|
دندنة
حسن مروح جبر
الحوار المتمدن-العدد: 5378 - 2016 / 12 / 21 - 23:51
المحور:
الادب والفن
في الفنـاء ، رسا كدفء رؤوف ، أو نعيـم متدفق مجلسها ، فإنتشت به مساءاتي الحزينة ، بل ترآى كحلم لملم شعثه بعد يقظة فزع ؛ لتفـد صور جمة ، موكـدة حضورا ً أنيسا ً، وسمحا في وجه السؤال المنحوس ، والهواجس التي لم تخطر على بالي مساء ما ، قبل سيادة ما يشبه الفوضى ، والشعــور بالإستلاب ، ولازلت أعاني مرارة السؤال : ما يدفعهــم لكي أعاني قســوة هـذا المأزق ، أو تلك المحنـة فــــي غرفة التوقيف القذرة ؛ حين مكثت أناجـي نفسي على تلك الشاكلــة ، وليس سوى طيفها يقطع طريقــه إلـى قلبي ، وروحي .. إنها كوثر، وكأنها يمامــة حطـّت مرتابة على غصن رطيب ماسَ جوار نافـذة حجرتي ، وأطلقت شـجوها فـــي مساءاتي الموحشة .
كم شكوت لنفسي: رباه ما فعلتُ ليرموني مع الجناة ، والمجرمين ، والجانحين ، إنهم لعلى وهم في ما فعلوا ، وأسوء ما في الأمر أن أحدا منهم لا يدرك معنى لهـذا الإحتجاج ، والصوت المفجوع .. لا أحـد ! وهكذا كان يموت آخــر شعاع للشمس فوق قضبان الطاقة العليا في غـرفة التوقيـف ، فأطبق أجفانــي على أحلى صورة لكوثر حتى يطل فجر جديد ، وكانت أطيافهـا تدنو أليفة ، وحانية بدفقة إطلالات أنيسة , ما يراها القلب إلا عزاء وقورا ً، ونفحة أقحوان عابرة .
ها أنذا عدت إلى بيتي بأسمال خيبة ، ومرارة الشعور بالاذلال، أطل من نافذة غرفتي الصغيرة ، أتأمل بستان الخضر ، وأرضه الند ية ، وأزهار نباتات الباقـلاء ، والفراشات البيـــض قبل أن تعبر نظراتي من فوق حرف سوره المشوك بإتجاه الطريق المنحنية ، وتتمشى معها في فتور ، حتى تدرك ، ليس في خيلاء هذه المرة ، بل في ونى أفياء النخلة القائمة عند إنحناءة الطريق, أونقطة إنحرافها الحرجـة إلى الشرق , حيث يشكل موقع النخلــة منتصف الطريق التي أقطعهـا يوميا الى المدرسة ، وكانت تقوم على مرمى قريب من البصر ، وهي تمنح فـــي جفــاء فناءها الخلفي الى مروج جرداء .. آه ، ها أنذا أتأمل نوافــذ المدرسة ، فأوكـــد إنني لست مع الثلـــة الجانحة ، لست فــي غرفة التوقيف القذرة , لقد أخلوسبيلي فعلا ً؛ أليس شيعت بعبـــارة إعتذار فجـّة ، ظاهرتها قهقهـة حمقاء ، ومرائية جدا ، وساخرة .
حتى تلك الدقائق المتأخرة من الساعة الحادية عشرة ظهرا لم يزرني أحد ، وسيارة (الفولغا) التي أقلتني الى القرية عادت ، ولم يتبق أثر لعاصفة الغبار الثقيلة التي ثورتها عجلاتها خلفها . كنت رميت ملابسي في الزاوية الرطبة ، وارتديت أخــرى ، وكان جلــد رأســي , وبدنــي لزجا ً ، مصنا ً, وصداع خفيف يلم بأعلى رأسي ، ويخز في صدغي .
لازلت جائعا ً، ومتكاسلا ً، وحزينا ، وخواطر لا حصر لها تفد بلا أذن ، حتى رأيت ، كأن السيدة أحلام تعاتبني ، وهي تغض بصرها حياء ً. ولم أتوكل لأعد طعاما ً أخرس به جـــوع معدتي وصداع رأسي ، وكنت ، حتى تلك الدقائق لم أر ظلا ً لكــوثر ، أو أسمع صوتها ، الا أن صوت أمهـا العجوز سمع عقب تناهي صوت إصطفاق باب منزلها بعد هبة ريح غاضبة برفقة رغا ء بقرتها التي لم يذهب بها أحد إلى المرج ، وثمة صوت حفيف ثوب ، ووقع خطى حذر،
ـ 15 ـ لكأنها عبرت الثلمة ، وكنت اختلفت إلى المنزل بحذر، لئلا أثير إنتباهها ، ومن ثم تساؤلاتها ، فيجيء صوتها باكيا ً حزيناً ؛ إنها أم كوثـر ، جارتي ، وعاملة تنظيف مدرسة القرية .
كان هاجس البدء بالبحث عن المساوىء التي قد أكون اقترفتها مع الآخرين سهــــوا ً إحدى محاط مهمة لوضع أس سليم منطقـــي للأهتــــداء على قبس ، وان كان صغيرا الـى الحقيقـة ، لإكتشاف المؤامرة ، فهؤلاء الذين من حولي ، قد يشعرون بالعـــداء ، والتنمــر إزاءك ً لمجـرد هفـوة ، أو زلة ليس ذات شأن ، وإن البداية ينبغي أن تكـون ، أولا ً مع هؤلاء الذين حولي ، والذين سميتهم الدائـــرة الصغيرة ، أعني المعلمات الثلاثة ، والمعلمين الأربعــة ، ثم الدائـرة الأخرى الأوسع قطرا ً مثلما خامرني الظن .
