1 ـ شرعة حقوق الإنسان المقتولة:
تنطوي موضوعة حقوق الإنسان، التي بلورتها النظم الفكرية الغربة المعاصرة، على التباسات عديدة، عندما ينتقل النقاش من مهمة توصيف واستعراض المبادئ الحقوقية التي حوتها النصوص المتعلقة بهذه الحقوق، الى مهمة اكتشاف الأسس العقائدية والأجتماعية المولدة لها. فإعلان حقوق الاستقلال الاميركي، في 4 تموز عام 1776، ووثيقة ((اعلان حقوق الإنسان))، التي أقرتها ((الجمعية التأسيسية)) للثورة الفرنسية، في 26 آب 1789 م… وصولا الى ((الاعلان العالمي لحقوق الإنسان))، الذي أقرته الامم المتحدة في 10 ايلول 1948. لم تكن حدثاً تاريخياً مستقلاً عن طبيعة التحولات والأحداث التي مرت بها الدول الغربية الحديثة، والتي كانت في أساس ما صيغ من وثائق وتشريفات.
ولعل اولى هذه الالتباسات، حضور مفهوم الإنسان في الفكر الغربي كقضية إنسانية عالمية متحررة من شتى الالتزامات والقيود الثقافية والاقوامية والسياسية، وهذا ما يضفي على اعلان حقوق الانسان المعاصر بعداً انعتاقياً يلامس عن قرب هموم وطموحات الانسان المعاصر المثقل بتبعات ما أرسته النظم الغربية المعاصرة من وقائع والتزامات، ونظم ضابطة ومقيدة لحركته، سواء ضمن مدار حركته الوجودية الذاتية او المجتمعية، وصولاً الى المكانة التي يحتلها ضمن عالم الموجودات التي ترتبط واياها بأكثر من وشيجة يحار الفكر المعاصر، في التقاطه، لمضامين أبعادها ودلالاتها. وذلك بسبب التعقيدات التي تمخضت عنها التجربة التاريخية للأمم والشعوب، التي انجذبت بهذا الحد او ذلك الى مناخات النسق الغربي الحديث.
ولكن المحصلة التاريخية لعلاقة النسق الغربي الحديث بما يتجاوز حدود ((مدنيته)) منذ عصر الاكتشافات البحرية، مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي، قد تكشفت عن توجهات معتقدية وثقافية، واكبتها ممارسات سياسية واقتصادية وعسكرية، أحالت شعوب العالم بأسره الى مادة صماء، تتلقفها أذرع النظام الأخطبوطي الغربي، لتلتهمها، دون أيّ وازع أو حدٍّ رادع. فقد أخرجت هذه الشعوب من مدار الوجود الإنساني، الى مدار الموجودات الطبيعية المسخرة لحياة ونمو المدنية الغربية.
ولم تغب عن مراكز قرار النظم الغربية، في كل مرحلة من مراحل تطورها التاريخية، ضرورة تطوير مقالة فكرية خاصة، لتحضر كعنوان انساني يسوغ ما تقوم به هذه النظم من إرساء سياسات ظالمة، لعلها بذلك تجد عنواناً آخراً لها، يوازن عنوانها التاريخي المعاش والمثقل دائماً بدماء الشعوب التي اجتاحتها فكراً ووجوداً.
فتحت عنوان تصوير المدنية الأوربية، تمت عملية استئصال وجود الحضارات الهندية الامريكية، وتهشيم الشعوب الافريقية والاسيوية وادخالها في زمن الرق القاري الشامل.
وفي مرحلة لاحقة، وجد النسق الغربي الحديث في خطاب نشر التقدم والنظام الجديد والعقلانية، ستاراً كثيفاً يحجب بحمل معاركه الاستعمارية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وذلك بما يخدم نشوء وترسخ سلطة المصنع الأوروبي، ((آلة العصر)).
وفي القرن العشرين، تأتي شرعة حقوق الإنسان العالمية، لتغدو لغة تبريرية جديدة، يغسل النسق الغربي بواسطتها يديه، مما ارتكبه بحق البشرية من جرائم لا حصر لها، كانت الحرب العالمية الاولى والثانية، أدلة كافية، لتبيان ما بلغه هذا النظام من عتو وظلم مدمرين.
ان شرعة حقوق الانسان ـ رغم ما تحمله من خصوصية وتجديد في سياق ـ تشكل أبنية الفكر الغربي الحديث، الا أنها تحضر على المستوى العالمي، لغة حقوقية مفرغة من أي مضمون فعلي، وجل ما يريده صانعوها، ان تنهض بدور فعال في حجب وتغطية الأبعاد العميقة لاختلالات النظم الغربية، والمساهمة في اضفاء طابع توازني على هذا النظام، لعل في ذلك ما يساعد على تسويق سياساته الاستعبادية الجديدة عبر تغليف مضامينها الفعلية بشارات حقوق الإنسان المختلفة.
