ميشيل زهرة
الحوار المتمدن-العدد: 5369 - 2016 / 12 / 12 - 22:48
المحور:
الادب والفن
مؤلم أن يرحل آخر الأصدقاء الأنقياء.!!
( هذا ما أرسله لي صديقي على الفيس ، عبودي ، ابن خالتي ، كي أنشره على صفحتي بعد انقطاع النت ما يربو عن اسبوعين ..طالبا مني الاعتذار عن غيابه للصديقات ، و الأصدقاء ، بالنيابة عن شركة الاتصالات الفاشلة ، في المنطقة التي يقطن فيها ..و قد طلب مني أن أضع عنوانا لنصّه بعد تعديله . و أنا بدوري ، أقدم لكم أحرّ ، التحيات ، و المحبة جميعا . )
ستشعر ، إن حدث لك ذلك ، إن كائنا في داخلك قد مات ..! و إنك خسرت ما يدفع لبقائك . إذا كنت من النوع المُكتفي ، و القنوع . و خاصة إذا لم يكن لديك قدرة التلاؤم مع الهدم ، و البناء الجديد . حتى في العلاقات الاجتماعية . فما بالك ، و قد أدمنت صداقة الراحل صاحب الروح المرحة التي تنطوي على قهر ، و ضغط ، أهلك الجسد ، و الروح معا ..هو ذلك الشخص الذي أدمن السياسة ، و معارضة السلطة ، و لم يفلح في تقويم المعوجّ ، حين تساقط الرفاق واحدا تلو الآخر ..فأدمن الخمرة ، مع صديقه المتبقي من جيله بعد الحرب القذرة في سوريا.
كل ما يأسف عليه ، مُزن الصافي ، خلفه ، بعد رحيله عن هذا العالم المليء بالشرور ، و الدماء ، و الحرب ، حسب قناعته .. صديق حميم ، كان يقاسمه جلساته الخمرية على الشرفة المطلة على الشارع الرئيسي في البلدة . و ابنه الأقرب إليه .. و الذي يعقد عليه آمالا خيّرة ، تجعل روحه مطمئنة ، هانئة في دخول الظلمة الأبدية ، اللذيذة ، بعد ما نهش نور الحياة فؤاده ، و أودى به إلى النهايات المحتومة . فلا الماء متوفر ، و لا الكهرباء ، و لا الهاتف ، و لا شبكة النت التي كانت ملاذه الوحيد في التواصل مع هذا العالم . لذلك على غفلة ، صعقته الحياة بشظية قنبلة .. و أقفلت قلبه إلى الأبد .
كانا يجلسان دائما على شرفة بيت المرحوم المطلة على الشارع ، و يتحدثان ، و يشربان العرق ، و يدخنان النارجيلة بشراهة ، ويعيدان الذكريات التي تعطي الروح شحنة متابعة الحياة . يضحكان بصوت مسموع لكل المارة في الشارع الرئيسي للمدينة الصغيرة التي يقطنان بها ، و المقسومة إلى خندقين متصارعين . عندئذ يعقدان جلسات المحاكمة لجميع الذكور العابرين ، بعد أن يطيح الخمر بكل الحواجز ، إلا جدران النسيان التي تزداد ارتفاعا ، بين حاضر مؤلم ، وماض كان رحماً لهذا الحاضر الذي يعضّ الشعوب السورية حدّ الموت . لقد تناولت محكمتهما رجالات المؤسسات جميعهم في المدينة . فلم تفلت منهم مؤسسة واحدة ، إلا و قد خضعت للمحكمة الخمرية ، على الشرفة السكرى .
كانت أصوات الرصاص تعلو فوق كل الأصوات ..و الموت يخيم فوق المدينة كقدر همجيّ أحمق . و الدماء تلون الشفق السوري الممتد على طول الشاطيء الدامي للمتوسط . القذيفة التي سقطت قرب الشرفة السكرى .. و تشظّت ، كما تشظّى المجتمع السوري ، مزقت قلب الراحل مزن . و أطفأت ضحكته ، و بريق عينيه إلى الأبد..! و جرحت صديقه ، و ابنه .