سررت لتلك الأفكار ، معتقدا ً أن البدايات السهلة تؤدي إلى مسالك أكثر واقعية ، وتنتهـــي نهاية حسنة ؛ لأن ثلة التعليم لم تثر غيرة بمساوىء ، أو حسنات ، وكان الإستبشار بعواطــــف القلب التي أبدتها ـ في تلميح ـ السيدة أحلام لم يبد أحزنها ، ولم يلق إهتماما ً، كأن يكون نقطـة بداية ، أو كحجر زاوية رصين لهذا المشـكل الملفع بالغموض ، والأسرار، أعني المحاك بتدبيـر مقرف ، والأرملة أحلام لا زالت ترى في الأيام القادمة ـ منفذا ًللنور ـ أو كوة تطل منــــها على عالمها الخاص الذي ترغب فيه ..أيه .. ربما لم تنس ما لمسته في ردي من برود قاس ، الــــى جوار لمحة من أمل قد تحملها لتجد شجاعة في مواصلة دعم تطلعاتها ، وكنت ابتسمت علـــــى يأس أكربها صباحات ضاحكة ، ونديّة .
كانت مشكلة (يقظة الحواس)التي تناقلتها العيون في صمت ، ثم الألسن في همس لـ (الأنقاذ من حب العزلة وعبودية الترمل) رسمت إبتسامة فاترة فوق شفتي الأرملة الجميلة ، ومن ثـــم ماتت فوق شفتيها ، وقد أشيـــع أنها إستحسنت الفكــرة , لكنها لم تعثـــر على من يمتلك باعـاً للوعظ ، فينفرد بالمدير( المقطوع من شجرة ) و( الشــارد الفكر ، المعذب بالوحدة ، ومناغاة الأمانــي الصغيــرة ) ، ليرضيه بالقبول ، والقناعة .
أما محمد غازي فيبدو نسي ـ في الأيام الأخيرة ـ أمر نقله إلى المدينة ، وقد نال رضا أمه بعد إحالتها من التعليم إلى التقاعد تركْ منزلهــا لمؤجر ، والسكن معه لرعاية أحفادها الذيـن رحلت أمهم قبل شهور ، وكان الأجراء الحاسم الذي ألغى أمر نقله إلى المدينة دفعني ـ بعد أيـام ـ الـى إلشعور بالذنب ، وما يشبه الندم ، وقد رأيته كأنه يعاني أسى ، وشعورا ًبالإمتعاظ .
وأنصرمت شهور قلائل ،إستعاد محمد غازي عافيته ، وإبتسامته ، ورأيته مسرورا ً قبالتـي في غرفة إدارة المدرسة ، فحدثته همسا ً عن السيدة أحلام بهيج ، فأنصت بكلية جوارحه ، ثــم ختمت حديثي : ــ وكلاكما أرمـــل . أطرق وردّ، بعد تفكير : ــ لا أدري . ثم بسط كفه ، وابتسم : ــ أشيع أن بها هوى إزاءك . ملت بجسدي إلى ناحيته ، وقلت هامسا ً : ــ أعوذ بالله ، لا تصـدق .
ــ 16 ـــ
ضحك ، وقال : ــ شيء ما ، فيها ، يصرفني عنها .
سألت مرارا ً: ترى هل يجرأ محمد غازي لينكل بي ،وهو المعلم الوقور،الميا ل إلى الصمت ، والهدوء .. ذلك الأمـر لم يخطر على با لي ! .
وهؤلاء الأخرون ،أعني البقية الباقية من المعلمين ، فكانت الحياة تجري بهم بتماس هادىء ، ولو لم يكن رفيقا ً بقدر ما أملته الرتابة ، وبعد المدرسة عن المدينة .
رنوت ـ بعد أنصراف كامل , إلى أفكاري الى طائـر صغير يتقافز في مرح ، ورشاقة من فنن إلى ثان فوق شجيرة قزمة ، ثم يحلق فارشا ًجناحيه بلباقة فوق أزهـــار الباقـــلاء البيضاء ، ويتوارى في صف زهورإقحوان امتد مكونا ً ثلاثة أضلع بجوارالسور الواهي للحديقة. فتذكرت كوثرا .
شملت المدرسة بنظرة حزينة ، كان الطلاب خرجوا الى الفناء ،وتجاوز بعضهم سورها ،من خلل ثلمات الى سواق قريبة ، وانفردوا بعيــدا ً عن اللغط، والصخــب ، وكان من النادر رؤيـــة طالبة ، أو طالبتين في الفناء ، أعني من طالبات الصفين السادس ، أو الخامس ، أما اللواتـــي لحن لبصري فكن من الطالبات اللواتي التحقن بالمدرسة قبل عام ، أو عاميـن ، لقد أقلقتني تلك النسبة في تسرب الطالبات عن المدرسةً ، وقعودهن فــــي منازلهن ، أعنـي طالبات الصفين الأخيرين ! .