أضف الى ذلك، الدور الذي تلعبه شرعة الحقوق، كواجهة من واجهات النظام، في اعاقة حركة انعتاق الشعوب من اسر السجون المعتقدية والفلسفية الملازمة لهذا النظام منذ نشأته. فكلما تمكنت الأمم والمجتمعات المقهورة من كشف المضامين السلبية لواجهات النظام الفكرية، بادر الى انتاج سلع فكرية جديدة، لتنهض بالدور الذي سبق وانجزته الواجهات الفكرية القديمة.
ان الدور الذي تنهض به الواجهات الفكرية للنظام الغربي، لا يقتصر على حدود التبرير الفكري، بل يتعدى ذلك، ليتحول الى اداة ارهابية وقاهرة، بلحاظ الحضور المعتقدي والثقافي المقام لشعوب العالم وجماعاته المقهورة والمهشمة. فعلى امتداد المساحة الزمنية، التي توالت على أرضها المواجهات المختلفة بين ارادة الشعوب في حفظ كيانها الحضاري والاجتماعي، وبين توجهات النظام الغربي الساعي الى تدمير بنى هذه الشعوب تمهيداً لابتلاعها، تحولت ((اللغة العقلانية)) العالمية، التي غلف بها النظام الغربي، استراتيجيته العامة ومتفرعاتها السياسية المختلفة، الى قوة تدميرية فاعلة، يشتد حضورها على مسرح الصراع، كلما تعمقت أبعاد المواجهة الشاملة بين الطرفين.
ان مجموعة الأدوار التي تنهض بها الأبنية الثقافية والمعتقدية لتنظم التسلط المعاصر على المستوى العالمي، لا تكشف لنا الا عن وظيفة الى جانب وظائف أخرى، نجد تعبيراً عنها، داخل بني النظام، ضمن اطار الدولة الغربية.
على هذا المستوى، تحضر اللغة الانسانية العالمية، لتؤمن للدولة الناشئة ولجمهورها نوعاً من الوحدة لشخصية فصامية تعيش تجاذباً حاداً بين قطبين: القطب الأول يتعلق ببناء مؤسسات القوة الذاتية وتطورها غير المحدود، والقطب الثاني الملازم للقطب الأول، الذي يرى في نفي الآخر وتدميره شرطاً تكوينياً من شروط بناء القوى الذاتية ونشر سيطرتها على المستوى العالمي. هذه الوضعية الاختلالية تحتاج الى معادل سوي، وان كان متوهماً، تتكفل أبنية الفكر المختلفة ببنائه، كي تغطي الجانب المظلم والظالم من الشخصية التاريخية الفعلية للدولة الناشئة، والقوى الاجتماعية والسياسية الملحقة بها. وهذا ما يسقط أية امكانية لرؤية ما اقترفته الشخصية الغربية بحق الآخرين وبحق نفسها في التحليل الأخير، من كوارث كبرى. ولتحافظ من جهة ثانية، على هياكل قوتها الداخلية التي تزداد منعةً وتغدو حصناً منيعاً لانسان هذه المدنية الغاصبة.
2 ـ أزمة فكر أم أزمة نظام:
ان المدخل الثاني لفهم ما تنطوي عليه شرعة حقوق الانسان الغربية من اختلال، يجدر بنا ان نبحث عنه فيما وراء حدود الواجهات الفكرية والمعتقدية للنظام الغربي الحديث، سواء ما يسوق من سلعها على المستوى لعالمي، او ما يجري تداوله داخل اسوار مدنيته الظالمة. فالمسألة تتجاوز معالم الرد الحقوقي المجرد، لتطاول أسس التجربة التاريخية وما ترتب عليها من معطيات وثوابت ناظمة لمنطق اشتغال النظم السياسية والاجتماعية الحديثة. ففي هذا الحقل، نعثر على أمهات المسألة المطروحة للنقاش. فاذا كانت شرعة حقوق الانسان، تبرز مكانة الانسان الحقوقية والمجردة، لتغيب دور النسق الحاضن لهذا لانسان فهل معنى ذلك، ان الانسان الغربي كان غائباً عن المشروع الأوروبي طوال الحقبة التاريخية السابقة على اعلان شرعة حقوق الانسان أم اننا في الواقع أمام تجربة تاريخية متكاملة، كان لها خياراتها المخصوصة منذ البداية، والتي يتولى انجازها اجماع القوى الفاعلة، ضمن مدارات الأمة والدولة والاجتماع المدني. وبالتالي كان لهذه التجربة منذ نشأتها، انسانها التاريخي مرتكز انشطة الامة والدولة الناشئة.
