ؟ " " قل فقط أنك تحبني.. "، نطقتها متنهّدة. أكثر من مرة، رددتُ الكلمة المطلوبة. لقد بدا أنني ضربتُ صفحاً عن الخوض بحديث المخطوطة، المثير حتماً للشجون. ولكن، كما يحصل من مصادفات في الحياة فنحيلها للمقدور، فإنّ ظهورَ رجلٍ أجنبيّ في طريقنا جعلَ من حديث المكاشفة أمراً لا مناص منه. كان عجوزاً نوعاً؛ بشعر فاحمٍ، مصبوغ ولا شك، وبشرةٍ نحاسية توحي بمكوثه سنيناً تحت الشمس المغربية الحادّة. أنتبهتُ قبل كل شيء لبذته الرمادية، والتي كانت من الجدّة والأناقة أنني خجلتُ من هيئتي الرثة. ثم جازَ لي أن أحلّ الدهشة بمحلّ الخجل، حينَ بادر الرجل إلى تحيتنا باللهجة الدارجة: " مرحباً.. لا بأس؟ ". توجّه بتحيته إلى قرينتي، رامقاً إياي بشكلٍ موارب. لوهلةٍ، فكّرتُ أنه ربما مواطنٌ وليسَ نصرانياً ( كَاوري ). زادَ من الإلتباس، أنّ قرينتي أنتزعت نفسها من يدي، كي تُقْبِل على الرجل لتقبّله في وجنتيه وكما لو كان من أقاربها. ثم إذا بها تردّ عليه بتحية فرنسية، قبل أن تلتفتَ نحوي لتقومَ بواجب التعريف: " إنه مسيو جاك. لديه فيللا هنا، ولقد خدمتُ فيها ببداية حلول أسرتنا في مراكش قبل حوالي عشرة أعوام! ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 التاء 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 التاء 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 التاء
-
سيرَة أُخرى 46
-
سيرَة أُخرى 45
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 الشين 3
-
سيرَة أُخرى 44
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 الشين 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 الشين
-
الجزء الثاني من الرواية: الراء 3
-
سيرَة أُخرى 43
-
الجزء الثاني من الرواية: الراء 2
-
الجزء الثاني من الرواية: الراء
-
الجزء الثاني من الرواية: القاف 3
-
الجزء الثاني من الرواية: القاف 1
-
الجزء الثاني من الرواية: القاف
-
سيرَة أُخرى 42
-
الجزء الثاني من الرواية: الصاد 3
-
الجزء الثاني من الرواية: الصاد 2
-
الجزء الثاني من الرواية: الصاد
المزيد.....
-
إنطلاق مهرجان فجر السينمائي بنسخته الـ43 + فيديو
-
مصر.. انتحار موظف في دار الأوبرا ورسالة غامضة عن -ظالمه- تثي
...
-
تمشريط تقليد معزز للتكافل يحافظ عليه الشباب في القرى الجزائر
...
-
تعقيدات الملكية الفكرية.. وريثا -تانتان- يحتجان على إتاحتها
...
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
-
السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم
...
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|