سمعت رغاء البقرة ، ثم صرير الباب الحديدي،التفت لأرى أم كوثـر من خلل النافذة المجاورة الى باب الحجرة تقطع فناء المنزل المكنوس الـى النصف ، وهي تغمغم :آه .. من شرّع الباب ، أهي الريح مرة أخرى ؟ ثم أكملت : ـ آه ..أما أنت يابني ، لا أدري أين أنت ، تلك دارك يعمّها جوى ، وتأ مها وحشـة ! . هتفتُ بصوت فقد نسبة كبيرة من صفاء جرسه : ـ أنا هنا أي أم كوثــر . هتفت ، وحفيف ثوبها الأسـود يخفق مع الريح : ـ رباه .. أنت هنا ، منذ متى يابني ؟ . ـ منذ أقل من سـاعة . ولجتْ الحجرة ، ووقفت على مبعدة متر ، وهي تلهث : ـ آه ..الحمد لله , أنت هنا إذن ، تبدو متعبا ً ، وجائعا ًبني !. فركت راحتيها ببعضهما ، وسألت في لهجة ممتعضة : ـ أتراهم على صواب حينما أوقفوك . . اللعنة !.
ابتسمتُ مكرها ً ، وأنا أوصد النافذة بوجه الريح الباردة : ـ على صواب ..كلا..كلا ياعمتي . استأذنت ، وانصرفت ، ورأيتها تقطع الباحة ، وخطواتها أكثر بطئا ٍ، وتثاقلا ً،وكانت تعذبني خصاصة السؤال عن كوثـر، فامهـا لم تطر ِ، أوتشـــر ، ولو من طرف خفي لأمر ما يرتبـــط ــ 17 ــ بها, فخيل لي أنها عادت الى مرهون في قريتها النائية عن مدينة الاصلاح ، وهاء غيابهـا ترك فراغا ً واسعا ٍ ،عمّقه صمت الصباح ، ومداعبة الريح لكناسة تركتها على هيئة كومتين ، حيـث تناهى صوت شخب الريح في السياج الثاني لبستان الخضـر ،فبعثرت الريحً من الكومتين شيئـا ،وهنا ترآى وجهها مشرقا ً،وخداها متوردان , وصارت إبتسامتها أكثر سحراً ،وتمردا ًعلى تلك الأشجان الراكدة فوق كلكلها ، ومقلتيها ،بدت في تلك المساءات اكثر سحرا ً، وسعادة،رغم انها لا زالت تخطر بذلك الثـوب الأســـود المفزّر فــي مواطن منه ، والذي ترتديــه ، فوق قميصها الداخلي مساءً ، جاعلة وشا حها الكالح يغيّب حاجبيها المتباعدين .
آه.. كم تراءى فرعها ، في المساءات الكئيبة ، لي ، حيث يتوالى صرير الباب ليلاً ، ونهاراً، ويسمع صليل السلسلة ، وهو يوصد دوننا ، وفي عتمة الليل كان ثمة صدى ، لصوت رخيم ، لا يكف يداعب الخاطر الحزين ، كأنه صوتها ، يذود على جوى ،وحذق وحشة المكاره في المكان . وعندما استأذنت المراة العجوز ـ ذات مساء ـ وانصرفت ساعيـــة ، عبر الثلمــة ، الى منزلها المجاور ، تسلل صوتها وسنانا ٍ الى أذني ، استعذبته خلسة مرتابا ً ، وقلقا ً ، ثــم ســرعان مـا تجرد من إرتيابه ، أو من من ذلك الشعور الذي ، كأنـه يحمله على إكراه ، ليسمعه من يسمع ، وكان تواكل مع جوى عميق ، ومن ثم تهادى على متن ريح رخــاء ، وكانت تقتعد أمامي طرف سجادة وثيــرة ، بينما اقتعدتُ طرفها الآخـــــر ، مريحا ً بدني إلى وســـادة ، وأنا أصغي ، بكـل جوارحي الى رقة ، وتهدجات متزنة تصحب صوتها المكروب ، وهو بعد لم ينض ثوب خفره .
ثم سمع كأنه نوع من أنواع النواح الرقيق ، المتعب ، الشاكي ، وهو ينساب في ثراء ، مع نسائم لاهية ، أو مويجات عابثة تتسابق في جريان ممهور بالضياع ، والحرمان : هذا الهوى من أهواي حيل أرد أشمـّه بلكن يمر بجروح قلبــــــي ويلمــــّــــه
أتراها عادت الى زوجها الرقيق الحا ل ، والى إبنها الأبكم ، وكأن ندماً خصها ،أو دفعها شوق أمومي ، أو دهمت روحها وحشة ، وكانت وكدت لي مرارا ، ولنفسها كما يبدو ، أنها خاليــة الوفاض ، وبلا أمان ، وقد اجترأت ذات مساء , وقالت : ــ ترى أيظن علينا ـ أي راشد ـ لو كنا قرينين ، أم تراه يجود ؟. سألت بشوق : ــ ماتقولين يا كوثـر ؟. تنهدت ، وهربت بوجهها الى الباحة التي تألقت تحت نورقمر كاد يبلغ ليلته الرابعة عشــرة , ثم همست : ــ أعنـي الزمان . وأردفت متسائلة : ــ لماذا أنت عزب حتى هذه الأيام يا راشد ؟. ابتسمت بمرارة ، وقلت : ــ لا أدري يا كوثـر . قالت بصوت حزين ، وهامس : ــ أتراك بحثت عن إبنة حلال ؟. أطرقت لثوان بدت طويلة ، وسألتها : ــ ومرهون يا كوثـر ؟. رفعت بإتجاهي وجهها ، وكانت تبتسم إبتسامة فاترة ، وقالت :
-18- ــ ما قلت ياراشد ؟ . وتنهدت من أعماق صدرها ، وشملت الفناء بنظرة نفد رجاءها ، فقلت : ــ أيه كوثـر ؟. قالت ، وهي تلف خيطا ًحول سبابتها ، كأنها تداري خجلا ً : ــ أزمعت أن لا أراه ، وإبنه الأبكــم .