ضمن هذا السياق، يمكن ان تشكل شرعة حقوق الانسان، مصدر غواية وتضليل فهي من جهة تقدم نفسها، وكأنها تأسيس جديد لخيارات النسق الغربي، باتجاه احداث قطيعة فرعية مع التجربة السابقة التي غيبت دور الانسان ومكانته الوجودية الأصيلة. وكأنها بذلك تفتح باباً جديداً للبشرية، يختلف اختلافاً جذرياً عما أرسته التجربة الاستعمارية السابقة من تشويهات عميقة، وبالتالي فان على شعوب العالم وأممه المقهورة أن تتخذ من هذه الشرعة غطاء لها في سعيها للانعتاق والتحرر من الواقع المرير الذي صنعه أصحاب الشرعة نفسها.
ان أصحاب هذا الخيار الموهوم، يوقعهم في وضعية من يخسر نصف الحرب قبل ان يباشرها، وذلك باحالة الظالم الى قاضٍ بالعدل. وهذا ما يحرره من كل الديون التاريخية المتراكمة في ذمته، على حساب من نهبهم وقهرهم واستتبعهم طيلة قرون خلت وكأن الانسان الغربي طوال هذه المرحلة كان سجينا في سجون النظام، او كان الانسان الغربي المعاصر يطرح على نفسه امكانية التخلي عن كل ماروثته اياه، التجربة الاستعمارية السابقة، من عناصر قوة ومنعة تبدو جلية على مستوى أبنية أقل ما يقال فيها، ان الفواصل بينها وبين مستويات المعيشة للشعوب المستتبعة ذات طابع نوعي.
الغواية الاخرى التي يمكن ان يقع بها الانسان، تمكن في طرح السؤال التالي: لماذا تأخر النسق الغربي قروناً طويلة حتى ينجز شرعة حقوق الانسان؟ولماذا أحال هذه الشرعة الى هدف انساني عام يطرح على الآخرين التعاون معه لجعله موضع تطبيق وتنفيذ، في حين ان المجتمعات البشرية الأخرى قد سبقته بقرون في تعاملها مع المسألة المطروحة؟ ألا يعني ذلك، ان الأسس الثقافية للتجارب غير الأوربية متقدمة بل متفوقة على ركائز الحضارة الغربية المعاصرة؟ ناهيك عما يمكن ان يطرحه المسلم، في استحضاره التجربة الاسلامية التاريخية، من معطيات ووقائع أكيدة تنبذ المنطق الغربي المعاصر، ليس فقط على مستوى تطبيقها التاريخي، بل يجد المسلم في القرآن الكريم وسنة الرسول، وفي التجربة التاريخية اللاحقة، شواهد لا تحصى، عما بلغته دورة الاجتماع الاسلامي من وعي لمكانة الانسان الوجودية وما يتفرع عنها من انظمة تشريعية تصون هذا الوجود وترعاه في تحقيق غاياته الكبرى.
ان سوق التساؤلات على النحو المذكور، يوقع الانسان في فخ الاقرار بأصالة وجدية ما توصل اليه النسق الغربي المعاصر من تصورات فكرية ومذهبية وان أتت متأخرة، وهذا ما يجعل من هذا النسق منافساً له شرعيته الثابتة، في مواجهة ما يطرحه المسلم من تصورات فكرية، خاصة عندما ينظر الى واقع أمته، وتظهر الهوة الكبيرة، الفاصلة بين عنوانه العقائدي ومعادله التاريخي، وبين ما يتخبط فيه من مشاكل وازمات تطل عليه من شتى مجاري حياته الفردية منها والجماعية، هذه الهوة التي تبقي الباب مفتوحاً أمام سياسات النسق الغربي الحديث للولوج الى الداخل واحتلال نقاط الضعف والتفكك المنتشرة في ثنايا الاجتماع الاسلامي القائم.
هذه الوضعية التاريخية المعقدة، لا يمكن للتيار الفكري الاسلامي ان يواجهها، عبر استحضار المنظومة العقائدية الاسلامية استحضاراً ثقافياً، كي توازن الابنية الثقافية الوافدة. ففي ذلك، تبسيط للمعظلة المطروحة، ونقل لها من حقلها الفعلي حيث تتحول العلاقات والصراعات الحية والفاعلة في قلب الزمن الاجتماعي، الى حقل نظري بارد لا يفي بحاجات الصراع القائم. فاذا كان النسق الغربي الحديث قد صاغ منظومة حقوق الانسان منذ قرنين، فليس التحدي المطروح على المسلمين، يجد جواباً له فقط في اعادة استحضار المنظومة العقائدية الاسلامية ومعادلها التاريخي لموازنة ما يطرحه الغرب من تحديات فكرية وثقافية. ففي ذلك حرف للرؤية الاسلامية عن مواجهة التحدي الفعلي.
ففي حدود المسألة المعالجة، لابد من صياغة الأسئلة التالية: ما هي الاُسس التي تشكل الاعمدة الركنية والثابتة للنسق الغربي الحديث؟ ثم كيف بلورت هذه الاُسس تجسداتها المختلفة على مستوى حركة الاجتماع الغربي المعاصر من جهة، وعلى مستوى حركة التيارات المنسابة في رحم هذا الاجتماع من جهة ثانية؟. وذلك بغية تعيين الآفاق المعتقدية والفكرية التي رسمت للانسان الاوربي خطوط مساره وأشكال مشاركته الايجابية في بناء المشروع الغربي
المعاصر.