في يوم الوفاة ، جاء صديقه الحميم مخمورا ، تفوح من أنفاسه رائحة العرق ، إلى صالة التعزية بالراحل . و بعد أن أدى الواجب التقليدي ، من كلمات مجاملة تُقال بهذه المناسبات .. و استوى في جلسته ، و شرب القهوة المرّة ، حتى انفجرت في داخله عاطفة مركبة ، و معقدة جدا .كأنها وصلت حدّها الأعظمي ، فانقلبت إلى ضدّها . تحولت إلى صوت أشبه ببكاء ، كما خيل للمُعزّين . فأشفقوا على الرجل . معتبرين أنه من أكثر المقربين إليه ، و أكثرهم حزنا . و من حقه أن يُعبّر عن آلامه ، و لوعة الفراق . و عندما اتضح أن الصديق الحميم ، للمرحوم ، و الذي يناديه أولاد صديقه الراحل : يا عمي .. و زوجته : يا أخي .! كان يضحك ضحكا فاضحا ، ليس من أدبيات صالات التعزية . أو الخيام المرفوعة بهكذا مناسبات . فصار محطّ أنظار الجميع ، و خاصة أولاد المرحوم ، و من يخصّه ، و الحاضرون الذين بدأت تغضّنات الغضب ، في وجوههم ، تنبيء برفض حضور الرجل الذي لم يحترم روح صديقه ، و مناسبة رحيله . ما عدا ابن الراحل الذي يفهم عمق علاقة الصديق بابيه . لأنه رفيق الشرفة غالبا . و كثيرا ما كان مُزن يُعبّر لصديقه عن مدى صلته بابنه الصغير قائلا : إن هذا الولد يا صديقي .. أشعر أنه أبي ، و أنا ابنه ..! يستوعبني هذا الولد ..و أشعر أنه أكثر نقاء مني ..و أكثر ذكاء ، و قدرة على التفسير ..إن مت يوما يا صديقي ..اعلم أنه سيكون وليا على عهدي . لذلك ..صادقه ..كن له نديما ، وندا .
كان الموقف مُحرجا لعبودي ، بعد انكشاف قهقهته ، لا بد أن في الأمر لغز ..لم يتضح إذا لم يقل الصديق شيئا يخرجه من ورطته أمام الحضور الذين أوشك بعضهم أن يرمي به خارجا ، لو لم يقف بكل شجاعة ، و حزن ، مختلط بابتسامة منكسرة مازالت على محياه ، و كأن صورة الراحل أمام ناظريه قائلا ، موجها الخطاب للجميع :
( يا سادة ..إن من مظاهر قلة الأدب أن يضحك المرء في مناسبة كهذه ، و أنا لم أفقد عقلي ، كي أفعلها ، و أنا ، كما تعلمون ، كنت صديقا ، و أخا للمرحوم ..و الجميع شاهدَ جلساتنا ، على الشرفة ، و ضحكاتنا المجلجلة ، التي ما كنا نبوح بسببها ، لو سئلنا عنه ..وحدنا من كان يعرف السبب ..و لا تستغربوا ، أني لو حكيت لكم عن ( المحكمة ) التي كنا نقيمها لرجال المدينة بكل مؤسساتها ، الذين يمرون ، راجلين ، أو في سياراتهم ، من أمامنا ، و أنتم منهم ، ومن المفترض انكم أمواتا .. ونحن نحتسي الخمرة ، و ندخن النارجيلة ، لانفجرتم ضحكاً مجلجلاً أيضاً ..و لغفرتم لي ضحكتي هذه ..هذا ، عدا عن أن المرحوم ، ترك في رقبتي وصية ، ألا أحزن عليه ..و ألا أبكيه ..بل قال لي بالحرف الواحد : إذا مت قبلك ..اجلس على الشرفة ذاتها ..