تناهى وقع خفي المرأة العجوز فوق أرض الفناء،انقطعت سلسلة الرؤى ،والصور الفياضة ، وقد تقدمت المراة بخطى بطيئة ، متثاقلة , حجبت بجسدها , وما فوقها من ثوب أسـود واسع ، فضفاض ، وطويل فتحة الباب ، وكان يين يديها صينية صغيرة ، ولما اقتعدت نهاية سجادة ملقاة إالى جوار الجدار المقابل ، إنبرت بعد أنـّة قصيرة ، ضعيفة , قائلة : ــ كان نشط لغط حول إعتراضك ، أوإحتجاجك على إنقطاع طالبات الصف السادس عن مواصلة دراستهن ، ورغبة الآباء في قعودهن في البيوت ، فقد بلغن سنا ، لا يسمح لهن بالمكوث على مقاعد الدرا سة . سألتٌ : ــ أين ؟. ــ في القرية ، كأن ثمة من يؤلبهم ، أو يحملهم عليه حملاً !. هتفت في ظفر : ــ هه.. لعله وادي لا در دره !. قالت ، وهي تواري خصلة بيضاء نشزت عن سالفها تحت وشاحها الأسود الشاحب : ــ آه.. يا له من رجل محظوط ! . أيدتها قا ئلا ً ً: ــ إنهم يرون أقواله عظات ، يا لجهلهم الحقائق !. كدت أحجمه ، وأردعه بإيقاظه على مقدار جهلـه ، وبذلك يتزعـزع سلطانـه ؛ إلا أنهـم ، وفـي الساعة العاشرة صباحا ً دهمواعلـّي غرفتي ، وكان الطلاب يتمتعـــون بنهزة مابيـــن الدروس ، تطلعت الي عيون الصغار بإستنكار ، ودهشـــة ، ولمع على حدقاتها شعــــور يشي بالخوف ، والرعب ، وتردد صدى صوت انتقل على الألسن كعدوى مرض سار : المدير ..المدير !!. ــ مابه المدير .. المدير يُقتاد !.
سعيت معهم بلا ضّجة ، فقد وضعني اليقين أنهم سيخلون سبيلي ، مادمت لم أقترف ذنبــا ً، وإثما ؛ وكنت نسيت تماما ًأن البعض ربما وشي بالاجراءات التي سأ تخذها ، والتي أعلنتها جهرا ًأمام المعلمين ، وتناهت الى مسامع البعض من الطلاب ، فنقلها واش ، أونقاق، إلا ،ني فـــي غرفـــة التوقيف نسيت كل شيء ، ولم يبق سوى صدى كلمات تتحدث عن زرد السلاسـل رددت بلا داع يذكر، وكان الجو غائما ً، وحزيناً في ذلك النهار .
سمعت المرأ ة الطيبة تدعوني : ــ أقعد كي تفطـر . لم أشعر برغبة في تناول الطعا م ، رغم شعوري بالجوع ، وكان جوف فمي متيبسا ً. فالنقود التي بددت لأغـــادرغرفة التوقيف ، وقرع زرد السلاسل المقذع كانت جزءً متيسرا من نقـــــود أدخرتها في عناية ؛ فتسربت سدى ، وألغى ضياعها تنفيذ مشاريع صغيرة رائعــة جدا ، مـع
ـــ 19 ـــ رغائب أخرى ، وكنت في سبيل إبتياع فستان لائق لكوثر، و بضاعة أخرى تسّرها ؛ فقد كانت تظهر في فستان أسود مفّزر فـي نواح منه ، ويبدو رثاً ، وقديما ً، وكأن رائحة مرهون المصنّة لا زالت عالقة به .
كانت كوثر قالت ذات مساء يإمتعاض ، وأسف ، وكان الحديث دار حول مرهون : ــ آه ..أن جّدا ً منحوسا ً قادني اليه ، وليلة ظلماء ، أيضا ً، جمعتني معه !.
قلت ، وأنا أقترب منها فوق السجادة الوثيرة : ــ أكان ثمة من يشمت أم كوثــر ؟. بسطت كفا نحيلة ، ثم قلبتها ، وقالت : ــ لم أزر أحدا ، ولم أقصد سوى المدرسة ، إلا أن ثمة ما يوحي كأن غيابك جعل أحدا ًما يشعــر بالسرور على أظن . ــ لله درك أم كوثر ، ثم ماذا ؟. ــ قال قائل أنهم أحرار، إن ذهبت بناتهم الى المدرسة أم إنقطعن عنها ، بينما ، وعلق آخــر: أن الرجل الخـّير يمنح نصائحه كبركات ، من تراه الرجل الخيـّر لا أعرف !.
بلعت ريقها ، وأطرقت ، وسبابتها تداعب فروة السجادة ، وتنكشها ، أو كانها تفليها ،وكأني أدركت من المعني بالرجل الخيّر ذا ، إلا أن المؤامرة القذرة كيف حيكت ضدي ذلك مـأ لم أدركه بعد ، وحتى يتيسر الوقت حتى يتاح لي ذلك . وهنا ضحكت المرأة ، ثم علقت قائلة : ــ ستعثر على أخبار كثر في قريتنا المباركة !. دفعت الصينية أمامي متجشئا ً، وقلت شاكيا ً : ــ غاض الكرام ، وفاض اللئام !. ـ آه .. تجدهم مثلما تجد الزؤان في البر ِ .