ان معالجة هذه الأسئلة، هي التي تسمح لنا بتبيان موقع شرعة حقوق الانسان من المشروع، وهل أتت فعلا بشيء جديد، أم كانت احدى تعبيرات النظام القائم في طور جديد من أطوار حراكه التاريخي؟.
بتركيز شديد، لابد للأسئلة المروحة من التعامل مع الركائز الأساسية للنسق الغربي الحديث الذي بدأ بتلمس طريقه مع بدايات القرن السادس عشر الميلادي حيث شكلت مهمة تشكيل الأمة ـ الدولة، على أيدي الملكية المطلقة المتحالفة مع طبقة التجار ـ القراصنة، العنوان الجديد للواقع الاوربي، في مواجهة التجمعات الاقطاعية الآخذة بالتفكك. لقد شكلت هذه المحطة الأساسية من تاريخ اوروبا، عنوان انعتاق وتحرر، شاركت في بلوغها القاعدة الشعبية منقادة وراء مشروع الدولة الملكية المطلقة. هذه الدولة التي وجدت فيما تنجزه أساطيلها وراء البحار من عمليات نهب واستئصال لشعوب وحضارات كبرى، متنفساً لها وقوة لتدعيم قواعد سلطتها الداخلية، واكتساب شرعية أكيدة. لقد قادت الملكية المطلقة الشعوب الأوربية، تحت راية غزو العالم وتفتيته وتحويله الى اشلاء تقتات منها الدولة ـ الامة الناشئة، رامية بفضلاتها الى اكثر الطبقات انسحاقا في الأمم الاوربية الوليدة. حتى ان هذه الطبقات المسحوقة، شكلت المادة البشرية لجيوش الغزو في قارات أمريكا وأفريقيا وآسيا.
فالمواطن الاوربي، ما ان يضع قدميه خارج حدود دولته، حتى يصبح قوة وحشية لاضباط لها، ويحق لها ان تفعل ماتشاء لتروي بذلك كافة الاحباطات التي تخترق بنيان شخصيتها داخل حدود دولتها الملكية القاهرة لها. فما قامت به الجيوش الأوربية طوال الفترة التاريخية الممتدة بين القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر، من عمليات ابادة وافناء لعشرات الملايين من الأنفس البشرية، وما اعتمدته من أساليب وطرق مواجهة، ينطوي على معان كثيرة كاشفة للدور الذي نهضت به الشعوب الاوربية في تلك المرحلة من التاريخ. وهذا ما يحتاج الى وقفة طويلة، لاكتشاف مدلولاته وآثاره على واقع البشرية المعاصر.
اذاً نحن أمام معادلة تاريخية دقيقة، مكنت أوروبا من الانتقال من موقع مهمش على المستوى العالمي، الى موقع المهيمن والمسيطر بل المتحكم بأقدار العالم أجمع. فتوحيد الشعوب الاوربية وصهرها ضمن بوتقة الأمة ـ القومية، وفق أساليب الملكية القاهرة، كان يجد متنفساً له فيما وفرته الاجتياحات في الخارج من صمامات أمان وفيرة، لشتى مستويات الاجتماع الاوروبي.
ان هذا التكوين الفصامي للدولة القومية، لم يغيب دور الانسان الأوربي، بل جعل من عنوان مصلحة الامة، عنواناً قائدا وموجها له، وعلى هذا الاساس اطلق العنان له يتخطى حدود الدولة ـ الأمة الناشئة ليعاد في مرحلة لاحقة توظيف كافة انجازاته التاريخية بما يخدم نشوء وتركز ثوابت الدولة ـ الأمة الناشئة، حاضنة حقوق جميع طبقات الأمة. فشرعة حقوق الانسان الأوربي في تلك المرحلة، كانت تحضر في طي شرعة حقوق الأمة، وتدعم ركائزها المختلفة، نازعة بذلك حق الحياة والوجود عن شعوب العالم قاطبة.