و اشرب الخمرة مع ابني الصغير ، و دَخّن النارجيلة ، و استمر ، أنت وابني ، في محكمتنا التي أقمناها ..! هذا ما قاله لي أخي ، و صديقي الراحل الذي اقتطع شيئا من روحي برحيله ..لكن ما أضحكني يا سادة ، الآن .. أنكم محكومون في محكمتنا ، التي كنّا ، أنا و هو ، قضاتها ..! و قد أعدمناكم جميعا ..نعم جميعا لأنكم مذنبون بتهمم ما ..كنا نُحضّر لكم التهم حسب سلوك كل منكم ، و عمله ..فكل من استغل وظيفته ، أو ارتشى ، حتى ليرة واحدة ، أو فعل ما يتنافى مع الأخلاق الوطنية ..كنا نحاكمه ، و نشنقه .! كل من هو موجود في هذه التعزية هو بحكم المشنوق ، أو المرمي بالرصاص ..و أنتم تعرفون روح المرحوم المرحة ، و خياله الخصب ..فواحد نشنقه من خصيتيه ..فهل تخيلتم أنفسكم في هذا الوضع.؟؟؟..و آخر من رقبته . فهل شاهدتم مشنوقا و قد التوى فمه ، و مطّ لسانه ، و طال عنقه ههههههه..؟؟ حتى شنقنا في محكمتنا جميع ذكور هذه المدينة ، ما عدا الأطفال الذين تخيلنا : إنهم سيصنعون المستقبل .
لكن المضحك ، المبكي ، أننا شنقنا الجميع ، و لم يبق في المدينة إلاّنا ..ففكرنا على خلفية الخمرة التي تمكنت من انفلات الوعي : من سيشنق الآخر ..أنا أم هو ههههههه..؟؟ لأننا لو بقينا على قيد الحياة كلانا ، لاختلفنا على السلطة ..هههه .! و تخيلنا إن النساء ، اللواتي بقين ، يملأن المدينة ..و لم يبق من مخصب إلا واحد منّا نحن الإثنان ههههه ..! ألم يحتج العالم لنشء جديد أكثر نقاء ، و صفاء ..؟؟ يومذاك ..أذكر أننا اختلفنا بيننا ..و تخيل كل منا : إن صاحبه سيشنقه ..و سيطرت على كلينا عواطف مريرة ، غير مفهومة ..و دبّ الخلاف بيننا ، و تغيرت عواطفنا ، بسبب امتلاك العالم ، لمدّة أسبوع . و لم نلتق خلاله على الشرفة ..لو لم يطرق بابي صديقي ، السلام لروحه ، و يقول لي ضاحكا ضحكته الصاخبة ، بعينيه الطيبتين ، و وجنتيه الورديتين :
حتى لو أبقيتني يا صديقي ، دون أن تشنقني ، لن أزاحمك على شيء .. و لن يطلع من أمري ، مع النساء ، شيئا ..ستُعيد لوحدك إنتاج المدينة ، و المدنية أيضا..! فأنا أتنازل لك عن السلطة ، وعن كل الأرامل ..ههههههههههه..و لك الأمر سيدي ..! فقط ، لا تنسى ، اليوم عصرا ، أن تجلب معك لترا من العرق البلدي ..و الباقي ساتكفل به أنا ..و سوف نشرب كالعادة .. وندخن النارجيلة ..و نضحك بكل ما نستطيع من فرح . و سنشنق من نريد من السفلة ، و خونة الشعوب ، و نُرمّل النساء ..و الحياة ستفعل فعلها ..!!! فهل عرفتم يا سادة ، ما الذي أضحكني ..؟؟؟
عندئذ خرج الحضور عن المألوف . كان كل منهم يداري ضحكته ، و هو يتحسس عنقه ، المشنوقة افتراضيا ، في محكمة الشرفة الخمريّة ، التي رحل أحد قضاتها .
#ميشيل_زهرة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