حملت الصينية ومضت قاطعة طريقها بإتجاه الثلمة ، تأملت الفناء النصف مكنـوس ، وكانت هبات الريـــــح تعبث بالكناســة ، وتحملها إلى الجزء المكنوس ، وكانت قمة ترى على هيئـــة كومتيـن صغيرتين ألقيت بينهما مكنســة الخوص فـــي تذمر ، فخيـل لي أن كوثراً كانت يممت وجههــا بعـد دعوة عاجلة إلى زوجها وإبنها الأبــــكم ، فألقت المكنسة على مضض ، ونفضت ثوبها الأسود المفـّزر ، ولبت دعوة المنادي .. ترى أذهبت مع مرهون بإتجاه قريته النائية فى أطراف أهــوار الطار*1 .
نهضتُ ، وأقتعدتُ الأريكة القديمة ، وشملت المدرسة بنظرة فاترة من خلف زجـاج نافــــذة الحجرة المغبــش ، خيل لي كأن إحدى المعلمات ترفع ذراعها كانها تكتب شيئا ً فوق السبــورة ،تأملت قميصها الأحمر ،وقد لاح في الظل قاني الحمرة ،كما بانت أعلى تنورتها السوداء ، خيل لي أنها الست أحلام ، وليس غيرها ، إنها تتحرك بكســل ، وخمــول ، وكأني أتأمـــل غدائرهــا السود التي لم تبلغ ، أو تمس أعلى منكبيها ، إلا أن عاصفة غبار ثقيلة أثارتها عجلات سيــارة تنقل المعلمات ، والمعلمين من , والى المدرسة أخفت كل شيء خلفها ، وحجبت الرؤية . وقـد تعلق بصري بأعلى النخلة المنفردة ، المتوحدة مع ذاتها في أرض بور، تراءت كأنها طفت فـي فضاء سرابي ، بينما قطعت السيارة طريقها الــى منتصف الباحة التي تتقدم بنايـة المدرســـة ، ويبدو أن سائقها المراهق لم يعثر على ما يعمله ، فآثر الإنتظار ، ميمما ً وجهه إلى الشرق . *** ـــ 20 ــ ضحى كان الخاطر امتلك تكوينه ، وكان في البدء رأيا ًنزقـا ً لاح ,هناك في الظل بلا مميزات من بين خوالج متعددة ،خطر ، الآن، وكأنه خلع عنه نزقه ، فوجدتني منقادا ً معه بطيب خاطـر، لم يتبق لي ما يملك القدرة على إثنائي عن مغادرة القرية ، وهجر مدرستها الى أخرى ، ولأمرآخر مجهول ، ذهب بظني أن أحدهم يحوك لي في الخفاء مكيـدة ، ليصبح مديرا ً للمدرســة ، أو أن الناس هنا مـّلوا ، أو جزعوا وجودي بينهم حتى في أيام العطلة الصيفية ، وكنت لماما ما أغادر القرية لزيارة إبنة عمتي في قرية أخرى ، وكانت أقرب القربى ، فقد رحلوا تباعا ، وانقطعوا ، قد أغيب بضعة ليال، أو اسبوع ، وأعود بعدها بخفي حنين إلى منزلي . وفي هنيهة تأمل آثرت إنحاء هذا الخاطر الى حين ، أو إلى وقت تال؛ كأني أولا ً ينبغي علي لـّم شعثي في خلال فرصة أطول ، وكأني رأيت وظيفة مدير مدرسة هذه لم تكن في يوم ما مـكسبا ً ليستحوذ على إهتمام أحــد ما بقدر ما به من مثالب ، وهموم ، تعيدني أحيانا ً الى إطراء الأيام الماضية ، معها بدون مكارم .
منحني صوت خِفيّ لأم كوثر فرصة ، فكففت عن التفكير، وممارسة أفكارلا نفع منها ، والتفت الى الفناء من جديد ،فلم أرها إلا أن صوتها وكد وجودها ،حيث هتفت ، وهي تقترب من الباب: ــ ألا زلت هنا أي بني راشـــد ؟. ــ أجل يا أم كوثـر . تقدمت ، وناولتني دورقا ً فيه لبنا ، وقالت على سجيتها : ــ اشرب هنيئا ً. تناولت الدورق ،وكانت كفها ترتعش . وكان جرس المدرسـة البدائي يقرع للمرة الأخيــرة ،أفتعلت ضجة ، وسمع صياح الصغار، ثم سرعان ما هدأ ، وأستتب كل شيء . قالت أم كوثر: ــ هاهم يغادرون المدرسة . لحســـت شفتي ، وقلت ، ــ يندر هناك أن يصيب المرء كوبا ً من الشاي !. ــ آه.. لم نكد نصيب شيئا ً إلا وكنت ثالثنا . وليس بيدنا حيلة !. ابتسمتُ ، وقلت : ــ إنك إمرأة طيبة يا أم كوثر! . اشرأبت بعنقها ، ورنت من خلل النافذة ، وهي تقول : ــ هاهم يحشرون أجسادهم في سيارة ذلك الشقي ! . لم أعلق بشيء، فأردفت قائلة : ــ لم يتجشم أحد منهم زيارتك ! . ــ ربما لم يعلموا بعودتـــي .
السيارة تقطـــع طريقها المنحنية ، وتثير عاصفة غبار ثقيلة حمراء خلفها ، يختفي ســا ق شجرة النخيل , ويطفو أعلاها ، ثم يلوح كمظلة معلقة في الهواء ، بينمـا السائق النـزق يقــــود سيارته الفولغا برعونة ، كأنه يفر من عاصفة الغبار التي تتعقبه بلا فكاك . وهنا قالت أم كـوثـر بلهجة عاتـبـة : ــ لقد مضـوا دون أن ... قلت بصوت حزين : ــ ليمضوا .