ما يمكن ان نلحظه هنا ايضاً، ان هذه المعادلة التكوينية الاختلالية للدولة الأوربية الناشئة، لم تكن معطى تاريخياً غير مدرك. فقد واكبت هذه النشأة واحتضنتها مرتكزات عقائدية وفكرية داخل المسيحية الغربية نفسها. فعلى سبيل المثال، قدمت البروتستانتية منذ القرن السادس عشر، نموذجاً فكرياً مسلكياً معبراً عن هذه المعادلة. وذلك عبر ما صاغته من موضوعات عقائدية وسياسية، تحمل المعادلة التكوينية الاختلالية نفسها. حيث عكفت البروتستانتية على بلورة تصور عقائدي، يفصل فصلاً كاملاً بين مملكة الأرض ومملكة السماء، ذلك تحت شعار مواجهة الكنيسة الفاسدة التي أعطت لنفسها حق التوسط بين الانسان وخالقه. ولكن ذلك، لم يمنع من تحول البروتستانتية الى أساس عقائدي فكري لمشروع الدولة الملكية القاهرة، الآخذ بالتشكل في مملكة الأرض، في حين على الانسان المسيحي ان ينسحب من هذه المملكة، كعنوان أصيل، ليتقبل منافع تبعيته الكاملة للدولة الملكية، وذلك ثمناً لخطيئته الأصلية من جهة، وعنواناً يظهر من جهة ثانية لانقاذ روحه التي تجد حضورها الكامل في مملكة السماء. في عمق هذه المعادلة، كانت البروتستانتية عنواناً عقائدياً وسياسياً فاعلاً، في تأمين توعية كاملة لمشروع الدولة الملكية القاهرة، وفي توحيد فئات المجتمع المسيحي الذي بدء هذا المشروع ومده بأسباب القوة الشعبية.
وهذا ما جعل من شخص الملك عنواناً لتجسيد إرادة الشعب.
ان هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ اوروبا، والممتدة بين القرن السادس عشر والثامن عشر، رسمت المعادلات التكوينية الثابتة للنسق الغربي الحديث، القائم على مبدأ مركزة القوة في الداخل وتوحيد الشعب ضمن دائرة أثنية وثقافية محددة، في سياق عملية تاريخية عالمية، تستهدف تفكيك عرى الحضارات العالمية وتصفية وجودها البشري والثقافي والحاقها بمراكز القوة الناشئة، هذه المعادلة التكوينية، لم تؤد الى تغييب الانسان الأوربي، بل الى اشتداد حضوره العدواني في الخارج، والمدجن في الداخل.
ولم تنطوي العقود الأخيرة للقرن الثامن عشر، الا وكانت خارطة العالم القديم قد عيد رسمها من جديد، وفق امكانيات ومتطالبات نشوء الدولة الأوربية الحديثة. هذه الدولة التي أصبحت من المتانة والثبات، لدرجة تمكنت فيها قوى المجتمع الفتية والتي ولدت في سياق المرحلة السابقة من فك التحالف التاريخي مع الأسر الملكية الحاكمة والاطاحة بها، دون المساس بأي من المكتسباب التي حققها هذا التحالف التاريخي… من هنا لم يكن إعلان الحقوق الامريكية عام 1787م إلا تعبيراً عن اشتداد ساعد القوى السياسية والاقتصادية الفتية في شمال اميركا وركونها، الى أن مؤسسات الدولة الناشئة أصبحت من المناعة بحيث تستطيع ان تستكمل شروط توحيد الأمة الامريكية واستقلالها عن التاج البريطاني. ان شرعة الحقوق الاميركية، التي جرى تسويقها في القارة الأوربية على أنها سر الحريات لم تكن الا عنواناً حقوقياً لأوليات اشتغال مؤسسات الدولة القومية الناشئة.
كذلك الأمر فيما كانت تنطوي عليه وقائع الثورة الفرنسية عام 1789م، حيث أصبحت الأمة هي المرتكز الأساسي السابق على كل فعل سياسي أو تشريعي، حتى غدت الأمة، بما هي انجاز تاريخي كبير مرتكزاً اكثر ثباتاً وحيوية، من الأسرة الملكية التي تجاوزتها التطورات التاريخية التي تمخضت عنها التجربة السابقة. ضمن هذا الاطار، لم تكن الثورة الفرنسية خروجاً على المعادلة التكوينية للنسق الغربي الحديث، بل تحولاً داخلياً لصالح القوى السياسية والاقتصادية التي تقود الأمة ضمن حدود المعادلة التكوينية التاريخية. وبهذا لم تكن شرعة حقوق الانسان الا عنواناً تشريعياً يضفي على القوى الجديدة شرعيتها التاريخية. ويوفر لها لغة عالمية مفتقدة. فمن يتتبع الاحداث التي توالت على مستوى القارة الأوربية اثر الثورة الفرنسية، يدرك جيداً، ان الثورة الفرنسية كانت مدخلاً لاشتداد النزعة القومية المرتبطة بأرض معينة وبثقافة وأتينة تطرح تمايزها عن الاخر كعنوان قائد.
وهذه النزعة لم تقتصر على دولة أوربية دون أخرى، بل شملت القارة الاُوربية بأسرها. ووجدت تعبيرها الأقوى الى المسرح العالمي عبر سياسة التنافس على ايجاد حقل استعباد خارجي، خاص بكل دولة من الدول من الدول الأوربية.