ـــ 21ــــ
انصرمت ثوان من الصمت الحزين ، تثائبتُ ، وشعرت بنفسي متعبا ًأدركت ذلك ، فقالت ، وهي تعجن الأرض لتنهض : ــ نم ، إنك لازلت متعبا ً . تثاءبت ، مرة أخرى ، ودفعت ضلفة النافذة الى أقصاها ، وكانت المراة الشيخــــة تنصرف مغمغمــة : ــ قلت هاهم أخوتك ..آه كوثر بنيتي !.
استيقظت بغتة ، مثلمـا غفوت بغتـــة دعكت عيني كما يفعل الصغار حينما يستيقظون من نومهم ، وخالجني الشعورالحزين نفسه ، حتى كان -أحدا ما وكد لي ان لا مكان لقدمي في هـذه القرية ، وينبغي أن أهجرها غير نادم إلا على فرقة المراة الشيخـة ، وعلـى بستان الخضر الذي كنت أصرف فيه بعض أوقات الفراغ ، كما أنني لم أودع كوثرا حســــب ما يليق بي أن أودعها ، وربما لن أراها الى الأبــد ، وها هو مكانها فوق السجادة ، أراه يشــكو جوى ، ويثير شــكوى حزينة ، مثلما شكت الباحة قبل ذلك ، وكان ليس ثمة صدى لصوتها الخفر الحنون، الذي أرهقه حنين الى شيء مجهول ، وكان ناس لمساءات في الفناء الواسع ، دون ان يجرؤ على التمـادي , أوخرق خفره ، وإنكساره ، أو تخطى الحدود التي حذرتها مع حرص شديـــد ، وكانت تمتد إمتداد شريط متراخ الى جوار الجدران الطينية المكفهرة .
آه..إنني ، الآن ، حزين أشعر بالغربة من حولي ، وهاهو شبح مجهول يتراءى لي متجهما، أوعابسا ، يتراقص رقصات شيطانية في منتصف الفناء الذي لم تمّرر مكنستهــا عليه ، وكانت ، قبل ذلك ، أوحت المكنسة الملقاة بإهمال شعورا بالضياع ، والتفاهة ، وكانت ذكــرى مرورهم الى جوار المنزل ، وإحجامهم عن زيارتي سببا ً، أو مصدرا لهّم آخرثقيل ، وغير رفيق، وكانت هيئة وادي ، بوجهه الأسمــر العريض ، وأنفه الأ قنـى ، ونظراته المستنكرة ، الحاقـدة تتراءى أحيانا ، وقد استأثرت الحيرة ببقايا الأماني ، بعد أن استرددت حريتي بثمن بخس ، ولكن بجرح عميـق ، لايندمل بيسر ، وكأن بن وادى بجوار القــّلاع يستقبلني بإبتسامة تلبستها سوء طويـة ،إبتسامة ثعلبية ، ماكرة ، مسمومة ، وهو يربت كاهلــــي ، ويقول ضاحكا بفخامــتة ، مخرجا ضحكته من أنفه الأقنى : ــ ألم يعدك -أحد ما أنها ستفرج ؟. قلت ، لأشعره أنني لا زلت غريبا بينهم : ــ أنت تدري أنني أكاد أكون مقطوعا من شجـرة . ضحك مواريا شماتته ، وكراهيته في أعماقه : ــ لا زلت واحد منا يا أستاذ راشــد . رقّـّق ملامحه ، وهو يتململ في مكانه ، واستأنف قائلا : ــ لقد وجدت الرجل رؤوفا ، ومتفهما . وأردف ، وهو يشير الى غرفة الضابط : ــ أعني المقدم هـــذا ... وقادني بعيدا عن السّجان ، وهمس : ــ إنها ليست ذات شأن ، تلك الخمسين ألفا ً؛ الحرية غالية الثمن ، وأنت أدرى . لم أجب ، وكان السؤال يأخذ بخناقي :كيف أخذت الى حجرة التوقيف أنا الذي لم يقترف ذنبًا؟.
شعرت بكفه السمراء ، المملوءة الثقيلة تربت فوق كتفي بلا مودة : ــ هيا اذهب إلى بيتك و.. مدرستك , و..قريتك .
ـــ 22 ـــ كنت خا ئــر القوى في وقفتــي الى جواره ، وكأن كوثــر منتصبة بقامتها على مبعدة منـّا ،شعرت كأنها ستأخذ بيدي ، وهـي تطرق حياء لرثاثة فستانها ، وعبائتها ، تأملـتها ، فتوقفت ،أدهشني حزن أخذ بتلابيبها ، ورأيــت عينيها مغرورقتين بالدموع . . آه . عينــاها الزرقـاوان الواسعتان ! زرقة أمواه الأهوار المدعومة بالخضرة , والندى ، والانتظار ، والصبر .
أيقظت بي رائحة شاي ، مازجهُ شذى حبات هيل ، حاسة سادسة ، حملتها نســيمة ، كأنها قطعت طريقها الى روحي عكس إتجـاه الريح ، أو كأنها مرّت ببستان الخضر المجاور ، فشملت بنظرة خائرة إبريق الشاي ،والأكواب الثلاثة ، وكان علاها غبار دقيق هما في خلال أيام غيابي في غرفة التوقيف المشؤومة ، تسلل من ثلمة في زجاجة الروشن الصغيرة العليا ، كانت ثقبتها ، في يوم ما رصاصة طائشة أقبلت من قرية مجاورة .