ولعل الحالة الالمانية، المحرومة تاريخياً من مدى حيوي خارجي، يؤمن متطلبات ثورتها الصناعية، يعتبر خير كاشف لأوليات العميقةّ التي تتحكم بالقرار السياسي للدول القومية الاوربية. فعند ما يركز فيخته (1800م)، علىنظرية لدولة التجارية المغلقة، كان يرى من ذلك المدخل التاريخي لصهر الامارات الألمانية وتنظيم وضعيتها الاقتصادية، بما يدفع قوة الامة الالمانية الى وضعية موازية لوضعية الدولة الفرنسية والبريطانية.
ان تخلف المانيا عن انجاز مشروع دولتها القومية، دفع الفكر الالماني الى تقديم تصور يجعل من موضوع الأمة الألمانية شأناً مطلقاً وبالتالي مهيمناً على كافة الموضوعات الأخرى، بما فيها مكانة الانسان في المجتمع الالماني. وكان من الطبيعي ان تستكمل هذه الصورة نفسها مع مرحلة لاحقة على يد راتزل (1844 ـ 1904م)، فيما تصوره من كون عظمة المانيا تتطلب مدىً حيوياً يتناسب وهذه العظمة.
ان بروز النزعة القومية العنصرية، التي تجعل من مصالح الدولة القومية عنواناً مطلقاً، لا تغيب الفرد والمجتمع المدني، الا لتعيد استحضاره بقوة عندما تنطلق لتنفيذ سياستها القومية المنطوية بالضرورة على إيجاد حقل استعباد خارجي خاص بها.
ان المتغير القومي في الدولة الصناعية الحديثة لم يكن تعبيراً عن مرحلة تاريخية محددة من تاريخ الدولة الاوربية الحديثة، كما رأت الماركسية لاحقاً، حيث ربطت بين هذه النزعة وبين المشروع السياسي للطبقة البرجوازية، بل تحولت القومية الى عنصر تكويني من عناصر الدولة الحديثة. وعلى هذا الأساس نلحظ ان التيار السياسي الماركسي، لاحقا، أعيد ضبطه ضمن المعادلة القومية لكل دولة حيث نجد كافة التيارات السياسية والفكرية تتبارى في تقديم نفسها على أنها الخادم الوفي للمصلحة القومية العليا.
وهذا ما سرع عملية انخراط التيار الشيوعي ضمن آلية اشتغال القرار السياسي للدولة الغربية وامتداداته على مستوى التوجيهات الاستعمارية العالمية. ان الحربين العالميتين الاولى والثانية كانتا تعبيراً صريحاً عن طبيعة التيارات العميقة التي تخترق بنى السياسة والاقتصاد والفكر في الدولة الغربية الحديثة.
نخلص الى القول، بأن كافة التيارات الفكرية والسياسية التي يحتضنها النسق الغربي الحديث، تتحكم برؤيتها لمجتمعها ولإنسانها وللمجتمعات البشرية قاطبة جملة من المرتكزات الثابتة، اليها ترجع في معالجة أية قضية طارئة. فنحن أمام بنيان عقائدي اختلالي ـ اشراكي، ينظر الى العالم على أنه مجموعة عناصر مبعثرة، تحكمها الصراعات النافية لبعضها البعض، والوحدة فيما بين هذه العناصر، شأن لاحق ينبري لتحقيقه عنصر من هذه العناصر، لما ينطوي عليه من مواصفات قوة وتفوق، ولهذا كان على الفكر الأوربي على الدوام كي يبني صورة عقلانية متماسكة عن الواقع، ان يجهد لانتزاع عنصر من هذه العناصر التي تزخر بها حركة الوجود البشري، محيلاً اياها الى معطى مطلق قادر على فرض الوحدة، بما يملكه من قوة قاهرة. وهذا ما يجد تعبيراً عنه في كافة التيارات الفكرية والمعتقدية التي واكبت مسار تشكل النسق الغربي الحديث.
فالكنيسة المسحية الغربية، تقطع مع أصول التوحيد، لتتبنى مقولة ثنائية مملكة الأرض والسماء، فاسحةً الطريق بذلك امام مشروع الدولة الملكية القاهرة ان تعيد تشكيل الواقع المجتمعي وفق ما يناسب مشروعها التاريخي هذا، دون اية ضوابط أو حدود. والتيارات العلمانية اللاحقة تقطع مع مؤسسة الكنيسة لتستحضر منطقها نفسه، فالهيكلية تحيل الدولة الى عنوان مطلق بل غاية التاريخ البشري، (وفيخته) يحيل مصلحة الأمة المرتبطة باطار جغرافي وبشري محدد الى عنوان مطلق ومتفوق، (ونيتشه) ينتزع الانسان من متواليات الزمن ليعيد استحضاره الهاً متجسداً. و (ماركس) يجعل من دكتاتورية البروليتاريا خاتمة التاريخ البشري المتجزئ وفاتحة العصر السعيد…
ان هذه المرتكزات المعتقدية والفلسفية للنسق الغربي الحديث تجد تعبيراً لها في كل مبنى من مباني أممها ودولها وطبقاتها وأفرادها.