أصغيت ، كاني ساسمع صوتا ً لأم كوثــر ، أو أسمع وقع خفيها القديمين ، وهي تجرجرهما في الفناء النصف مكنوس ، إلا أنني انتبهت أنها بالكاد في تلك الساعة تعود من المدرسة ، وقد كنست الصفوف بفوضى ـ بمكنستها السعف البدائية ،حتى يعلو رأسهـا ، وكتفيهاالغبار الخانق ،ربما كانت ، الآن، شارفت على كنس الممرات الضيقة،وتركت الصفوف للحارس كما إعتادت .
أطلقت حسرة ، وانصرفت بنظرات ضبقــة أتأمـل نباتات الباقــلاء المتألقة بخضرتها ، كانت ثمة فراشة بيضاء حامت الى جوار النافـذة ، ثم حلّقت فوق أكمام الزهـــور البيضاء ، ساعية بإتجاه زهرة أقحوان تفتحت مبكرا ً، ولما توارت شعرت بغم ،إلا أن صوت المراة نبهني ،قائلة: ــ لم تنس كوثر ريها مع صف الزهور الشذ ية . خفق فؤادي ، والتفتُ بجميع جوارحي إليها ، ثم هتفت : ــ وأين هي ياخالتي ؟. لــم يرد أحد ، ولم أر المراة ، خرجت إلــى الفناء ، رأيته مقفرا ً من أيما ظل لها ، والسكينة الثقيلة ماكثة في الأركان، والزوايا ،وعاصفة غبار تطل قمتها من فوق الجدار، وكانت كوثر في تلك الساعة تكنس الفناء ، بعدأن ترشه برذاذ الماء ، وتحمل عليه بمكنستها السعفية ، ولما تتم ذلك برشاقة ، تحمل السجادة الثقيلة ، وتبســطها قرب جــــدار الحجرة ، ولمـا حذرتها من ذلك ،ابتسمت ، وردت قائلة : ــ قد تتخذ من الجدار متكئا 0 وهمت بالدخول الى الحجرة لتحمل الوسائد ، وهي تروي: سأكون ربة البيت ، وأنتم ..من؟..لا تدري.. أنتم الضيوف .
أطلقت تنهدة ، وصحت شاكياً ، ونظراتي تستجدي الزوايا ، والأركان ،ورائحة القادمين ، ولـم تنس الباب الموصد،أسال كل شيء عن طيفها ،وعن صدى صوتها ،ولما شعرت بعمق الوحشة ،رأيت ،كأن شيئا ٍ حولـي فقد جلاله تماما ، مثلما تجـرد صوت ذلك السّجان من شيء ما ، كأنه الوقار ، أوشيء من الحلم ،أوضرب من شيء ، قد يكون ، أو كان لطيفــا ؛ آه.. وكررت الهتاف بصوت مسموع : ــ كوثــر ..أين أنت يا كوثر ؟.
لم يجب أحـد ، وكان صدى صوتـي وحده كأنه يقول : ما أعذب إسمك ، وطاريـك*2! . وكانت دجاجة قطعت الثلمة ، تتبعها فراخها الى الفناء ، وخلفها ديك أبيض يمشي بخيلاء أحاط عنقـــه ريش أصفر ناعم ، سرعان ما اندفع ، ووقف إلى جوارها وقفة حارس يقظ ، وكانت الدجاجـــة ــ23 ـــ تنكش بقايا القمة ، وتبعثره بمخالبها .
أقبلت أم كوثر ، وبين يديها صينية ، وكان باب الدار صرّصريراً جزعا ً ، وكان أهمنيّ غياب كوثر كثيراً ، ولما لم تطر أمها ذكرا بشأنها ، سألت ، ولم أنتظر مزيدا من الصبر: ــ أين كوثر ياخالتي ؟. تنهدت ، ولم ترفع رأسها ، وواصلت سكب الشاي في الكوبين ، ثم أجابت : ــ كوثـر ذهــ..بت..آه..ذهبت 0 ثم طفقت تنشأ في صوت شابته بحـّـة : ــ أقول ذهبت إلى هذا المرهون الشكس ، وستعود وشيكاً .
رشــفتُ شيئا من السائل الساخن الذي طيبت رائحتــه حبيبات الهيل , وقلت ، وأنا أشـــملها بنظرة قلقة : ــ لا أفهـم شيئـا !. أفلتت أنّـة واهية ، ثم رنت إلى بعينيها الصغيرتين ، وردّت : ــ لأنها ستّفترق عنه , بني . زعقت مثلما يزعق الراعي على غنمــه : ــ تطلّــّق ؟. حركت رأسهـا بإيماءة حزينـة ، متذمرة ، وكنت أحدث نفسي : ــ آه , مسكينة أنت يا كوثـر !. قالت أمها ، وكأنها تحتج : ــ كلا..كلا ..إنه ليس شكسا فقط ، بل هو خنزير من خنازير الأهوار المتوحشة !.
*** اعتصمت بالصمت ، وقد رأيت هلالاً حزينا ً، شاحبا ً انتزع نفسه ، تــوا ً، من بين عواصف الغمـام ، ومرارة ذكرى عشرة ليال لا تنسى أطلت من طاقات دائريـة فيهـا وجوه لا تعـيـر وزنا ً لعتاب من أي صنف ، وليس أمامي إلا بضعة أيام لحزم أمتعتي المهمة ، كي أهجر القريــة إلى الأبد، الأبد ، أهجرها حزينا ؛ لأنني إن هجرتها من وادي ، فثمة عشرات من صنفه هناك .. إنهــم في كل مكان، ولم أنس كيف دخلت القرية غريبا ً ، فـــي ذلك النهـار الخريفي المتجهم قبل خمسة أعوام ، بعد أن رحلت أمي إلى دار البقـاء بعد معاناة مع علل مجهولة ، فتشجّع شقيقي الوحيد على الرحيل إلى مدينة الحلة ، والأقامــة هناك .
كم يؤلمني أن كوثراّ تجهل ،الآن ، ما أزمعت عليه ، وقد حملتها مسّرة صرم علاقتها بمرهون الى الأبد ، وكانت لسرورها كمن يشعر بذهـول ، بعد أن لفظتها الدوامـة من دائرتهــا الحمقاء ، وبعد صمت قالت في صوت حمل طيف بشارة : ــ متى أخلوا سبيلك ؟ . وأردفتْ قبل ان أرّد : ــ آه.. كم كان مساء حزينا ذلك المساء !.
لم أبح لها بما عزمت عليه ، كما لم تشر أمها الى ألأمر؛ لأنها كانت غير مصدقة ، أو كأنهـا غير راغبة في تشويش الجو عليها ، أو كأن الأمر لا يعني كوثر من قريب أو بعيد ، وهو أبعــد
ـــ 24 ـــ الاحتمالات . وكانت كوثر فرغت من الزيجة بعد صراع ، وإنتظار ،وعادت الـى منزل أمهـــا من جديد ، وقد فقدت ما يربو العقد من سني عمرها سدى ـ كما نوهت ـ مع هذا المرهون الشـكس . وسمعت تقول هامسة : ــ تراه هل فرغ الزمان منّا ؟. ابتسمت في أسى ، وعلقت قائلا ً: ــ بل هو يتداولنا بلا إنقطاع . كأنها لم تنس سؤالها ، فعادت تقول : ــ متى أخلوا سبيلك ؟ . صرفت نظراتي الى الباحـة ، وقلت : ــ صباح الأمس فقط . أطرقت وهي تتنهد ، وشعرت كأن قلبها ، بين ضلوعها ينوح باكيا ً : ــ آه..آه ..! . تأملت السماء لثوان ، كانت نجومها تومض في أفق بعيد ، كـتمت آهـة ، ثم خامرني سوء ظن ، وكأني أخاطبها : ــ على كوثــر التفكير مليا ً . قالت حالا ً ، وكأن قلبها هو الذي ينطق : ــ وأنت هل فكرت جيدا ً ؟ 0 ووجدتني أشكـو الحقيقة التي بتُ أكابد مرارتها ، فقلتُ : ــ لقد سأمت الوحــدة ياكوثـر . أشرقت ملامح وجهها ، وهي تبتسم ، وقالت : ــ الوحدة ..غرامها غرام !.
اندفعت نسيمة باردة , قرقف بدني معها ، بينما لمّت هي أذيال ثوبها المهلهل حولها ، وكانت نظراتها تتشتت في غبش الظلام ، وهي تقول : ــ أراك حزينا ً ! . لم أجب ، وسمعتها ، بعد هنيهة تعتذر عن مواصلة السمرهذا المساء ، فقد أتعبها طريق السفر الى الطار، والعودة منه في نفس اليوم ،شيعتها بنظرة فقدت لطفها في ظلام الليل ،ولم انتبه إلا على صوتها يأتي من بين كفيها ، متوحدا ً مع ذاته في السكينة حاملا ًمظاهر سرور خفـــي ، موشى بحلم عذب له عبير حقول رز العنبر : ــ لا تحزن . وسمع في الظلام من يجيب وشيكا ً ، بصوت امتلك طاقة لا وصف لها من الرقة ، والصفـــاء ، والطمانينة : ــ إن الرب َ معنـا 0
وتردد الصدى ممتلكاً صفاء أعمق : إنه معنا .. إنه معنا..
ولجت الــى الحجرة ، ووقفت في الظــلام ثم اندفعت خلف النافذة المشرعة لنسيمات حملت شذا زهورأقحوان ، وبحثت عن النخلة القائمة هناك ، آه..مع إنحنائة الطريق، ثم حدت ببصري الى النخلة ، والى ما تبعثه الكواكب من نور نزيـر ، فتراءت فــــي عسـر ، مع وحدتها الأبدية ، كأنها غفت على حلم عذب ، رقيق ، وقد تبددت من حولها وحشـة المكان ، وانحسـر ظلام كـاد
ــ 25 ــ أن يكون ســـرمديا ً .
ومرة أخرى كان الحـلم كالنعيــم , كدفء رؤوف متدفق ، وامتثـــل مجلسها منتظرا ًربيعا ً وشيكا ً ، ورائعاً ؛ اعتقدت أنه ليس سـوى ربيع العمـر الذي لم نمّـر بــه ، وكان الخريف قادما في هيابته بلا تردد ، أو شكوك ، إلا أن بريقا ًعذبــــأً لاح فــــي عيـنين زرقاوين , واسعتين ، وبدا يفيض بالنور ، والإشراق . كأنه سيرجأ الخريف إلى وقت آخـر ؛ بينما تستبدل كوثر ثوبها القديم المفزر بآخر جديد إحتوى مفاتن جسدها الرائع بمتعة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *1 : أهوار الطـار : مستنقعات ، والطار : قصبة ريفية في تلك المستنقعات . * 2 : طاريك : الذكـر الطيّب في اللهجة العامية العراقية .
#حسن_مروح_جبر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|