في ظل هذه الأواليات العميقة المتحكمة ببنيان النسق الغربي الحديث، يستحيل على اية محاولة تجديدية من داخل النظام نفسه، ان تمضي بعيداً عن حقل تحكم النسق، اذ سرعان ما تتلقفها دفاعات النظام الأساسية، عاملة على تدجينها وتوظيفها بما يخدم استمرارية منطق هذا النظام وتعبيراته المختلفة. وكأن كل تيار تجديدي يولد من رحم النظام،مآله ان يتحول الى قوة دفع جديدة له. ألم يكن هذا هو مصير كافة التيارات الفكرية والسياسية التي نبتت في تربة المناخ العقائدي والثقافي والسياسي للنسق الغربي الحديث؟
تلك هي باختصارٍ شديد بعض اوجه المسارات المتحكمة بكافة ما أنتجه النسق الغربي الحديث من شرائع ومذاهب فكرية وسياسية مختلفة، ولا تعتبر شرعة حقوق الانسان إلا إحدى تعبيراتها التاريخية، والتي لم تكن الاولى ولا الأخيرة من عمر النظام الغربي المعاصر. ففي كل حقبة من تاريخ النظام سنكون أمام واجهات دفاعية جديدة، تعجز الشعوب والأمم المغلوبة على امرها عن تتبع مفرداتها وما تنطوي عليه من دلالات ووظائف مدمرة، إلاّ بعد ان تدفع أثماناً عالية من دمها وعرقها وقيمتها وثقافتها…
فعندما تعرفت الدولة الاوربية في أواخر القرون الوسطى على مادة البارود أحالته مباشرة الى سلاح عسكري فتاك، مكنها من إبادة الحضارات الهندية، وتهشيم أفريقيا وآسيا.. وعندما اكتشف علماء أوروبا الآلة البخارية في أواخر القرو الثامن عشر، اردفوا أساطيلهم البحرية بقوة جديدة، جعلتهم قادرين على فرض الحصار البحري على كافة الشعوب المقاومة لمشاريعهم الاستعمارية.. وعندما أطلقوا ثورتهم الصناعية في القرن التاسع عشر اغرقوا أسواق العالم بسلعهم التي كان لها فعل المدفع في تفكيك وتدمير الدورات الاقتصادية التاريخية لشعوب العالم المستعمر.
وعندما اكتشفوا علوم الذرة، بادروا الى صناعة القنبلة الذرية وجعلوها سالحاً استراتيجياً وتكتيكياً فعالاً في تفتيت ارادة الشعوب وقهرها، ناهيك عن الاختلالات التي أحدثتها الصناعة الذرية على مستوى توازنات الطبيعة والبيئة وما لذلك من آثار كوارثية على توازن الدورة الحياتية للانسان المعاصر.. ان علوم الذرة والهيدروجين وعلوم التحكم الحديثة وعلوم الالكترونيات، أضحت قوة عمياء تتخطى آثارها التاريخية المدمرة، حدود نظم الاستغلال والنهب التي عرفها النسق الغربي الحديث في مراحل تاريخية سابقة، لتفتح الباب من جديد امام نظم جديدة من الأخطار الوجودية سواء على مستوى حياة الافراد والجماعات، او على مستوى علاقة الانسان بالطبيعة التي تحتضن مجرى حياته على اختلاف عناوينها المعروفة.
إذاً، هنا خط تصاعدي ـ في تأكيد الأسس الاختلالية ـ الاشراكية للنسق الغربي الحديث ـ يؤكد يوماً بعد يوم هزال اللغة العقلانية والحقوقية الباردة التي يحاول عبرها هذا النسق ان يجد مسوغات لواقعه المنفلت من أي وازع عقائدي او فلسفي او اخلاقي.
لكل هذه الأسباب، تغدو لغة التعاطي ـ مع وقائع التاريخ المعاصر، بلغة الحقوق والواجبات تبسيطاً مبالغاً فيه لطبيعة المخاطر المحدقة بالانسانية المعاصرة، والتي تجد تعبيراً عنها في شتى تعبيرات الحياة البشرية، فكراً واقتصاداً وسياسة…
3 ـ رسالة التوحيد في مواجهة اختلالات العصر:
ان المجتمعات البشرية اليوم احوج ما تكون للاستظلال من جديد تحت راية عقيدة التوحيد وما تنطوي عليه من رؤية توحيدية للعالم تعيد وضع الأمور في انصبتها التي فطرت عليها، وتخرج الانسان من جحيم الوثنية المعاصرة.
يرى الشهيد مطهري في معرض توضيحه لمدلولات احدى مراتب التوحيد أن انسانية الانسان لا تتحقق ((الا بعد معرفة الله معرفة حقيقية، لان معرفة الانسان ليست منفصلة عنه، وانما هي ارفع واثمن شيءً في وجوده. فبمقدار ما يعرف الانسان من الوجود ونظامه ومبدئه فان انسانيته ـ التي نصفها العلم والمعرفة ـ تتحقق بنفس ذلك المقدار)). ويضيف قائلا: ((وعلى هذا فالتوحيد العملي أو التوحيد في العبادة يعني طاعة الله وحده والاتجاه اليه في حركتنا واتخاذه قبلة ومثالاً لأرواحنا، والاعراض عن كل مطاع آخر وعن أية جهة اخرى وقبلة اخرى ومثال آخر)).
((قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئاً)).
أن عقيدة التوحيد وما يتفرع عنها من رؤية توحيدية للعالم هي التي تسمح لنا بكشف الخلل العقائدي المتحكم ببنى النسق الغربي الحديث، وتعبيراته التاريخية المختلفة، سواء المتعلق منها بحياة الجماعة او بمكانة الأفراد وأدوارهم المخصوصة.
كما ان عقيدة التوحيد هي الركن المتين، الذي يعصم الرؤية الاسلامية في تعاملها مع ما تواجهه من قضايا وتحديات، من الوقوع في شراك ما تقدمه واجهات النسق الغربي الحديث من مذاهب وأفكار وشرائع، وذلك عبر ما توفره للشخصية الاسلامية من أبواب للولوج الى فضاء الشريعة الاسلامية التي أفردت لكل شأن من شؤون الحياة الفردية والجماعية، منظومة كاملة من المبادئ العليا والتشريعات التفصيلية التي تتكامل لتشكل نهجا شاملا. ويكفي للتدليل على هذه المسألة، ان نسترشد، برؤية اسلامية شديدة التركيز والوضوح حول قضية من أخطر القضايا التي عرفتها المجتمعات البشرية، الا وهي المال. يقول العلامة الطباطبائي في كتابه تفسير الميزان: ((إن المال لله ملكاً حقيقياً جعله قياماً ومعاشاً للمجتمع الانساني من غير ان يقفه على شخص دون شخص آخر وقفاً لا يتغير ولا يتبدل، وهبة تنسلب معها قدرة التصرف التشريعي ثم أذن في اختصاصهم بهذا الذي خوله المجتمع على طبق نسب مشرعة كالوراثة والحيازة والتجارة وغير ذلك وشرط لتصرفهم أموراً كالعقل والبلوغ وغير ذلك)). ويضيف قائلاً: والأصل الثابت الذي يراعي حالهُ وتتقدر به فروعه هو كون الجميع للجميع فإنما تراعى المصالح الخاصة على تقدير انخفاض المصلحة العامة التي تعود الى المجتمع وعدم المزاحمة، وأما مع المزاحمة والمفاوتة فالمقدم هو صلاح المجتمع من غير تردد ((خلق لكم ما في الارض جميعاً)).
ـ ((ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربة وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)).
ـ ((والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)).
ـ ((وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)).
ـ ((انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم)).
ان تطلع المسلم الى هذا الزاد القرآني، يولجه عوالم لا متناهية من الأبعاد والدلالات الكفيلة بأخذ يده على الصراط المستقيم، والتي يجد لها في سنة الرسول المطهرة وسيرة الائمة والصالحين،مصاديق لا حصر لها. كل ذلك بما يؤهله للانقياد قلباً وعقلاً الى الاعتقاد بأن ما يطرحه الدين الإسلامي من أحكام وتشريعات، هي بمثابة ((سنن يستدعيها الكون العام فلو اقيمت؛ أصلحت المجتمع وبلغت بالأفراد غايتها في الوجود وكماله المطلوب، ولو تركت وابطلت أفسدت العالم الانساني وزاحمت الكون العام في نظامه)).
إلا نجد فيما يمور به واقع البشرية المعاصر من فوضى مدمرة وضياع شديد، دليلاً على حجم الكوارث التي حلت بالانسان من جراء خروجه على دين الفطرة؟ ولكن السؤال الذي يحضر هنا هو: هل إن الاسلام في مواجهته لهذا الواقع، يحضر كمجموعة من التشريعات المبينة للحقوق والواجبات فقط، ام ان المسألة تتخطى ذلك، لتطال حركة انعتاق شاملة تخترقها عناوين المواجهة مع نظام عالمي ظالم من جهة، ومع واقع تاريخي تعيشه الشعوب الاسلامية، خالطت مساره، اكثر من انتكاسة، طالت بناء الفكرية والسياسية والاجتماعية العامة. بحيث تغدو عملية الانفتاح على النموذج التوحيدي ومعادله التاريخي، محطة أولى في سياق مواجهة ((الذات))، لتحريرها مما تعيشه من حالة ضمور وغفلة أسهمت، ولو من بعيد، في تمكين النسق الغربي الحديث من تحقيق جوانب أساسية من مشروع سيطرته العالمية.
الدكتور حسن الضيقة
الجامعة اللبنانية